في حقبة المد الاستعماري، كان جيش الاحتلال لا يعترف بحق صاحب الأرض في المقاومة. وكانت ثقافة المستعمر لا تؤمن سوى بالقضاء على كل من يقاوم وجوده في أرض غير أرضه. ثقافة لا هدف لها سوى تجفيف المنابع التي تخرج منها المقاومة، وتجعلها تتمسك بروح التحرر من قبضة الاستعمار. لو قمنا بتمرين بسيط يقضي بالتفكير من داخل صندوق المستعمر، فإننا سنجد ثقافة القضاء على المقاومة، هو تفكير منطقي ومنسجم مع فلسفة الاستعمار. فلو كان المحتل يريد الاعتراف بالمقاومة، وحقها في الوجود، لما دخل أصلا إلى أرض ليست أرضه، ولما احتل وطنا ليس وطنه. فالاحتلال يعرف جيدا أنه يقف على أرض لها مالكها ولا حق له فيها. واعترافه بالمقاومة، يعني بلغة المحتل، انتصار المقاومة، ووقت رحيله قد حان. هذا ما وقع للجنود الأمريكيين في الفيتنام والعراق. وهو ما وقع للجيش الفرنسي في المغرب والجزائر وتونس وفي كثير من البلدان الإفريقية. وهو ما وقع كذلك لألمانيا النازية بعد احتلالها لفرنسا، ولليابان التي احتلت منشوريا في الصين. وقبل جلاء الاحتلال، تكون هناك مفاوضات بين المحتل والمقاومة، بعد أن اعترف بها تحت ضرباتها. جيش الاحتلال تفاوض مع المقاومة الفلسطينية، وأبرم معها اتفاق تبادل الأسرى. وهي مرحلة مرت منها المقاومة التي كانت ترزح تحت الاحتلال، في جميع بقاع العالم. وغالبا ما تكون تلك المفاوضات، الخطوة الأولى لنهاية الاحتلال. هذا ما نقرأه في دروس التاريخ. ما أبرزته المقاومة في المرحلة الثانية من تبادل الأسرى، أثبت حقيقتين لا غبار عليهما: حقيقة أن المقاومة ما زالت قائمة، وحقيقة شعب متشبث بأرضه ومتشبث بحقه في المقاومة، مهما كان الثمن، ومهما بلغت حدة المؤامرات. لكن…من أين خرجت هذه المقاومة؟ نعرف جميعا حجم قطاع غزة، 360 كم2. نعرف كذلك الحصار المضروب عليه: برا بالدبابات والأليات العسكرية، بحرا بالفرقطات العسكرية والغواصات وحاملات الطائرات الأمريكية، وجوا بالدرونات والأقمار الاصطناعية الأمريكية والغلاف الجوي بأقمار الفضاء لصاحبه إيلون ماسك. رغم كل هذه الإمكانيات التي تفوق الخيال العلمي، خرج موكب المقاومة، ومعه أسرى الاحتلال، ليوقع واحدة من أغرب ملاحم تبادل الأسرى. من أين خرجت تلك الجحافل من المقاومين بعتادها العسكري وسياراتها البيضاء؟ يبدو أن الأقمار الاصطناعية حائرة في معرفة مكان إقامة المقاومة، ومكان تواجد الأسيرات اللواتي حضرن لامتطاء سيارات الصليب الأحمر الدولي. ربما اكتشفت تلك الأقمار، أن هناك مجالا ترابيا ما يزال خارج تغطيتها. فهي أقمار انطلقت من أرض كانت بدورها خارج التغطية قبل 1492م، وربما تحتاج أمريكا لرحلة أخرى كتلك التي قام بها كريستوف كولومب، لتكتشف المكان الذي خرجت منه جحافل المقاومة رفقة الأسيرات. خوارزميات أقمار الفضاء لمالكها "ماسك"، هي الأخرى في حاجة إلى مزيد من التطوير لتصل إلى الأمكنة التي خرجت منها هذه الجحافل المقاوِمة. عملية تبادل الأسرى في نسختها الثانية، ستجعل العقل البشري حائرا بين مقاومة تنبعث من الدمار، وحكايات الخيال العلمي.