اختراع الهاتف ليس كباقي الاختراعات التي عرفها العالم سواء خلال القرن 19 أو القرن 20. فانتساب هذا الاختراع لصاحبه الحقيقي عرف صراعا وجدلا امتد لعقود من الزمان، بل تعدى عتبة قرن كامل. مثل هذه الصراعات حول صاحب الفكرة أو الاختراع، نجدها في مختلف التخصصات العلمية وحتى علم الفلسفة لم يسلم منها. فعلى سبيل المثال المنهج الشكي الذي يشكل العمود الفقري لفلسفة ديكارت ومقولته الشهيرة "أنا أفكر إذا أنا موجود"، ما زال يخلق جدلا حول صاحب هذا المنهج الشكي: ديكارت الذي عاش في القرن 17 أم أبي حامد الغزالي الذي عاش في القرن 12 وهو أول من وضع قواعد المنهج الشكي. ففلسفة ديكارت الشكية تتقاطع مع المنهج الشكي عند الغزالي لدرجة التشابه. وصرح المرحوم عابد الجابري أنه التقى مع باحث تونسي أخبره أنه عثر في المكتبة الوطنية في باريس، على كتاب الغزالي وفي الصفحة التي يتحدث فيها عن منهجه الشكي، كتب ديكارت بخط يده عبارة "هذه فكرة جديرة بالاهتمام". وهو ما جعل مدادا كثيرا يسيل حول هذا الموضوع. هذا ما حدث مع اختراع الهاتف. ففي نفس اليوم تقدم غراهام بيل باختراعه وقبله بساعتين فقط قدم إيليشا غراي (Elisha Gray) اختراعا للهاتف مشابها لما قدمه بيل. لكن ملف هذا الأخير وبطلب من محاميه، تم البث فيه في نفس اليوم في الوقت الذي لم تنظر اللجنة المختصة في ملف غراي سوى في اليوم الموالي. لتبدأ معركة قانونية حول من يكون الأب الشرعي للهاتف. قام غراي بالعديد من الشكايات لدى المحاكم تم البث فيها كلها بإسناد براءة اختراع الهاتف لغراهام بيل. لكن قصة اختراع الهاتف لم تقف عند هذا المشهد لتبدأ فصلا جديدا ومثيرا. ففي سنة 1887 ستبدأ معركة قانونية أخرى حول من هو المخترع الحقيقي للهاتف بطلها مهاجر إيطالي اسمه أنطونيو ميوتشي الذي قام برفع دعوى قضائية لإلغاء براءة الاختراع المسجلة باسم غراهام بيل، وذلك استنادا إلى الطلب المؤقت الذي تقدم به للحصول على براءة اختراع الهاتف سنة 1871 أي قبل 5 سنوات على اختراع بيل. لكن عدم تمكن ميوتشي من أداء مبلغ 10 دولارا آنذاك لتجديد طلبه الذي انتهى أجله في 1874، أدى إلى إلغاء طلب براءة اختراع الهاتف وبالتالي حينما وضع بيل اختراعه لم يكن أمام اللجنة المكلفة بإسناد براءات الاختراع أي عائق لقبول طلبه. الدعوة القضائية بقيت مستمرة حتى بعد موت صاحبها في 1889، إذ سيتم البث في القضية عام 1897 برفض الطلب دون الحسم النهائي في أحقية انتساب الاختراع لهذا الطرف أو للطرف الآخر. هكذا ظل عبر التاريخ غراهام بيل هو المشهور باختراعه للهاتف لأزيد من قرن إلى أن قام مجلس النواب الأمريكي في 11 يونيو سنة 2002 بالبث النهائي في القضية بجعل مخترع الهاتف هو أنطونيو ميوتشي بدل غراهام بيل بعد مرور 113 عاما على وفاة هذا الأخير. وبرر المجلس قراره بكون ميوتشي لوكان باستطاعته أداء مبلغ 10 دولارا للحفاظ على طلبه المؤقت لبراءة الاختراع بعد 1874 لما حصل غراهام بيل على براءة اختراع الهاتف. وهذا يعني أن غراهام بيل قام باختراع الهاتف بناء على نموذج من نماذج اختراعات ميوتشي. بعد 113 سنة أنصف الكونغريس الأمريكي المخترع الحقيقي للهاتف. فمتى سينصف العالم الفيلسوف أبي حامد الغزالي بأنه صاحب المنهج الشكي الذي أخذه منه الفيلسوف ديكارت دون التحلي بالمنهجية الأكاديمية وذكر مصدر فكرته. سعيد الغماز