تعيش العديد من البلدان العربية والمغاربية في الآونة الأخيرة، منذ ما يزيد عن سنة، حراكا شعبيا وسياسيا، قضت فيه أنظمة نحبها وجرفها السيل ورحلت، ومنها من تنتظر نوبتها اللازبة ودورها المحتوم.. فسطع في سماء هذه المدلهمات نجم السياسة ولمع بريقها، وقويت جاذبيتها، وانتعشت بمقدار زائد بضاعة السياسيين والحقوقيين والقانونيين، وعلت أصواتهم بالمطالب الجديدة/ القديمة، واهتبلوها فرصة لتحقيق ما عجزوا عنه لعقود من الزمن من إصلاحات وتغييرات، إن أحسنا الظن بهم، أو الركوب على هاته الأوضاع غير المستقرة للانقضاض على السلطة والظفر بالنصيب من الكعكة، إن أسأنا الظن بهم… إلا أن الصادم والخطير، وربما الأخطر، في هذا المشهد، هو غياب صوت الفكر والثقافة والعلم والمعرفة وخفوته، وتواري من يمثله عن الأنظار وانحساره.. الشيء الذي يجعلنا غير مرتاحين ولا مطمئنين لما ستؤول إليه الأمور في المستقبل المنظور واللامنظور.. القريب والبعيد.. ذلك لأن هذا الحراك وهذه التحولات تأتي في ظرف ” استقال ” فيه المثقف، وتراجع فيه دوره الريادي المعروف والمشهود تاريخيا في قيادة المجتمع وتوجيهه، وعرف نكوصا واضحا في أداء وظيفته ورسالته التنويرية التي مافتئ يقوم بها في حياة الشعوب على امتداد التجارب التاريخية … فأين المثقف والمفكر والعالم مما يحصل من تحولات وتحركات وانتفاضاتوثورات في حياتنا ومحيطنا؟ ومن يقودها ويمسك خيوطها ويدير دواليبها؟.. نحن لن نذهب – في هذا التوصيف – إلى حد اعتبار المثقفين ” فئة ضالة ومضللة لأنها تضيع وقت الناس فيما لا طائل منه!” وأنهم ” فقدوا دورهم التنويري النبيل وأصبحوا أشبه بقطعان من البشر فقدت الذاكرة ” ولم يعد هناك أي معنى لوجودها، كما ذهب إلى ذلك أحد المفكرين الفرنسيين، أو حد اتهامهم بالخيانة ووصفهم بالدجالين كما عبر عن ذلك آخر، أو أن نذهب مذهب من دعا إلى دفنهم مع الموتى، مثلما فعل الكاتب المصري الدكتور سعيد اللاوندي في مقال على الانترنيت… ولكننا نقول بأن غياب هذه النخبة في هذا المخاض الذي تعيشه الساحة المغاربية والعربية ملحوظ، وأن صمتها وسط هذا الحراك مسموع، وأن صوتها لا أثر له.. وهذا، لعمري، وضع غير سليم وغير صحي ويجب أن يعالج، وواقع مرفوض ولابد أن يزول ويرتفع.. إننا نقول هذا الكلام انطلاقا من إيماننا بالأهمية المركزية والمحورية لهذه النخبة في أي إصلاح مأمول أو تغيير منشود، فهي على الدوام من يجب أن يكون في طليعته ويقوده، ويحدد معالمه وعناوينه، ويرسم مساره واتجاهه… إن المسألة الثقافية، في اعتقادي، لم ندرك بعد أهميتها في أي عملية إصلاحية وبنائية، ولم تأخذ بعد حجمها الحقيقي في تفكيرنا وتصورنا.. فهي الأصل وهي القاعدة وهي الأرضية التي يتأسس عليها أي بناء.. وهي التي تضع خريطة طريق التغيير السليم، وهي التي تضمن له النجاح والتوفيق في تحقيق أهدافه و بلوغ غاياته ومقاصده.. إن أي ثورة شعبية لم تكن ذات خلفية ثقافية، ولم تتأسس على هذه الأرضية، أو لم تنطلق من هذا المنظور، فلن تكون لها نتائج عميقة وحقيقية على أرض الواقع، ولن يحقق التغيير الذي يحصل من ورائها أبعاده التربوية والفكرية والحضارية، ولن تتجاوز محصلتها النهائية بعض المظاهر والصور والأشكال، وبالتالي ستأخذ هذه الثورة طابعا صوريا وشكلانيا، تثير الأرض ولا تسقي الحرث، تغلب عليها الغوغائية والغثائية.. يزينها لمعان القوانين المقتبسة، ويجملها بريق النصوص المستأجرة، تجعل أصحابها يعيشون في وهم اسمه التغيير والإصلاح والنجاح… ولكنهم، في حقيقة الأمر، أبعد ما يكونون عنه.. صحيح أن السياسة والاقتصاد يحققان المدنية والتنمية، ولكنهما لا يبنيان حضارة.. فللسياسي إكراهاته وحساباته، وللمفكر أو المثقف أو الفيلسوف نسقه ونظامه… عملية الإصلاح والتغيير الحقيقية هي ثقافة وتربية وتنشئة.. هي فعل قاعدي وليس فوقيا، يؤطره وعي اجتماعي وتربوي عميق، ينطلق من الفرد ويمتد إلى كافة مؤسسات المجتمع.. إن مبلغ أي مجتمع من الوعي والتنشئة السليمة يعكسه سلوك أفراده، وطبيعة العلاقة السائدة بينهم، وكيف ينظر أحدهم إلى الآخر… فالمجتمع الذي لا تزال ترى فيه من يرمي حاويات ما أكل أو شرب أو ما فضل من سيجارته على قارعة الطريق، أو يضع نفايات الأزبال في غير محلها، أو يعتدي على الممتلكات العامة من بنايات ووسائل النقل العمومية وأجهزة الاتصالات وغيرها، أو يتنخم فيبصق على الأرض، والناس من حوله، دون أن يثير هذا السلوك أدنى حساسية أو تحفظ أو اشمئزاز أو تقزز لا من الفاعل ولا من الشاهد… والمجتمع الذي تسأل أحد أفراده – في الفترة التي تقرر فيه حكومة البلد من السنة زيادة ساعة عن الوقت العادي – كم في الساعة، أو تتفق معه على موعد، فيسألك هل التوقيت القديم أم الجديد؟… والمجتمع الذي لا زال أفراده ينظرون إلى الطريق من مواقعهم الريفية وبعقلية بدوية، بحيث نلاحظ أن المشاة مثلا ” يعتبرون طرق السيارات هي جزء من مجال حركتهم التي يمكن ممارستها بحرية ودون ضوابط ” (1) فيسيرون في الشوارع كيفما اتفق، ويقطعون الطريق حيثما اتفق، مع وجود علامات تشير إلى الأماكن المخصصة لذلك.. هذا عن المشاة، أما السائق، فسيارته ” التي تعدل المصانع مواصفاتها وخصائصها باستمرار وسرعة، فتتضاعف سرعتها، وتسهل قيادتها، رغم تعقد أجهزتها الحديثة، لم يصاحب تطورها تغيير في وعي السائق لها، ولم يتجاوز اعتبارها وسيلة للنقل والانتقال وحسب ” (2)… مجتمع هذه صورته وهذا مبلغه على ” صعيد الفكر والقناعات والصور الذهنية ” على حد تعبير الأستاذ زهير حطب، لا أعتقد أنه بلغ مرحلة الحضارة أو التحضر، وإن كان يعيش في المدينة، بمعنى أنه لن يستطيع استيعاب أشكال وصور المدنية والتقدم ويتفاعل معها بإيجابية، لأن السلوكات والصور والإشكال والمظاهر هي ترجمات فعلية وواقعية للتصورات الاعتقادية والذهنيةوالرؤى الفكرية.. ولذلك لا يمكن تصور تجاوب وتفاعل مجتمع ما مع معطيات الحداثة والعصرنة والمدنية، وتمثلها بشكل إيجابي، ما لم ينشأ ويربى عليها ويتعلمها ويدرسها ويوعى بها. مجمل القول هنا هو إننا في حقيقة الأمر في حاجة ماسة وأولى إلى ثورة فكرية وثقافية وعلمية.. ثورة على نمط معين من الأفكار وهي ” الأفكار الميتة ” السائدة، من جهة، وثورة على نمط معين من العقليات وهي العقليات المميتة المهيمنة.. وهذا النوع من الثورات لا يقوم بها إلا نخبة واحدة في المجتمع ألا وهي النخبة المثقفة.. فلتنهض، إذن، الأنتلجانسيا العربية والمغاربية من سباتها، ولتخرج من جبها، ولتنفض عنها الغبار، ولتستعد زمام قيادة المجتمع الأهلي والحياة المدنية … فلا إصلاح حقيقي ولا تغيير فعلي بدونها. ذ. الحسين فرحت الهوامش (1) زهير حطاب، ضحايا حوادث السير وعلاقتها بالتطور الحضاري في البلاد العربية، ص179