جاء من حزب إسلامي التوجه، وهو أول رئيس حكومة في تاريخ المغرب فمنذ الاستقلال إلى اليوم، عرفت البلاد ستة دساتير أولها سنة 1962 وآخرها دستور عام 2011، الذي حول منصب الوزير الأول لرئيس حكومة ووسع صلاحياته وسلطاته. التغيير لم يكن في المسمى فقط، بل شمل تغييراً في السلطات الدستورية والأدوار التي أنيطت بمؤسسة رئاسة الحكومة، وطبيعة العلاقة التي أضحت تحكمها بباقي المؤسسات الدستورية والأجهزة الإدارية. ولكن رغم هذا التغيير يَتَّهم الكثيرون عبد الإله بنكيران، أمين عام حزب العدالة والتنمية وأول رئيس حكومة في الحياة السياسية والدستورية المغربية أنه تنازل أو لم يستخدم السلطات التي منحها له الدستور. رئيس الحكومة هو الملك عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة وزعيم حزب العدالة والتنمية، بحسب تصريحاته السابقة وحواراته الأخيرة أيضاً، يكشف عن خلل ما على مستوى صلاحياته الدستورية. فقد قال بوضوح في حوار مع تلفزيون عربي عشية الانتخابات البرلمانية: “جلالة الملك هو رئيس الحكومة، وقبل ذلك هو رئيس الدولة بنص الدستور، ثم بعد ذلك هو أمير المؤمنين، ثم بعد ذلك هو القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية وكل الأجهزة التي تحتها، إذن في الحقيقة وحتى نكون واضحين جلالة الملك هو الذي يسيّر المغرب وهو الذي يحكم”. هل فشل بنكيران؟ أوضح عبد الصمد بلكبير، الكاتب والمحلل السياسي والمستشار السابق للوزير الأول عبد الرحمان اليوسفي (يساري) ما بين 2003-2009، أن عبد الإله بنكيران “بالمنطق السياسي الضيق فشل وتنازل عن صلاحياته الدستورية. غير أن بلكبير استدرك قائلاً “لكن يجب أن نعلم أن ميزان القوة أو ما يعرف بالمخزن، (تيار داخل الدولة يعتمد أسلوب الإدارة العتيقة في الحكم) في الأدبيات السياسية المغربية وهو أقوى من الحزب الحاكم، ولقد فرض على رئيس الحكومة ذلك الخيار، وهو ما يصرح به دائماً”. ويضيف عبد الصمد بلكبير، في حديث ل”هافينغتون بوست عربي”، أن “الدستور أعطى صلاحيات لرئيس الحكومة، ولكن لا توجد قوة سياسية في الميدان تعكسها وتعبر عنها، ما جعل رئيس الحكومة الحالي، أمام خيارين: الأول أن يكيّف الدستور بحسب ميزان القوة السياسي الفعلي؛ ما يعني أن يتنازل عبد الإله بنكيران، وألا يذهب في تطبيق الدستور إلى نهايته”. أما الخيار الثاني الذي يراه المستشار السابق فهو “أن يعاند رئيس الحكومة القوة السياسية الفعلية، ما سيحدث خللاً في المجتمع وداخل الإدارة في البلاد، وهذا لم يكن اختياراً لزعيم حزب العدالة والتنمية منذ اليوم الأول، وإلاّ لكان في صفوف المحتجين يوم 20 فبراير/شباط 2011 (مظاهرات للمطالبة بالإصلاح ضمن الربيع العربي)”. ويخلص المحلل السياسي، إلى أن “الدستور يعطي صلاحيات لرئيس الحكومة أكثر مما يسمح به ميزان القوة الفعلي، ولذلك وقع اختلال يشعر به الجميع”. دستور جديد وسياسة قديمة ونفس الشيء يراه حسن طارق، أستاذ علم السياسة والقانون الدستوري بجامعة الحسن الأول، في قوله: “لدينا اليوم دستور جديد ومتقدم، لكن مع ثقافة سياسية قديمة تتحكم في تطبيقه وتفعيله وتأويله، مما لا يجعل دائماً من احترام الشرعية الدستورية القاعدة السائدة، ولا يجعل الحياة الدستورية مطابقة دوماً للواقع السياسي”. وينبه أستاذ العلوم السياسية والقانون الدستوري، في حديثه ل”هافينغتون بوست عربي”، إلى أن “صلاحيات رئيس الحكومة الواردة في الوثيقة الدستورية لا تدخل حيز التنفيذ بصورة تلقائية، بل تبقى رهينة بصدور إذنٍ أو إشارة ملكية بتفعيلها، ما يعني، حسب المنطق السياسي لعبد الإله بنكيران، أن دستور 2011 لن يطبق إلا من خلال التوافق مع الملكية”. كما يشير حسن طارق، إلى أن عبد الإله بنكيران، زعيم حزب العدالة والتنمية الحاكم، يعتمد أسساً معينة في تصوره لصلاحياته وعلاقته كرئيس حكومة بالملك، إذ إنها “علاقة غير محدّدة تماماً بالدستور، كما أنها لا تقبل أن تكيّف كما في كل الرئاسيات الثنائية (في الدول التي يوجد بها رئيس دولة ورئيس حكومة وكلاهما له سلطات)، كعلاقة تعايش. مساعدة في الحكم لا اقتسامه وقال طارق إن “التكييف الوحيد الذي يدافع عنه بنكيران هو كون العلاقة علاقة تراتبية رئاسية. وبالتالي فوظيفة رئيس الحكومة في منطق بنكيران هي وظيفة المساعدة على الحكم وليس اقتسام جزء منه”. وقال المتخصص في العلوم السياسية “لقد استند عبد الإله بنكيران في خطابه السياسي الخاص، على مرجعيات ثقافة النخبة السياسية المغربية بيسارها ويمينها، ثم تاريخ الحركة الإسلامية المطبوع بعقدة الثقة، إذ ظل بنكيران لسنوات يحلم بورقة من السلطة تعترف بتنظيمه (بعد أن كان حزبه غير معترف به من طرف السلطة)، إضافة إلى قناعاته السياسية التي تشكلت واختمرت في مرحلة مراجعة الشبيبة الإسلامية (حركة محظورة)”. ويرى طارق، أستاذ علم السياسية والقانون الدستوري، أن منطلق تنازل بنكيران عن صلاحياته الدستورية لصالح الملك، يتجلى في أن عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة، “يقدر بشكل كبير مركزية ومحورية المؤسسة الملكية في النظام السياسي المغربي، ثم لأن بنكيران شعر بأن جهات عديدة داخل الدولة وداخل مؤسساتها، لا يمكن إلاّ أن تعادي بطبيعتها تجربة قيادة حزب مستقل في الحكومة، ناهيك عن مرجعية هذا الحزب الإسلامية”. كيف نجح رغم تنازله عن صلاحياته؟ استطاع أول رئيس للحكومة في المغرب، أن يرسم ملامح فرادة واختلاف في شكل التعبير السياسي ومضمونه عن سابقيه من الوزراء الأولين. يقول عبد الصمد بلكبير، الكاتب والمحلل السياسي، والمستشار السابق للوزير الأول عبد الرحمن اليوسفي (يساري)، ل”هافينغتون بوست عربي”: “رئيس الحكومة ظاهرة إعلامية وفاجأ الجميع بهذه الميزة، وبقدرة على التواصل نادرة المثيل، ساعدته على أن لا يترك امتيازاً للمعارضة”. ويعتبر بلكبير أن رئيس الحكومة عبد الإله بن كيران “بطريقته في التواصل حاول أن يوضح للشعب بأنه يعيش مضايقات من جهة معينة، وصفها بلغة تفهمها الجماهير وهي العفاريت والتماسيح”. “وفي المقابل كان عبد الرحمن اليوسفي” يتابع المتحدث، “وهو يقود حكومة التناوب يعيش نفس الوضعية على مستوى المضايقات، لكن لم يستطع أن يترجمها للشعب والجماهير”. وبالتالي فالخطاب السياسي لرئيس الحكومة “رفع من شعبيته رغم قراراته القاسية، وهي حالة نادرة سياسياً حتى على المستوى العالمي”، حسبماً يرى عبد الصمد بلكبير. تواصل أم شعبوية؟ بدوره، يرى إدريس عيساوي، المحلل السياسي والخبير في التواصل والإعلام، أن رئيس الحكومة “وضع لنفسه مخططاً تواصلياً محكماً، إذ إنه خرج من عزلة رئاسة الحكومة ليخاطب الشعب، معتمداً في ذلك على لغة جديدة، غير معهودة عموماً في سابقيه من وزراء أولين (قبل تحويل المنصب لرئيس حكومة)”. وأضاف عيساوي، في حديث ل”هافينغتون بوست عربي”، أن أسلوب التواصل السياسي الذي يسميه خصوم رئيس الحكومة ب”الشعبوي”، أكسب بنكيران جمهوراً جديداً. وقال المتخصص في التواصل إن بنكيران “فتح بهذا الأسلوب التواصلي مجالاً كبيراً لمنصب ولمؤسسة رئاسة الحكومة، فمثلاً كل ما كان يقال في الكواليس بدأ بنكيران يقوله جهراً ما جعل منصب رئيس الحكومة بارزاً وله تفاعل كبير”. ويشدد إدريس عيساوي، على أن “ما قام به بنكيران على المستوى التواصلي شيء جيد لمؤسسة رئاسة الحكومة، فهو الأمر نفسه الموجود في الديمقراطيات العريقة؛ أي أن يخرج رئيس الحكومة للرأي العام ليدعم برامجه وإصلاحاته ومبادراته”. وخلص المحلل السياسي والخبير في التواصل والإعلام، إلى أن “المغاربة لهم اليوم تجربة في التواصل لرئيس الحكومة، وعلى من سيأتي بعد بنكيران أن يدلي بأسلوبه لكن بنفس المنطق، إن على مستوى البرلمان أو في التجمعات أو على مستوى التواصل الاجتماعي”.