يبدو أن مافيات تهريب أشجار النخيل بضواحي أكادير تصر على تدمير الواحات كمكون مجالي وبيئي من خلال توسيع عملياتها لتشمل كل الواحات لسببين. أولهما تحقيق ربح سريع في وقت قياسي على هذه الأشجار التي تتحول من مورد عيش آلاف العائلات بمجموعة من الواحات على امتداد الوطن ، وثانيا تزايد الطلب عليها وتحويلها إلى ديكورات لتزيين الشوارع ومداخل الفيلات والفنادق بمختلف المدن المغربية. فبعد بوعرفة وفكيك وزاكورة وورزازات و مراكش وغيرها من الواحات التي شهدت نفس الظاهرة، والتي تعبأت فعاليات مدنية بيئية للتصدي لها ، يزحف “لصوص النخيل” إلى واحات سوس التي تشهد عمليات تدمير وصفها نشطاء بيئيون ب”الممنهجة” على وثيرة قياسية جعلت هاته الواحات تفقد جزءا كبيرا من ثروتها من النخيل في بضعة أشهر أمام لامبالاة وصمت رهيب . فحصاد التهريب ابتدأ من واحة تيكوين، ثم واحة أيت واسيف في اتجاه واحة ايغالن وانتهاء إلى واحات تينيرت . وإذا استمر الحال على ماهو عليه فقد يستيقظ سكان الواحات يوما دون أن يجدوا نخلة واحدة بواحاتهم، بعد أن ظلت إلى وقت قريب غنية بهذه الثروة التي جادت بها الطبيعة على المنطقة منذ مئات السنين قبل أن تمتد إليها أياد آثمة لاهم لها سوى مراكمة الثروات ولو على حساب بؤس فلاحين وجدوا أنفسهم محاصرين بالفقر والجفاف. بنيات تحتية منعدمة ، طبيعة لم تعد كريمة كما كانت، أناس بسطاء بملابس رثة يعلوها الغبار، مساكن ترابية بسيطة مثناترة هنا وهناك، الفقر يسكن كل مكان، هذه هي تامري التي لا يطالب سكانها إلا بالشروط التي تضمن لهم الحد الأدنى من العيش الكريم في هذه الرقعة من المغرب العميق التي تركوا فيها يواجهون مصيرهم لعقود دون أن تدمجهم مشاريع وأوراش التنمية التي لايعرفون عنها شيئا . كانت عقارب الساعة تشير إلى السادسة و 24 دقيقة مساء، عندما صادفنا على بعد حوالي 3 كيلومترات من سد عبد المومن ، شاحنة من نوع ” ايزوزوISSUZU ” قادمة من منطقة تامري في اتجاه مدينة أكادير محملة بعدد مهم من أشجار النخيل . الناقلة كانت تسير بسرعة تزيد عن ال 90 كيلومترا، مما يعطي انطباعا بأن سائق الشاحنة ومرافقه كانا في عجلة من أمرهما وأنهما كانا يسابقان الزمن لإيصال حمولة الشاحنة المهربة إلى الوجهة المقصودة. النخيل يجتث ليلا ويهرب محمد ، واحد من شبان المنطقة الذين استفسرناهم لدى وصولنا إلى دوار سيدي عبد الرحمان عن بداية ظاهرة اجتثاث وتهريب أشجار النخيل بهذه المناطق التابعة إداريا لجماعة تامري، حيث أفاد أن مافيات النخيل شرعت في عمليات اجتثاث الأشجار وتهريبها منذ مدة ، حين حل فريق من عمال ومشغلهم بالمنطقة وبدؤوا اتصالاتهم بالسكان وشرعوا في اجتثاث أشجار النخيل وخاصة الطويلة منها ونقلها على متن شاحنة كبيرة من نوع ” رموك “. يشتغل العمال نهارا في اقتلاع الأشجار وجرها عبر توظيف جرار إلى منطقة لتصل الشاحنة ويتم تحميلها بعد سقوط الظلام باستعمال رافعة حديدية ، فتتجه الشاحنة المحملة بعشرات الأشجار لتفرغ حمولتها في منطقة غير بعيدة ، و تعود لتقوم برحلة ثانية خلال نفس الليلة ، مما يؤكد أن الشاحنة تفرغ حمولتها بأكادير ،أو أن هناك شاحنات أخرى يعهد إليها بنقل النخل إلى وجهة أخرى . كل هذا يتم بيسر من لدن عدد من أبناء المنطقة الذين يشتغلون مع المهربين مقابل 25 درهما عن كل نخلة يتم إقناع صاحبها ببيعها. أولى واحات ضحايا عمليات اجتثاث الأولى واحة تيكوين الواقعة بين دوار امزوغن وتيكوين، ثم واحة أيت واسيف قرب دوار أيت توكا. عمليات الاجتثاث بالواحتين تتم بسير لسهولة الوصول إليهما وإمكانية ولوجهما من طرف الشاحنة التي لم يكن حجمها الكبير ووعورة المسالك يسمح بالوصول إلى باقي الواحات . إبان بضعة أشهر ، تمكن هؤلاء من تهريب المئات من أشجار النخيل ومراكمة الترواث، إذ أن بيع النخلة الواحدة التي تقتنى بمائة درهم في أحسن الأحوال يبيعها “المهربون” بنحو عشرة آلاف درهم ونيف ، بل أن بعض الفلاحين، حسب روايتهم، لم يحصلوا على هذا المبلغ الزهيد الموعود به، ليقعوا ضحايا احتيال مزدوج ، المرة الأولى عندما تم استغلال أوضاعهم الاجتماعية لإقناعهم ببيع أشجار النخيل ، والمرة الثانية عندما قام المهربون بمغادرة المكان بعدما نهبوا ما تيسر من هذه الثروة الثمينة دون دفع الثمن المتفق عليه للفلاحين. تهريب النخيل في واضحة النهار بعد عدة شهور تمكن خلالها المهربون من قضاء مآربهم ونهب جزء هام من أشجار النخيل بهذه الواحات ، حل فريق جديد منذ شهر أكتوبر ليواصل العملية بنفس الطريقة ، ولكن بحدة أكثر، إذ تم استقدام فريق من العمال واكتراء منزل بدوار ايغالن لإيوائهم. هؤلاء يباشرون عمليات الحفر حول الأشجار المتفق على اقتلاعها ، ليصل الجرار حوالي الساعة الرابعة بعد الزوال وتتم عمليات الاقتلاع وسحب أشجار النخيل إلى منطقة قريبة من الوادي ، حيث تنتظر شاحنة من نوع ISSUZU يتم تحميلها “السلعة” عبر توظيف رافعة حديدية لتتحرك الشاحنة في واضحة النهار في اتجاه مدينة مراكش حسب ما أكدته لنا مصادر من المنطقة . وتتواصل العملية في اليوم الموالي بنفس الطريقة ، بل تتوسع لتشمل واحات تينيرت المتواجدة بمنطقة جبلية وعرة ، ثم واحة ايغالن التي لم تسلم بدورها من عمليات التخريب هاته والتي أجهزت على جزء غير يسير من هذا المجال الواحي الذي يتميز بتفرده وجاذبية مشهده الطبيعي . مافيات تستغل فقر الفلاحين وعوزهم لعل أهم العوامل التي يبرر بها الفلاحون بيع أشجار النخيل تبقى الفقر وغياب موارد قارة للعائلات لتدبير شؤون الحياة اليومية ، حيث ساهم توالي سنوات الجفاف وندرة المياه في تفقير الفلاحين وحرمانهم من بعض الموارد الأساسية التي كانوا يعولون عليها في تدبير شؤون حياتهم وخاصة المبالغ التي كانوا يحصلون عليها من تجارة الرمان، والذي كان يتم تسويقه عبر مختلف المدن المغربية نظرا لجودته الفريدة التي جعلت الطلب عليه يرتفع باستمرار، إلا أن تعدد الوسطاء أفسد على الفلاحين الاستفادة من هذه المداخيل. إذ يجد الفلاحون الخلاص الوحيد هو الاستجابة لطلبات بيع أشجار النخيل في غياب مشاريع مذرة للدخل تعوضهم عن الموارد التي فقدوها . وبمرارة وقلب يعتصر ألما ، عبر لنا إبراهيم ، الشيخ الذي يجر وراءه 80 عاما عن تذمره الشديد مما آلت إليه الأوضاع ، قائلا بحسرة لم يستطع إخفاءها : ” هاد الشباب دياولنا ماعارفينش القيمة ديال هاد الشجر اللي كايبيعو لهاد الشفارا ب 2 دريال ، احنا ورثنا هادشي من جدودنا وجدود جدودنا وبقينا محافظين عليه حتى وصلناه ليهوم ، أو هاهوما تيضيعوه ، ويلا بقينا هاكدا ، ماغادي تبقا حتى نخلة هنايا ، أوغادي ايجي شي نهار خصنا نرحلو من هنا …” . غياب التأطير الفلاحي يساهم في تفاقم الظاهرة ” راه كانبيعو ليهم غير النخل الذكر لي ماتيعطيش الثمر ، والنخل النتوا( الأنثى ) اللي كاتعطينا الثمر ما تنبيعوهش ، حيث هوما بغاو يديوه ايزوقوا بيه الفيلات أولوطيلات ، ماعندهوم مايديرو بشي ثمر ” ، هكذا خاطبنا علي ، فلاح في عقده الرابع بعدما أكد لنا أنه باع أزيد من 30 نخلة حصل منها على مبلغ لم يتجاوز 1500 درهما مكنته من شراء الأدوات المدرسية لأبنائه الخمسة الذين يدرسون بالابتدائي خصوصا بعد التراجع الكبير لإنتاج الثمور. هذا الفلاح وغيره يجهل دور النخيل الذكر في تلقيح النخيل الأنثى لإعطاء الثمار ، ليسود بذلك اعتقاد خاطىء في صفوف الفلاحين يجعلهم لايقدرون قيمة الثروة التي يتوفرون عليها والتي ورثوها عن أجدادهم ، في ضل غياب أي دور للمصالح الفلاحية المسؤولة عن الإرشاد الفلاحي ، والتي أكد لنا الفلاحون الذي التقيناهم أنهم لايعرفون أي شيء عنها ، إذ كان من المفروض تنظيم حملات تحسيسية لساكنة الواحات من الفلاحين المستضعفين المغلوبين على أمرهم الذين ينشغلون بتدبير لقمة العيش بكل الطرق الممكنة ، ناسين مصير أبناءهم وأحفادهم . إضافة إلى الأدوار الموكولة لمكاتب الإرشاد الفلاحي في توجيه الفلاحين ومساعدتهم وتطوير تقنيات الاستغلال لرفع الإنتاجية والمساهمة في استقرار السكان والحفاظ على الثروة . لامبالاة السلطات وصمتهم يثير استغراب الفعاليات أمام الوضع الذي يهدد تدمير واحات اكادير التي عمرت لقرون ، تستغرب العديد من الفعاليات الجمعوية بالمنطقة من موقف السلطات المحلية والمنتخبين الذين اختاروا موقف المتفرج، بل يتم الحديث عن تواطؤ مكشوف مع عصابات التهريب ، ويتساءل سعيد ، رئيس إحدى الجمعيات المحلية : هل يتم الترخيص لهذه المافيات ممن طرف السلطات ؟ . في الوقت الذي تراقب فيه السلطات بهذه المنطقة “كل صغيرة وكبيرة عندما يتعلق الأمر ببعض الأشغال البسيطة التي يقوم بها السكان لترميم أو إصلاح أو تشييد بنايات متهالكة ، تتدخل في الحين وبسرعة قياسية ، بينما تتغاضى عن هذه الجريمة البشعة في حق ثروة تلعب دورا هاما في التوازن الايكولوجي والاقتصادي لساكنة عريضة . وإذا استمرت الأوضاع على ما هو عليه اليوم، فإنها ستؤول لا محالة إلى الاندثار والزوال ، لذلك يعتبر انقاد هذه الواحات مسألة استعجالية يجب أن تحظى بالأولوية المطلقة” يحكي سعيد في مرارة وتعسر . وإذا كانت الواحات قد نشأت في فترة كانت ساكنة المنطقة أقل بستة مرات مما هي عليه الآن، وكانت المؤهلات الطبيعية تطابق عدد السكان ، وضل التوازن قائما بفعل الانسجام والتآزر الاجتماعيين والانضباط الجماعي ونجاعة التقنيات المستعملة ، فإن هدا التوازن قد اختل تماما في الوقت الراهن . وهو ماحدا بوزارة إعداد التراب الوطني والماء والبيئة في الحكومة السابقة خلال الحوار الوطني حول الماء إلى تقديم خطة لتهيئة وتنمية الواحات بالمغرب قصد تشخيص واقع حالها ووضع إستراتيجية لتنميتها وتأهيلها وإعادة الاعتبار لهذه الفضاءات الحساسة . وإذا كان المجتمع المدني بالعديد من المناطق الواحية قد تحمل مسؤوليته وتدخل بشكل فاعل للفت الانتباه والوقوف أمام الظاهرة والحد من النزيف ، فان ضعف الجمعيات بتامري يحول دون ذلك ، وهو ما أكده أحد الفاعلين الجمعويين ، وأشار المصدر أن عددا من الفلاحين تربطهم علاقات عاطفية بأشجار النخيل تجعلهم يقاومون محاولات إغرائهم . كما أن المنطقة مدرجة ضمن المدار السياحي المار من إيموزار إلى تامري مما أفقد المنطقة جاذبيتها بشكل كبير . المثير أيضا ، يضيف نفس المصدر، أن الشاحنات التي تنقل النخيل تمر على العديد من الحواجز الأمنية التي تنتصب على طول الطريق دون أن يتم تطبيق القانون في حقها خصوصا أن الدولة عبرت على أعلى مستوى على ضرورة العناية بالواحات وإعادة الحياة لها، من خلال العمل على حمايتها والاستفادة من منافعها الاقتصادية، فضلا عن تمكين سكانها المعنيين من جني العائدات الناتجة عنها، وتحسين ظروفهم المعيشية. وأثمرت محاولات بعض الفاعلين الجمعويين لتحسيس الفلاحين بقيمة هذه الثروة ، حيث رفض سكان دوار أيت توكا التعامل مع المهربين رغم الضغوطات التي يتعرضون لها من طرف الوسطاء ورغم الهشاشة القصوى التي يعيشون عليها. ويبقى الأمل معقودا على تدخل عاجل بهذه المنطقة المهمشة والمقصية من البرامج التنموية ومن أوراش المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي لم يلمس منها السكان شيئا ، وعلى أن يستيقظ ضمير المسؤولين والسلطات العمومية لاستحضار المصلحة العامة للتصدي لهذه الظاهرة الخطيرة والإطاحة برؤوس المتورطين ومحاسبتهم . كما بات من الضروري اتخاذ التدابير المؤسساتية والتنظيمية والقانونية في هذا الصدد عبر إصدار قانون يجرم اقتلاع أشجار النخيل والمتاجرة فيها ، لصيانة الواحات وتشجيع إعادة زراعة الأشجاربها حتى تستمر في لعب يقوم وظيفتها في الحفاظ على التوازنات البيومناخية والايكولوجية التي تمكن من مواجهة زحف الصحراء ، إلى جانب وظائفها الاقتصادية والاجتماعية .