الاهتمام بالفلسفة هو طريق يُكسبنا آليات التفكير ويساهم في تجويد طريقة نظرتنا للأشياء وهو ما ينعكس إيجابا على حياتنا. ليست الفلسفة شَرا يُبعدنا عن الله، وإلا كيف نفسر ملازمة الفيلسوف سبينوزا طيلة حياته، لعائلة مسيحية متدينة ولم يؤثر فيها بأفكاره حتى أنه حين مات، كانت العائلة تؤدي صلواتها في الكنيسة. كما أن الفلسفة لا تملك الحقيقة وإلا كيف نفسر فلسفة توماس هوبز التي تُنظِّر للنظام السلطوي وفلسفة روسو التي تُنظِّر للديمقراطية. الفلسفة هي طريقة في التفكير والاهتمام بها ضرورة مجتمعية ولا وجود لفلسفة يمكنها هزم الدين. " الدين يُفسر للعقل ما هو عاجز عن تفسيره أو فوق طاقته كالقضايا الغيبية. بالمقابل الفلسفة باعتمادها على العقل تساعد على توضيح ما هو غامض من الشريعة وتُدعم بالأدلة العقلية ما أتى به الدين" الفيلسوف الكندي
الحديث عن نشأة الفلسفة يجرنا إلى الحديث عن أمرين اثنين: مكان نشأة الفلسفة وزمان نشأتها. وتحديد هذه النشأة هو في غاية الصعوبة لأننا نتحدث عن موضوع قديم قدم الإنسان وقدم التاريخ. وقد اجتهد المؤرخون كثيرا للاقتراب قدر المستطاع من الحقيقة معتمدين على ما توفر بين أيديهم من وثائق وكتب الفلاسفة القدامى. هكذا استطاع المؤرخون الغوص في التاريخ ليستطيعوا الوصول إلى القرن السادس قبل الميلاد معتمدين على مؤلفات وكتب كل من أفلاطون وأرسطو التي تحدثت عن حقبة سابقة لم يكن فيها فلاسفتها يُدَوِّنُون نظرياتهم "كطاليس" و"فيتاغور" وخاصة "سقراط". لذلك يُجمع المفكرون على أن نشأة الفلسفة كانت في أرض اليونان، وأول كتب الفلسفة هي ما دونه أفلاطون وأرسطو، ومن خلالها تعرفت البشرية على حقبة ما قبل سقراط وتلميذه أفلاطون. على هذا الأساس يمكن الحديث عن توجهين في تحديد نشأة الفلسفة: توجه يعتمد على التسلسل التاريخي للفلاسفة القدامى، وتوجه يعتمد منهجية المدارس الفلسفية ويميز بين حقبة الفلسفة القائمة على الحكمة التي لا وجود لوثيقة أو كتاب يطرح نظرياتها وهي حقبة ما قبل سقراط، وحقبة ما بعد سقراط أي المرحلة التي دَوَّنَ فيها الفلاسفة نظرياتهم على شكل رسائل أو كتب. التسلسل التاريخي لنشأة الفلسفة: أقدم الكتب التي تحدثت عن الفلسفة هي الكتب اليونانية وخاصة كتب "أفلاطون" و"أرسطو"، وهي الكتب التي جعلت الفكر الإنساني يتطلع إلى الحقبة السابقة عن عصر الفيلسوفين. هذا لا ينفي وجود فلسفات أعرق من الفلسفة اليونانية كانت حاضرة في الحضارات القديمة كالحضارة المصرية والآشورية والبابلية وربما تأثرت الفلسفة اليونانية بأفكار هذه الحضارات بسبب الموقع الجغرافي المتميز لأثينا وعلاقاتها التجارية عبر محيط آسيا الصغرى. فقد كانت السفن الحربية تتحول بعد انتهاء الحرب إلى سفن تجارية تجوب البحار والأقطار وهو ما سمح للفلاسفة اليونانيين الاطلاع على أفكار ونظريات الشعوب الأخرى. كُتُب أفلاطون وأرسطو ساعدت على تحديد مراحل تطور الفكر الفلسفي وفق التقسيم التالي: -أ- مرحلة ما قبل الحكمة: وهي مرحلة كان فيها الفكر الإنساني عاجزا عن تفسير العديد من الظواهر التي تُفسد عليه حياته كالفيضانات والزلازل والبراكين والحرائق والرعد والبرق وغيرها من الظواهر. وهذا الإنسان بفطرته كان يرد هذه الظواهر إلى قوة خارقة فوق العالم الذي يعيش فيه وفوق إدراكه، وهي قوة كان يُسميها بالإله أو بالآلهة حيث كان يُعطي لكل ظاهرة طبيعية إلها. فنجده يعتقد بإله البرق وإله النار وإله الشمس أو السماء وغيرها من المعتقدات. الفكر الإنساني في هذه الحقبة من التاريخ كان يفسر جميع الظواهر بقوى غيبية خارقة كقوى الخير وقوى الشر وهي قوى يتعامل معها على أساس أنها تريد له الخير أو تريد له الشر، وهو ما جعل هذا الفكر يمتزج بالخرافة والأساطير التي تنتشر بين الإنسان لتصبح حقيقة يصدقها الجميع. نذكر على سبيل التوضيح أسطورة أو خرافة تقول إن صراع الآلهة فيما بينها ينتج عنه كوارث طبيعية، أو زواج إله مع الإنسان ينتج عنه ظواهر أخرى وكائنات عجيبة كالتنين الذي لا يُقهر. -ب- مرحلة الحكماء: وهي فترة تاريخية من الفكر الإنساني تميزت ببروز نخبة من المتعلمين كانت لها القدرة على تطوير طريقة تفكير الناس باعتماد آليات جديدة كالتأمل والملاحظة والتفكير. هذه النخبة هي التي يمكن وصفها بالحكماء الذين شرعوا في طرح الأسئلة ومحاولة الجواب عنها خارج الطريقة السائدة والقائمة على تفسير كل شيء بالقوى الخارجية أو القوى الخارقة. هؤلاء الحكماء طرحوا أسلوبا جديدا في الجواب على الأسئلة بالتوجه نحو الطبيعة أو العالم الذي يعيشون فيه. لم تخرج الأسئلة المطروحة من قبل هؤلاء الحكماء عن دائرة ما هو موجود في عصرهم، لكن الجديد الذي أبدعوا فيه هو طريقة وأسلوب أجوبتهم عن هذه الأسئلة في محاولة منهم لتجاوز الفكر الخرافي الذي كان منتشرا ويُصدقه الجميع. في هذه المرحلة برز على الخصوص أربعة حكماء على رأسهم "طاليس" الذي قال بأن أصل الكون هو الماء الذي انبثق عنه كل شيء، و"فيتاغورس" الذي فسر العالم بمعادلات رياضية وعددية، و"ديموقريطس" الذي أرجع أصل العالم إلى دقائق أو وحدات صغيرة متناهية الصغر وأزلية ومتحركة هي الذرة، وأخيرا "هيراقليتس" القائمة فلسفته على التغيُّر والتحوُّل المستمر والذي قال إن علة وجود الكون هي النار. بطبيعة الحال هذه الخلاصات أصبحت متجاوزة في عصرنا الحالي الذي تطور فيه الفكر الإنساني بشكل كبير. وينبغي ألا ننسى أننا نتحدث عن حقبة القرن السادس قبل الميلاد، وما يهمنا في هذه الفلسفة ليس خلاصاتها وإنما قدرتها على تطوير الفكر الإنساني لينتقل من فكر معتمد على الخوارق والخرافات والتفكير الأسطوري، إلى فكر يستعمل العقل بواسطة أدوات جديدة كالتأمل والملاحظة والتحليل، وهو إنجاز كبير في وقته بل يمكننا القول إنه إنجاز ساهم في وصول الفكر الإنساني لما وصل إليه في عصرنا الحالي. -ج- مرحلة ظهور الفلسفة: يُجمع الكثير من المؤرخين على أن ظهور الفلسفة كعلم وكآليات جديدة لطريقة التفكير بدأ مع سقراط في القرن الخامس قبل الميلاد. هذا الأخير عاصر ما يُعرف بالسفسطائيين وهم مجموعة من المتعلمين يُدرسون الحكمة للناس مقابل مبلغ مادي، يُعلمونهم كيفية المجادلة وكيفية النقاش وكيفية الإجابة عن الأسئلة. سقراط كان لا يتفق مع هؤلاء السفسطائيين وراح يجوب شوارع وأسواق مدينته أثينا لينشر أفكاره وحكمته بين الناس وكان في كثير من الأحيان ما يدخل في مجادلات مع السفسطائيين. تجتمع أغلب القراءات والدراسات على أن فترة سقراط هي فترة الظهور الحقيقي للفلسفة. فسقراط ولئن كان لا يُدوِّن نظرياته في رسائل أو كتب، فقد ظهر من بين تلامذته من استطاع نقل وتدوين أفكاره بل وتطوير الفكر الفلسفي بشكل عام لتتبعه نهضة فكرية وعلمية استمرت حتى وقتنا المعاصر. على رأس هؤلاء التلاميذ فيلسوفين اثنين امتدت شهرتهما على مدى العصور هما أفلاطون وأرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد.