الحلقة الثانية نقلا عن بوابة الشروق من كتاب محمد حسنين هيكل عن الثورة المصرية، تحت عنوان:"مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان" بدأت متابعتى للرئيس «حسنى مبارك» من بعيد بالمسافة، من قريب بالاهتمام عندما ظهر على الساحة العامة لأول مرة قائدا لسلاح الطيران المصرى فى الظروف الصعبة التى تعاقبت بعد أحداث يونيو سنة 1967، ولم يخطر ببالى وقتها لحظة واحدة أن هذا الرجل سوف يحكم مصر ثلاثين سنة، ويفكر فى توريث حكمها بعده لابنه. وعندما أصبح «مبارك» رئيسا بعد اغتيال الرئيس «أنور السادات» فى أكتوبر 1981، فقد رحت حتى ونحن لانزال بعد فى سجن «طرة» (ضمن اعتقالات سبتمبر الشهيرة سنة 1981)، اذكِّر نفسى وغيرى بالمثل الفرنسى الشائع، الذى استخدمه الكاتب الفرنسى الشهير «أندريه موروا» عنوانا لإحدى رواياته، وهو أن «غير المتوقع يحدث دائما!!». ●●● وللأمانة فقد سمعت الفريق «محمد فوزى» (وزير الدفاع) يقدم ل«مبارك» عند «جمال عبدالناصر» عندما رشحه له رئيسا للأركان فى سلاح الطيران أثناء حرب الاستنزاف، وكانت شهادة الفريق «محمد فوزى» تزكيه لما رُشح له، ثم كان أن أصبح الرجل بعد أن اختاره الرئيس «السادات» قائدا للسلاح موضع اهتمام عام وواسع، لأن سلاح الطيران وقتها كان يجتاز عملية إعادة تنظيم مرهقة، وكانت هذه العملية تجرى بالتوافق مع قيام السلاح بدوره فى حرب الاستنزاف، وخلالها تعاقب على قيادة الطيران خمسة من القادة هم: «صدقى محمود» و«مدكور أبوالعز»، و«مصطفى الحناوى»، و«على بغدادى»، ولم يستطع أيا من هؤلاء القادة إكمال مدته الطبيعية، وبالتالى فإن مجىء كل واحد منهم إلى قيادة الطيران كان حالة فوران لا يهدأ وسط أجواء مشحونة داخل واحد من أهم الأسلحة، فى لحظة من أشد اللحظات احتياجا إلى فعله!! ●●● وكان أول ما التقيت ب«مبارك» لقاء مصادفات عابرة، فقد كنت على موعد مع وزير الحربية وهو وقتها الفريق «محمد أحمد صادق» وعندما دخلت مكتبه مارا بغرفة ياوره كان بعض القادة فى انتظار لقاء «الوزير»، وكان بينهم «مبارك»، وأتذكره جالسا وفى يده حقيبة أوراق لم يتركها من يده، حين قام وسلم وقدَّم نفسه، وبالطبع فإننى صافحته باحترام، قائلا له فى عبارة مجاملة مما يرد على أول لقاء: «إن دوره من أهم الأدوار فى المرحلة المقبلة، و«البلد كله» ينتظر أداءه» ورد هو: «إن شاء الله نكون عند حُسن ظن الجميع»، ودُعيت إلى مكتب الفريق «صادق»، ودخلت، وكانت مصادفة لقائى ب«مبارك» قبلها بثوانٍ حاضرة فى ذهنى بالضرورة مع زيادة الاهتمام بالطيران وقائده، وبدأت فسألت الفريق «صادق» عن «مبارك» وهل يقدر؟!، وكان رده «أنه الضابط الأكثر استعدادا فى سلاح الطيران الآن بعد كل ما توالى على قيادة السلاح من تقلبات»، ولا أعرف لماذا أبديت بعض التساؤلات التى خطرت لى من متابعتى ل«مبارك»، منذ ظهر على الساحة العامة، وكان مؤدى ما قلته يتصل بسؤال من فوق السطح (كما يقولون): كيف بقى الرجل قرب القمة فى السلاح خلال كل الصراعات والمتغيرات التى لحقت بقيادة سلاحه وكيف استطاع أن يظل محتفظا بموقعه مع أربعة من القادة قبله، وكل واحد منهم أجرى من التغييرات والتنقلات ما أجرى؟!! زدت على هذه الملاحظة إضافة قلت فيها: أننى سمعت «حكايات» عن دوره فى حوادث جزيرة «آبا» قبل سنتين (وهى تمرد المهدية على نظام الرئيس السودانى «جعفر نميرى»، ونشوب صراع مسلح بين الفريقين سنة 1970)، وطبقا ل«الحكايات» ومعها بعض الإشارات فإن «مبارك» ذهب إلى السودان فى صحبة نائب الرئيس «أنور السادات»، لبحث ما يمكن أن تقوم به مصر لتهدئة موقف متفجر جنوب وادى النيل، ولتعزيز موقف «جعفر نميرى» فى تلك الظروف العربية الحرجة، وكانت أول توصية من بعثة «أنور السادات» وقتها هى الاستجابة لطلب الرئيس السودانى، بأن تقوم الطائرات المصرية المتمركزة أيامها فى السودان بضرب مواقع المهدية فى جزيرة «آبا» لمنع خروج قواتها إلى مجرى النيل، والوصول إلى العاصمة «المثلثة»، ودارت مناقشات فى القاهرة لدراسة توصية بعثة «السادات» فى «الخرطوم»، وكان القرار بعد بحث معمق ألا تشترك أية طائرات مصرية فى ضرب أى موقع، و«أنه لا يمكن لسلاح مصرى أن يسفك دما سودانيا مهما كانت الظروف». ثم حدث بعدها بأيام أن اغتيل زعيم المهدية السيد «الهادى المهدى». وراجت حكايات عن شحنة متفجرة وُضعت داخل سلة من ثمار المانجو وصلت إليه، وقيل ضمن ما قيل عن عملية الاغتيال أن اللواء «حسنى مبارك» (وهو الرجل الثانى فى بعثة «الخرطوم» مع «السادات») لم يكن بعيدا عن خباياها، بل إن بعض وسائل الإعلام السودانية وقتها وبعدها حين أصبح «مبارك» رئيسا اتهمته مباشرة بأنه كان اليد الخفية التى دبرت لقتل الإمام «الهادى المهدى». وأشرت إلى ذلك كله بسرعة من اهتمام بالطيران وقتها وأحواله، وكان رد الفريق «صادق»: أنه سمع مثلما سمعت، لكنه لا يعرف أكثر. وأضاف «صادق»: «إذا كان «مبارك» قد دخل فى هذا الموضوع، فلابد أن الإلحاح والتدبير الأصلى كان من جانب «نميرى»، ثم إنه لابد أن «أنور السادات» كان يعلم» ثم أضاف «صادق»: «بأن أول مزايا «مبارك» أنه مطيع لرؤسائه، ينفذ ما يطلبون، ولا يعترض على أمر لهم»، وانتقل الحديث بيننا إلى موضوع ما جئت من أجله لزيارته. ●●● وكانت المرة الثانية التى قابلت فيها «مبارك» فى تلك الفترة أثناء معارك أكتوبر 1973 وكانت هى الأخرى لقاء مصادفات عابر، فقد ذهبت إلى المركز رقم 10 (وهو مركز القيادة العامة للمعركة)، وكنت هناك على موعد مع القائد العام الفريق «أحمد إسماعيل»، وكنا فى اليوم الخامس للحرب (12 أكتوبر)، وكان اللواء «مبارك» (قائد سلاح الطيران) هناك، وأقبل نحوى بخطى حثيثة، وعلى ملامحه اهتمام لافت، يسألنى: «كيف عرف الأهرام بتفاصيل المعركة التى جرت فوق قاعدة «المنصورة» وكان هو موجودا فى القاعدة، وقابل طيارا إسرائيليا أسقطت طائرته، وجىء بالطيار الأسير لمقابلة قائد الطيران المصرى، ودار بينهما حوار، قال فيه «مبارك» للطيار الأسير: إنه تابع سربه أثناء الاشتباك، ولاحظ أخطاء وقع فيها، وسأله ماذا جرى لكم؟! كنا نتصور الطيارين الإسرائيليين أكفأ، فهل تغيرتم؟!! ورد الطيار الإسرائيلى قائلا: «لم نتغير يا سيدى، ولكن أنتم تغيرتم». وسألنى «مبارك» وهو يمشى معى فى الممر المؤدى إلى مكتب الفريق «أحمد إسماعيل»، بإلحاح: «كيف عرفنا بهذه الحكاية؟! مع أن المعركة جرت فى المساء أمس الأول، وهو نقل تفاصيلها على التليفون للرئيس «السادات» أمس، ثم قرأها كاملة فى «الأهرام»، وهو لم يحك إلا للرئيس وحده، فكيف «عرفنا» إذن؟!! وقلت: «سيادة اللواء، أليست المسألة واضحة؟ عرفنا من الرئيس نفسه»، ورد هو ودرجة الدهشة عنده تزيد: من الرئيس نفسه؟ كما نقلتها له بالحرف؟! ثم أبدى ملاحظة قال فيها: «ياه.. ده أنتم ناس جامدين قوى!!». وكنا قد وصلنا إلى مكتب «أحمد إسماعيل»، الذى ترك قاعة إدارة العمليات، وجاء إلى مكتبه قريبا منها يلقانى، ودخلنا إلى المكتب، وتركنا قائد الطيران ولا يزال يبدى دهشته من سرعة الاتصالات بين الرئيس وبين «الأهرام»!! وربما كان علىَّ أن أستغرب أكثر منه من هذا الاتصال المباشر بين قائد الطيران وبين رئيس الجمهورية عن غير طريق القائد العام، لكنى وقتها لم أستغرب، فقد تصورتها لهفة الرئيس على الاتصال المباشر بقواده دون مراعاة لتسلسل القيادة!! ●●● ومرت على هذه الأحاديث عدة سنوات، وقع فيها ما وقع وضمنه ذلك الصدام العنيف فى مايو 1971 بين الرئيس «السادات» وبين ما سُمى وقتها ب«مراكز القوى»، وفى أعقاب ذلك الصراع حدث إن الرئيس «السادات» ترك لى مجموعة أوراق كانت فى مكتب السيد «سامى شرف» (مدير مكتب الرئيس للمعلومات)، وكان الدكتور «أشرف مروان» الرجل الذى خلف «سامى شرف» فى مكتب المعلومات قد حملها إليه، وقال لى الرئيس «السادات» يومها وهو يشير إلى حقيبة أوراق أمامه «خذها أنت تحب «الورق القديم»، وعندك الصبر لتقرأه، أما أنا فلا صبر عندى عليه!!».