طبيب هجر الجراحة واحترف السياسة.. مقاوم وضع البندقية ودخل في صراع مع حزب الاستقلال. أول رئيس للبرلمان يعارض حالة الاستثناء ويقاطع الانتخابات. أمازيغي رفع لواء الدفاع عن القضية العربية الأولى.. عارض الحزب الواحد وتحالف مع جبهة اكديرة المناهضة للتعددية. خرج من القصر غاضبا ورجع وفي يده شجرة الإسلاميين التي زرعها وسط المؤسسات، حيث قدم خدمة للدولة بأن قلم أظافر إسلامييها... كل هذه العناوين وغيرها تصلح فصولا لكتابة حياة عبد الكريم الخطيب، أول جراح مغربي درس في الجزائر. وتقلب في كواليس الوزارة والزعامة والقرب والبعد عن السلطة. سيرة الخطيب تعكس سيرة تحولات مغرب ما بعد الاستقلال.. حركة مد وجزر قوية وسط النخب والقصر والأحزاب... البلاد تكتشف نفسها بعد رجة الاستعمار التي أخرجتها من القرون الوسطى إلى الزمن المعاصر... الخطيب نموذج لهذا البحث وذلك التقلب. كان واحدا من رموز المقاومة وجيش التحرير، ثم سكت على الطريقة التي صفي بها هذا الجيش. كان واحدا من المدافعين عن الملكية، ثم صار مغضوبا عليه من قبل الراحل الحسن الثاني عندما عارض فرض حالة الاستثناء سنة 1965 وحل البرلمان. وضع يده في يد المحجوبي أحرضان باسم الدفاع عن الأمازيغ في وجه حزب الاستقلال، لكنه سرعان ما ابتعد عن «الزايغ» تحت تأثير عاطفته الدينية. بعدما زار إيران الثورة الإسلامية في نهاية السبعينات، طلب لقاء مع الملك الراحل، ولما وقف بين يديه بعد طول غياب التمس من أمير المؤمنين الإذن بتأسيس حزب إسلامي يرفع راية الحرب على اليسار وعلى نار الشيوعية التي كانت تلهب حماس الطلبة في الجامعات. كان يعتقد أن حرب الملك ضد اليسار ستكفي لإقناعه بالحاجة إلى ورقة «الإخوان» لمجابهة ورقة «الرفاق»، كما فعل السادات في مصر، لكن الحسن الثاني غضب من الخطيب وطرده من القصر، وقال له: «اذهب وأنشئ زاوية»، الملك الراحل كان يعرف أن الشرعية الدينية كعكة لا تقبل الاقتسام. كيف يمكن لأمير المؤمنين أن يسمح لحزب إسلامي بالظهور في مملكة اختص الجالس فيها على العرش بأمور الدين والدنيا... مياه كثيرة مرت تحت الجسر قبل أن يُسمح للخطيب بأن يستضيف إخوان العثماني في حزبه في ما يشبه اللجوء السياسي، بعدما رفضت وزارة الداخلية منحه حزبا خاصا به وبعد أن وجد النظام صعوبة كبيرة في هضم الإسلاميين في زمن الانفتاح. كانت خطوة ذكية من الحسن الثاني ومن وزير داخليته إدريس البصري في أن يدخل الإسلاميون تحت خيمة الخطيب، وأن يتكفل هو بضمانهم لأنه ابن دار المخزن حتى وإن غضب عليه القصر في مرحلة من المراحل، وكذلك كان.. اشترط الخطيب على إسلاميي التوحيد والإصلاح ثلاثة شروط لدخول خيمة الحزب، أولها الاعتراف بإمارة المؤمنين، وثانيها نبذ العنف، وثالثها التشبث بالوحدة الترابية... المفارقة أن كفيل الإسلاميين لدى القصر وجد نفسه في عدد من المحطات أكثر راديكالية منهم، وخاصة اتجاه عبد الإله بنكيران ومواقفه من المشاركة في الانتخابات والحكومة بدون قيد أو شرط... عداء الخطيب لليسار، لأسباب دينية أكثر منها سياسية، دفعه إلى مناصرة القصر والسكوت عن العديد من المواقف والسياسات التي لم يكن متفقا معها. وخوفه من حزب الاستقلال دفعه إلى تأسيس حزب أمازيغي يتناقض مع ميولاته الدينية، وإهانة القصر له دفعته إلى التحالف مع «خصوم» الملك الراحل لرد الاعتبار لنفسه وتاريخه ... إنها فصول مثيرة في حياة شخص وفي حياة بلد مازال يتلمس طريقه نحو مخرج من المأزق...