السياسة بطبيعتها متقلبة الأطوار متحركة الرمال لا تجمد على حال لأنها مجال إصلاح أحوال الناس وهذه الأخيرة متغيرة غير ثابتة، فمصالح الناس بحسب تغير تلك الأحوال، إلا أن لكل بلد ثوابت متفق عليها يجعلها عناوين تحدد وجهته السياسية ويبرزها في الدستور باعتباره القانون الأسمى.. إذن لا غرابة أن نتحدث عن توابث السياسة عند هذا البلد أو ذاك الزعيم أو عند حزب سياسي معين أو ثوابت فترة معينة أو مرحلة تاريخية سابقة لأن الكشف عن تلك الثوابت من شأنه أن يضعنا في الصورة الحقيقية لاتخاذ قرارات سياسية معينة من هذا الطرف أو ذاك.. والأستاذ عبد الإله بنكيران زعيم سياسي طبع بخطابه المتميز مرحلة من مراحل تطور المجتمع المغربي خصوصا أنه تحمل مسؤولية رئاسة الحكومة في فترة حرجة هي ما بعد الربيع العربي الذي كان بمثابة زلزال اجتاح الوطن العربي وأدى إلى سقوط رؤساء خمس دول عربية فأعقبه تولي قيادات إسلامية زمام المسؤولية بعد انتخابات رئاسية أو تشريعية أو جماعية.. كان لمرور الربيع العربي الديمقراطي بالمغرب بصمته إذ حمل معه حزب العدالة والتنمية المغربي لرئاسة الحكومة بقيادة بنكيران ثم بقيادة الدكتور سعد الدين العثماني ورئاسة معظم الجماعات الترابية.. نحن إذن إزاء قيادة سياسية وزعامة حزبية لها رؤية ومرجعية اتخذت قرارات صعبة في مرحلة حرجة كانت مثار جدل من الفاعلين السياسيين والمراقبين والإعلاميين.. فما هي الثوابت السياسية لدى بنكيران ؟ هذا ما سننظر فيه في هذا المقال.. هي ثوابت ثلاثة لا يخلو خطاب سياسي لبنكيران منها: الثابت الأول: المرجعية الإسلامية فهي مرجعية الدولة والمجتمع، و بنكيران يؤكد على أن الدين الإسلامي هو المشترك الجامع والموحد لمكونات المجتمع المغربي بتنوعه اللغوي والإثني والإيديولوجي، فإذا انفرط عقد الدين انفرط المجتمع وتحول إلى شظايا متناحرة ومتصارعة، فالدين بحسب الزعيم الإسلامي بنكيران هو أساس وجود هذه الدولة المغربية منذ ما لا يقل عن إثنا عشرة قرنا ولا يمكن أن تستمر إلا في ظل هذا الانتماء.. ولهذا يعتبر بنكيران كل من يستهدف هذه المرجعية في ثوابتها خطرا على الدولة والمجتمع..وهو لايدع مناسبة إلا ويرسل رسائل بهذا الصدد للقوى الحداثية التي لا تعير اهتماما لخطورة استهدافها النصوص القطعية في الكتاب والسنة من أجل تغيير أحكام الأسرة لتوافق المرجعية الكونية.. كما أن الأستاذ بنكيران يوجه خطابا داخليا لأعضاء حزبه باستمرار مذكرا بمحورية هذه المرجعية في تطور وجودهم السياسي مذ كانوا حركة دعوية إلى جماعة إسلامية انبثق عنها حزب سياسي له موقعه المتميز في الخريطة السياسية..وهو في خطابه الداخلي يدعو أعضاء الحزب لتمثل هذه المرجعية في أخلاقهم ومعاملاتهم السياسية وداخل أسرهم ووظائفهم ليعطوا بذلك مصداقية لحركتهم داخل المجتمع وفي مؤسسات الدولة التي يشتغلون فيها.. الثابت الثاني: المؤسسة الملكية فالأستاذ بنكيران يعمل ويوصي مناضلي حزبه بالوفاء لهذه المؤسسة باعتبارها صمام أمان الدولة وملجأ الفرقاء السياسيين عند الاختلاف أو التظالم.. والملك هو رمز وحدة البلاد واستمرارها، فهو منحة إلهية لهذا البلد يتوجب شكرها والحفاظ عليها، والأستاذ بنكيران لايضفي القداسة على الملك بل يجوز عليه الخطأ باعتباره بشرا يجتهد فيصيب ويخطئ، لكن تصحيح خطئه المفروض أن يراعي الاحترام الواجب لمكانته الاعتبارية. يحمل الأستاذ بنكيران مسؤولية الحفاظ على المؤسسة الملكية للشعب المغربي، بل لكل مواطن مغربي له غيرة على بلده، وهو يذكر بهذه المعاني داخل الحزب الذي يتحمل رئاسته لأنه يدرك أن الحزب يستقطب أعضاء جددا ويستقبل أجيالا تخلف سابقتها وبالتالي فهؤلاء الأعضاء الجدد بحاجة لتذكيرهم بهذه التوابث متى أتيحت الفرصة لذلك.. التابث الثالث: الإصلاح في ظل الاستقرار، فهذه المعادلة التي نحتها حزب العدالة والتنمية إبان حراك عشرين فبراير ونزل بثقله للساحة يبشر بها بديلا عن شعارات الثورات التي هزت أركان وعروش الدول المجاورة لها مدلول ومقتضيات؛ أما مدلولها فهو الرغبة في الإصلاح من داخل المؤسسات القائمة بعيداً عن هدمها، فبنكيران يدرك أن الفساد متغلغل في الدولة والمجتمع، ولا يمكن إزاحته بثورة جذرية دون تفكيك عرى المجتمع وإدخال مكوناته في احتراب وصراع لا يخدم إلا جهات خارجية متربصة، فهو يرفض هذه الوصفة التي جربتها دول أخرى فأتت على الأخضر واليابس..! وبالمقابل فهو يقدم وصفة بديلة عنوانها الإصلاح في ظل الاستقرار، ومن مقتضياتها دعم المؤسسات القائمة وتقويتها والمشاركة من داخلها في التدافع السياسي مع الفرقاء السياسيين بمختلف تلويناتهم، باعتبار أن هذه المؤسسات والأحزاب تتيح إمكانية الإصلاح دون إرباك الدولة.. وقد جرب بنكيران هذه الوصفة وهو على رأس الحكومة المغربية وعانى من جيوب مقاومة الإصلاح كما كان يسميها الزعيم الاشتراكي عبد الرحمن اليوسفي، ويسميها هو بالعفاريت والتماسيح، فالعفاريت سمتها الخفاء والتماسيح سمتها سرعة اقتناص فريستها..! وهذا التابث الثالث هو نتيجة للتابثين الأول والثاني، فأي مساس بالمرجعية الإسلامية للدولة أو بالمؤسسة الملكية من شأنه تقويض أركان الاستقرار ودخول البلاد فيما لا تحمد عقباه..! ومن تم يؤاخذ بنكيران على الحداثيين استهانتهم بأمر هذه المرجعية حين يوجهون سهامهم إليها، فهم في تقديره كطفل يلعب بعود الثقاب يمكنه إشعال النار في بيت وإحراق أهله وممتلكاته..! ختاما نقول أن هناك ثابت رابع يتبلور في الخطاب الكيراني الجديد وهو مناهضة التطبيع مع العدو الصهيوني ليس لأسباب خارجية كما يجري في فلسطين فحسب، بل أيضا لحسابات داخلية تتعلق بالاستقرار الذي يمكن أن يهدده الاختراق الصهيوني للمغرب دولة وشعبا.. بقلم أحمد الشقيري الديني