بقلم: محمد حسنين هيكل كان تعبير الرجل الذى لا يعرفه هؤلاء الذين يظنون أنهم يعرفون عنه كل شىء حاضرا معى أحد أيام نوفمبر سنة 1998، وكنت فيه على موعد فى مؤسسة «هاربر كولينز» على مدخل الطريق 4 الخارج من لندن، متجها إلى «وندسور» و«أوكسفورد». وكان موعدى هناك لاجتماع يبحث قائمة خاصة بالكتب التى تنشرها المؤسسة مع بداية الألفية، وهى قائمة أعدتها مجموعة عمل من مديرى النشر فى الأقسام المختلفة ل«هاربر كولينز». وعلى غير ترتيب مسبق جاءت «چوانا» سكرتيرة المدير العام للمؤسسة ورئيس مجلس إدارتها «إيدى بل»، تدعونى إلى لقائه، ومشيت معها نحو مكتبه، وهو قريب من قاعة الاجتماعات التى كنا فيها، وتطل مثلها على الشرفة الدائرية لصحن المبنى، المغطاة بالنباتات المتسلقة تكسو كل جدرانها من الدور السادس إلى الدور الأرضى. ●●● وعندما دخلت مكتب «إيدى» كان أمامه ملف سميك مربوط بشريط محيط به يمسك أوراقه رزمة واحدة لا تنفرط. وقال «إيدى بل» وهو يشير إلى الملف: »لدينا مشكلة تصورنا أنك قد تستطيع مساعدتنا فى حلها، لأنها خاصة بالرئيس مبارك!». وراح «إيدى» يشرح المشكلة. »أحد الصحفيين الأمريكيين (ذكر اسمه)، عمل مراسلا لجريدته فى القاهرة عدة سنين، واقترح علينا أخيرا أن يكتب كتابا عن «مبارك»، وقبلنا اقتراحه، ووقعنا معه عقدا، ودفعنا له مقدم أتعاب، وعاد (المراسل) إلى القاهرة، فقضى ثمانية أشهر يجمع المعلومات، ويقابل المصادر، ويتقصى الروايات، ثم كتب نصا أوليا عرضه على هيئة التحرير، لكن الهيئة لم تر فى الكتاب مادة كافية تصلح للنشر عن شخصية مهمة فى العالم العربى، وبدا ما سمعته مما لا دخل لى به، لكن «إيدى بل» أضاف: وفى هيئة التحرير طلبوا من (المراسل) أن يراجع ما كتب، وأن يُعيد كتابة نصه، (وقرروا أن يضيفوا إلى المبلغ الذى صُرف له) ليبحث أكثر ويتوسع بزيادة مواد تجعل الكتاب أكثر جاذبية لقارئ دولى (إنجليزى أمريكى بالدرجة الأولى)، وحاول (المراسل) وقدم نصا جديدا، ولكن ما فيه للمرة الثانية لم يزد كثيرا عما كتبه فى المرة الأولى، وكان فى مقدورنا صرف النظر عن الموضوع كله، ولكن المشكلة أننا استثمرنا أموالا فيه، ثم إننا سبق وكتبنا إلى السفارة المصرية هنا، وإلى السفارة البريطانية فى القاهرة نطلب منهما المساعدة على تسهيل مهمته، وبالفعل رتبوا له مقابلة «مبارك» وأفرادا من أسرته، وآخرين من حاشيته، وعدد من الذين عرفوه، وتعاملوا معه فى مراحل حياته المختلفة، ومعظم ذلك مسجل على أشرطة، كما أن هناك إلى جانب النص المكتوب مئات الصفحات من المذكرات والوثائق التى اعتمد عليها، لكن ذلك كله لم يساعد على مخطوطة كافية لكتاب مقروء (Readable)». أضاف «إيدى بل»: «أنه حاول الاطلاع على المكتوب بنفسه، ولم يستطع أن يواصل القراءة فيه بعيدا». أضاف: «وقد توصلنا إلى اقتراح نريد طرحه عليك، وهو أن نضع تحت تصرفك هذا النص، وكذلك تسجيلات مقابلات صاحبها ومذكراته، ثم تقوم أنت بأى جهد تراه لتجديد الكتاب، وفى هذه الحالة سوف نطلب منك إشارة رقيقة فى المقدمة إلى مَنْ قام بالعمل التحضيرى لمشروع الكتاب، وأظن أنك تقبل ذلك!». ولم أكن فى حاجة إلى إطالة التفكير، وإنما قلت صراحة ل«إيدى بل»: «إن لدى على الفور أسبابا كثيرة للاعتذار!!». ● أولها: أننى لم أكتب من قبل «قصة حياة» لأحد، ولم أفعل ذلك حتى مع «عبدالناصر»، وإنما كان كتابى عنه The Cairo Documents مركزا على صداقاته الدولية، وعلى عصر العمالقة الذى عاش فيه، ثم إننى لم أفعل ذلك مع «السادات»، وإنما كان كتابى عنه مركزا على خريف سنة 1981 «خريف الغضب» Autumn of Fury، وتحديدا مشهد مأساة اغتياله. أى أن كل كتبى باللغة العربية أو الإنجليزية كانت عن مراحل أو وقائع، وليست عن أشخاص. ● والسبب الثانى أن السير الشخصية (Biography) تحتاج إلى تجرد وحياد، وذلك قد يتوافر لمؤرخ، لكنه يصعب إنسانيا أن يتوافر لصحفى، وصحفى له موقف، وهذا ثانى أسبابى للاعتذار. ● هناك سبب ثالث نفسى أكثر منه عملى، وهو أن القبول بمثل هذه المهمة قد يقتضى منى طلب مقابلة «مبارك»، أو بعض المحيطين به، وهو ما لا أريده لأسباب تخصنى، بينها حرصى على الاحتفاظ بمسافة من السياسة المصرية الجارية!! ●●● وللحق فإن «إيدى بل» لم يواصل إلحاحه وإنما أبدى تفهما، لكنه لم يستطع صرف النظر عن مشروع الكتاب بأسره، وقد سألنى فى محاولة أخيرة «إذا كان لدىَّ مانع من قراءة المواد الجاهزة، وإبداء رأى فى إمكانية استكمالها، إذا وجدت بعد قراءة النص أن لدىَّ ما أقترحه!!». ولم أستشعر لدىَّ «مقاومة» لهذا الاقتراح، بل لعلى ببعض «خصائص» المهنة كنت مهيأ له، وطلب «إيدى» من سكرتيرته أن توضع قاعة الاجتماعات الملاصقة لمكتبه تحت تصرفى اليوم وغدا، بما يوفر لى فرصة القراءة الهادئة، وأن تجىء إلىَّ بالنص المكتوب، والصندوق الذى يحوى ما يتصل بها من الأوراق مثل محاضر وشرائط ومذكرات جمعها (المراسل) الذى كتب كتابه مرتين! وما بين الحادية عشرة صباحا إلى الرابعة بعد الظهر جلست فى قاعة الاجتماعات، منكبا على القراءة، وعلى الاستماع إلى مقاطع من التسجيلات. وخرجت إلى مكتب «چوانا» أعيد إليها ما عندى، ولكنها قالت «إن رئيسها لايزال فى مكتبه، وقد يهمه أن يرانى ليسمع منى، ودخلت إليه، ولم يترك «إيدى» لى فرصة، بل سألنى إذا كنت وجدت حلا، وهززت رأسى نفيا، وقلت: «إن الرجل (أقصد المراسل) بذل جهدا خارقا، لكنه أعطى نفسه مهمة مستحيلة!!». وسألنى «إيدى» عما أعنيه، وقلت: «إن الصورة هنا على الورق مماثلة تماما للصورة كما تظهر هناك على الأرض، وليس فى مقدور الرجل إنصافا له غير أن يعرض ما رأى، إلا إذا طلبت منه ما هو خارج طاقته!! وسألنى «إيدى بل»: «هل يمكن أن يكون ما هو مكتوب هو كل ما هناك «على الأرض»؟!» وقلت تأكيدا وإنصافا للرجل: «على الأرض هو كل ما هناك!!». ●●● وفيما بعد فكرت طويلا فى المسألة، وكان مؤدى ما توصلت إليه أن النص الذى قرأته ليس كل القصة، ولكنه ما يبدو للرائين منها، لأن بطل القصة (أى «مبارك») سواء للأحسن أو للأسوأ لم ينس أثرا حيث ذهب، ولم يترك بصمة حيث تصرف، ولم يوقع على ورقة إلا إذا كانت مرسوما بقانون سوف يُعلن للناس، ولم يسمح بتسجيل محضر لأهم اجتماعاته، بل أجراها جميعا على انفراد، وفى الغالب الأعم فإن تصرفاته الرئاسية كانت شفوية يصعب الحصول عليها، وتجميعها، ومضاهاتها، ودراستها!! وهنا يصدق التعبير بأن من يتصورون أنهم يعرفون كل شىء عنه بظاهر ما رأوا كله هم فى الواقع لا يعرفون شيئا عنه!! ●●● ● وخلال سنوات طويلة سمعت دون قصد آراء كثيرين ممن عرفوه. بعض من عرفوا أسرته فى «كفر المصيلحة»، وليس فيهم من يعرف عنه شخصيا شيئا محددا، وقد سمعت كثيرا عنه (كما أسلفت) من شقيقه «سامى مبارك»، لكنه كله مما أرد نفسى عن استعمال شئ منه، فهو خصوصية أسرة، ثم إنه يحوى بعضا من عقدة قتل الأخ Fratricide وهو ما لا شأن لى فيه!! وبعض زملائه فى الكلية الحربية، وفى كلية الطيران، يجيبون إذا سُئلوا بأنه «لم يعط سره لأحد « على حد تعبير أحدهم، وهم يعرفون أنه يحب سماع الحكايات وروايتها، ويحب إطلاق النكات وتكرارها، لكنه وراء ذلك كتوم!! بعض هؤلاء أضافوا أنه رجل يثابر أكثر منه رجل يفكر، وهو مستعد بالنشاط العضلى يعوض ما يفوت عليه بالنشاط العقلى، وهو جاهز لذلك طول الوقت. وبعض هؤلاء يقولون إنه شديد الطاعة لرؤسائه، يكرس جهده دائما لإرضائهم مهما كانت المهام التى يطلبونها منه، وأثناء الدراسة فى كلية الطيران لم يخرج فى الإجازات، وإنما كان على استعداد باستمرار للبقاء فى الكلية نوبتجيا، بينما غيره ينتظر الإجازات ويتشوق لها. وبعض زملائه يروى أنه عندما تخرَّج والتحق بأحد المطارات كان يحاول التأثير بأن يلحق طابور الصباح كل يوم قفزا من النافذة إلى ساحة التدريب أمام الناس، ليُظهر سرعة حركته. وبعض زملائه يقول إنه نال الحظوة لدى من عمل معهم من قادة الطيران، ثم دار من حولهم عندما وجد منفذا إلى وزراء الدفاع، خصوصا الفريق «محمد فوزى»، والفريق «محمد أحمد صادق»، وهو يحقق نفاذه إذا اطمأن إلى أن قادته المُباشرين لا يعلمون، أو يعلمون ولا يقولون شيئا، لأن مرؤوسهم وطَّد صلته بالمستويات الأعلى!! وبعض زملائه فى قاعدة «بلبيس» يحكون كثيرا عن أنه كان معهم وهم يشترون اللحم من سوق «بلبيس» لبيته ولأسرة قرينته، لأن أسعارها أوفر، مع حرصه على أن يأخذ ورقة بالسعر ليستوفى حقه «بلطافة» (على حد تعبير القائل) دون أن يطلب بنفسه (وذلك لا عيب فيه). وزميل آخر يحكى كيف كان غرامه شديدا بالأرغفة الصغيرة المحشوة ب«الفول المدمس» أو ب«الطعمية»، وهو فى السيارة من القاعدة إلى البيت أيام الإجازات يأكل معظمها. وبعيدا عن زملائه القُدامى كلهم أو بعضهم، فإن من جاءوا فى حياة «مبارك» بعدهم لا يعرفون ما هو أكثر، ففى ذكريات أحد معاونيه الذين خالطوه عن قُرب فى بعض مراحل عمره «أن انبهاره الأكبر كان بالغِنى وبالأغنياء، والثروة والأثرياء، وعندما يعرف أن أحد زملائه ينتمى إلى أسرة غنية، فإن سؤاله باستمرار كان طلب ترجمة الأوصاف إلى أرقام بسؤال «يعنى يطلع عنده كام؟!». وهو شغوف بكل ما يستطيع أن يسمع من تفاصيل عن حياة الآخرين، وتلك من خَصاله، منذ كان ضابطا صغيرا حتى أصبح رئيسا. ثم يضيف هذا المتحدث صيغة للتعامل مع «مبارك»: «يا هنا» ذلك الذى يحتاج «مبارك» إليه، و«يا ويل» من يحتاج هو إلى «مبارك»!! وهو رجل لا ينسى مهما طال الزمن إساءة أو ما يعتبره إساءة من أحد، ولا يذكر مهما قصر الزمن فضلا أو ما يعتبره فضلا من أحد!! وأخيرا هناك أحد الأدباء البارزين الذين اهتموا بحضور مؤتمراته وواظبوا عليها، وحاولوا تقييمه من وجهة نظر ثقافية: «أنه ذلك الأديب حضر عشرات المؤتمرات ل«مبارك»، ولم يشعر على طول ما سمع أن «مبارك» قرأ كتابا، أو تذوَّق فنا، أو استشهد ببيت شعر، أو أشار إلى قول مأثور شعرا أو نثرا!!». ●●● وربما كان أطرف ما سمعت فيما يمكن اعتباره «المأثورات» هو ما رواه لى «خالد عبدالناصر» بعد لقاء مع «مبارك» بعد عودة «خالد» من غيبة طويلة خارج مصر بسبب اتهامه فى قضية شباب مصر الأحرار، والتى قيل عنها إنها دبرت اعتداءات على رعايا إسرائيل عند مجيئهم إلى مصر بعد اتفاقية السلام. وكان «مبارك» للإنصاف أيضا قد اتخذ فى هذه القضية موقفا كريما يُحسب له، وفى أثر ما شاع عن هذا الاتهام، فإنه ترك «خالد عبدالناصر» يسافر من مصر سنوات، وعندما عجز «خالد» عن تحمُّل الغيبة عاد ورأى «مبارك» أن يلتقيه لقاء أب بابنه. وكانت رواية «خالد عبدالناصر» عن نصيحة «مبارك» له وقد رواها «خالد» عنه بجد، ولم أستطع أن آخذها كذلك. كانت نصيحة «مبارك» قُرب نهاية اللقاء قوله: اسمع يا ابنى: تبسبس آه تهلس آه لكن تسيِّس لأ!! وترجمة القول: «تبسبس» (من بيزنس Business) و«تهلس» (مفهومة دون ترجمة) وتسيِّس (من السياسة)!! وبالتالى فالحكمة المقصودة هى أن كل المجالات حلال، وأما مجال السياسة فهو الحرام شخصيا!! ●●● كانت الصفة الأخرى التى ركز عليها هؤلاء الذين يعرفون «مبارك» عن قُرب هو أنه لا يحب أن يسمع كلمة طيبة عن غيره هو، وقد لمحت هذه الخاصية من خلال موقف رواه لى رئيس الوزراء اللبنانى السابق «رفيق الحريرى»، فقد تصادف أن «رفيق الحريرى» فى أول زيارة رسمية له إلى مصر بعد توليه منصب رئيس الوزراء، نزل فى فندق «شيراتون» الجزيرة، وهو شبه ملاصق لمكتبى، واتصل بى «رفيق الحريرى» فى الساعة الثامنة صباحا يقول لى إنه استيقظ مبكرا ويسأل إذا كان يستطيع أن يجىء إلىَّ الآن، ورحبت، وجاء «رفيق الحريرى»، وأول ما بدأ به قوله أنه التقى «مبارك» بالأمس، وأن «الرئيس» وضعه فى موقف شديد الحرج، فقد حضر وزير الخارجية المصرى وقتها السيد «عمرو موسى» الدقائق الأخيرة من اللقاء، وبعد انتهائه مشى «مبارك» من حيث كان يجلس مع ضيفه إلى باب قاعة الاجتماع ووراءهما السيد «عمرو موسى» وقال «رفيق الحريرى»: «إننى أوقعت «عمرو موسى»، وأوقعت نفسى فى حرج شديد»، وراح يحكى أنه أراد مجاملة الرئيس المصرى بمدح وزير خارجيته، فقال له: «سيادة الرئيس اسمح لى أن أهنئك على نشاط وزير خارجيتك». وتوقَّف «مبارك» فى مكانه، وقد بدا عدم ارتياحه قائلا لرفيق الحريرى، و«عمرو موسى» يسمع: «إيه.. وزير الخارجية لا يرسم سياسة .. رئيس الدولة يرسمها»!! ولم يكتف بذلك بل التفت إلى «عمرو موسى» قائلا له: «عمرو.. اشرح للأخ «رفيق» أن وزراء الخارجية لا يرسمون السياسة، ولكن ينفذونها فقط!». وكان تعليق «رفيق الحريرى» أنه كان فى «نص هدومه» من شدة ما أحس بالحرج لنفسه ولوزير الخارجية المصرى، وقد ظن أنه يمدحه!! عمرو موسي ●●● ثم أتيح لى أن أسمع قصة مشابهة إلى حد ما، وهى تتعلق بى مباشرة، فقد حدث أن الرئيس «مبارك» قام بزيارة رسمية لليابان، واحتفلت به أكبر دور النشر هناك وهى «يوميورى شيمبون»، فأقامت له حفل غداء، دعت إليه جمعا من الشخصيات، وجلس الضيف المصرى بجانب رئيس مجلس إدارة مؤسسة «يوميورى» وهى عملاق فى عالم النشر، وصحيفتها اليومية «يوميورى شيمبون» توزع فى اليوم 6 ملايين نسخة وقال المضيف لضيفه وهو يظن أنه يجامله: «أنت تعرف يا سيادة الرئيس أن أحد كتابكم يشارك ثلاثة غيره من «كبار الكُتَّاب» فى مقال شهرى يُنشر فى «يوميورى شيمبون»، وهم يتناوبون عليه كل شهر، كل واحد منهم يكتبه أسبوعا، لأننا نقصد أن نجعل القارئ اليابانى متصلا بالعالم الخارجى، (وتفضل الرجل فذكر أسماء الكُتَّاب الأربعة من العالم وبينهم اسمى)!! ورد الرئيس «مبارك» قائلا: «ولكن (تفضَّل هو الآخر بذكر اسمى) ليس معنا هو ممن يعارضوننى». ودُهش رئيس مجلس إدارة «يوميورى شيمبون»، وأغلق باب المناقشة فى الموضوع على الطريقة اليابانية، قائلا مشيرا لضيفه إلى آنية من البللور وسط المائدة: هل تعجبك زهور الكريزانتم يا سيدى الرئيس هذا موسمها فى اليابان!! ●●● وكانت علاقة الرئيس «حسنى مبارك» مع السيدة «چيهان السادات» ظاهرة تستحق الدراسة، ومع أن هذه السيدة الذكية شديدة الحرص فى حديثها عن تلك العلاقة، فقد كانت بعض العبارات والروايات تفلت منها أحيانا. وعلى مائدة العشاء فى بيت قرينة الوزير السابق الراحل («أمين شاكر») كان مقعدى على المائدة بجوار السيدة «چيهان السادات» وأمامنا الدكتور «مصطفى خليل»، والحديث هامس، والسيدة «چيهان» تبدى ضيقها من بعض ما تتعرض له، قائلة: «إنه («مبارك») لم يغفر لها ما بلغه من ملاحظاتها على أدائه أثناء عمله نائبا للرئيس». والتفتت إلىَّ السيدة «چيهان» قائلة: «أنت كنت أنتقد «أنور» وسياساته، وسوف تعرف أنها «نار «أنور السادات» ولا جنة «حسنى مبارك»!!، ثم يغلب الضيق عندها على الحذر، وتقول: «لا أعرف لماذا تمسَّك به «أنور» إلى النهاية» ثم تواصل كلامها بما مؤداه «أنها أثارت مع زوجها أكثر من مرة موضوع صلاحية «حسنى مبارك» لأن يكون نائبا للرئيس، ولكن أنور السادات» كان يقاطعها كل مرة قائلا لها على حد روايتها (چى.. (كذلك كان نداؤه عليها باسمها تدليلا) هل تريدين أن تكون علاقتك سيئة برئيس الدولة القادم؟!». وتوقفت طويلا أمام هذه العبارة الأخيرة، لأن القطع فى الأمر بهذه الصيغة له أغلب الظن سبب!! ●●● وكان الدكتور «مصطفى خليل» جالسا أمامنا يتابع، وقد التقط بدوره خيط الحديث من السيدة «چيهان» وراح يحكى أنه لا يذكر اجتماعا حضره مع «حسنى مبارك» (عندما كان نائبا لرئيس الحزب الوطنى، وعضوا فى لجنته العُليا) ثم جرى بحث أمر من الأمور على نحو جدى من البداية إلى النهاية، صحيح أنه فى كل مرة كان هناك جدول أعمال، لكن ما كان يحدث بالفعل هو أن الاجتماعات ما تلبث أن تزدحم بالحكايات والروايات، ثم ينتهى الاجتماع. ويستطرد «مصطفى خليل»: «وأفتح الجرائد صباح اليوم التالى، وأجد تصريحا «طويلا عريضا» ل «صفوت الشريف»، يستفيض ويستطرد فى الكلام عن موضوعات يُفترض أننا بحثناها ودرسناها، وقررنا فى شأنها أثناء اجتماعنا، بينما نحن فى الحقيقة لم نتطرق لها على الإطلاق. ويضيف «مصطفى خليل»: «أنه لم يقابل «مبارك» سواء بصفته نائب رئيس الحزب الوطنى، أو بوصفه مسئولا فى النظام، إلا وقد سبق اللقاء تحذير من الحاشية بأن «سيادة الرئيس لديه من المشاكل ما فيه الكفاية، فإذا كان لديك ما يمكن أن يضايقه ف «حاسب على الراجل»، وإذا كان عندك ما يشرح صدره، فقل ما تشاء!!». ●●● لكن ذلك كله لا يكفى لتفسير «مبارك»، ولا لتقييم شخصيته، فهذه الأوصاف بكل ما تقدمه من دلالات وإيماءات لا تكفى، فهذا رجل مشى فى عمله الوظيفى من أصغر رتبة إلى أعلى رتبة، ومشى على خط متواصل دون عقبات أو عثرات تعترض طريقه أو تعطِّله. ثم هو رجل تساقط خصومه ومنافسوه أمامه واحدا بعد الآخر، وبقى هو بعد الجميع، وتلك استمرارية تحتاج إلى تفسير أكثر اتساعا وعمقا من كل ما هو شائع وذائع من الحكايات والروايات. ثم إن هذا رجل تقدم من الصفوف فجأة إلى قمة السلطة، وقد يقبله الناس لظروف، لكن «الظروف» فى العادة لا تطول إلى ثلاثين سنة!! بقيت ظاهرة لا يمكن إغفالها، وهو أنه رغم خلعه عن السلطة فإن «مبارك» لم يترك دائرة الضوء، بل ظل قضية مُثارة، جارية على الألسن فى كل حديث عام، واردة فى حساب التطورات المأساوية التى عاشتها وتعيشها مصر، ولو من باب مسئوليته عنها دون حساب حقيقى حتى الآن!! وتلك كلها ليست أمورا سهلة، تؤخذ بظواهرها. وإنما لابد أن يكون وراءها شىء لم تلمحه الأوصاف، ولم تحسبه التقديرات. والمشكلة أن هذا «الشىء» على فرض وجوده لا تظهر له علامات ولا بشارات!!