هل يمكن الاعتقاد أن أزمة الثقافة العربية اليوم تعكس أزمة الواقع السياسي الحالي الذي يشهد إخفاقات كثيرة في شتى المجالات،أم أن الثقافة تتحرك وتتطور بمعزل عن العامل السياسي؟ في تاريخ الشعوب والمجتمعات غالبا ما تستبطن الأزمة الثقافية بوادر الأزمة السياسية،فكلما كان هناك نضوب معرفي وشح في نسبة تدفق صبيب الإبداع والابتكار إلا وكان ذلك مؤشرا عن نكسة سياسية تتخللها مراحل قصيرة من الحلول المؤقتة التي يطغى عليها الطابع الارتجالي الذي يستجيب للحظة الآنية وليس للمدى المتوسط أو البعيد،حيث يكون الهاجس المتحكم لدى الفاعل السياسي في هذه الوضعية هو محاولة تأخير الأزمة عبر حلول ترقيعية هدفها الاستمرار في تغليط الرأي العام وإيهامه بضبط إيقاع التسيير وتدبير الأزمة بشكل يوحي بأن الحلول المقترحة ستكون سببا في معالجة المشكلة تفاديا لنقد توجهاته وتجريده من منصب المسؤولية. وفي حقيقة الأمر لا يمكن للسياسة أن تستغني عن الثقافة،ولا يمكن في نفس الوقت أن تكون بديلا عنها،فالفعل السياسي لن يستقيم إلا إذا كان مصحوبا بخلفية معرفية ونقد ثقافي مستمر ومتسم بالحياد،ويبدو أن امتداد السياسة إلى الحياة الثقافية في عالمنا العربي يظهر من خلال توجيه السلطات العامة لمسار المجال الثقافي بذريعة حماية الأمن الروحي للمجتمع والحفاظ على هويته من الاندثار،مما يسقطنا مرة أخرى في أدلجة الثقافة وتجريدها من بعدها التقويمي لتصبح أداة لحماية السياسيين والدفاع عن إيديولوجياتهم بمختلف مرجعياتها،فعندما تسير السياسة خلف الفكر وتستنير بالثقافة تزدهر المجتمعات وتتقدم الشعوب وحينما يحدث العكس يكون ذلك سببا لجلب التخلف والمآسي الإنسانية،ولنا في ذلك أمثلة كثيرة في تاريخ الدول والمجتمعات ،فيكفي أن ننظر إلى جارتنا إسبانيا كيف كانت في عهد فرانكو الذي أخر هذا البلد عن التقدم والنمو طيلة فترة حكمه رغم ما حققه جيرانه الأوروبيون من نقلات نوعية وثورات هائلة في مختلف المجالات ،إلا أنه بعد وفا ته انطلقت هذه الدولة من مصاف العالم الثالث وقفزت إلى مصاف الدول المتقدمة بعد عشرين عاما من العمل والكد لتغيير النمط الثقافي للمجتمع الإسباني رأسا على عقب،حيث سخرت التعليم والإعلام في سبيل توجيه المجتمع نحو هذه النقلة التاريخية من نظام ديكتاتوري واستبدادي إلى نظام ملكي دستوري يتمتع بشعبية واسعة بين المواطنين الإسبان،فنهجت إسبانيا ثقافة الاقتصاد المفتوح أو اقتصاد السوق ،بعد ذلك تسارعت وتيرة الإصلاحات الجذرية اجتماعيا وثقافيا وسياسيا وتم السماح لأحزاب كانت محظورة للاشتغال في الحقل السياسي وتزامن ذلك مع عودة آلاف السياسيين المنفيين في الخارج، وكان لهذه التحولات أثر كبير على البنى الاجتماعية والاقتصادية توجت بانتخابات عام 1986 التي فاز بها حزب العمال الإشتراكي بقيادة فيليبي غونزاليت بالأغلبية المطلقة وانضمام إسبانيا إلى الإتحاد الأوروبي في نفس السنة. وإذا عدنا إلى حصيلة التجارب الإصلاحية في عالمنا العربي منذ فكر النهضة إلى الآن فإن أغلبية الإشكاليات الكبرى والمحورية التي تهم تنمية المجتمع العربي والخروج من دائرة التخلف في إطار نظام سياسي أمثل ،قد ظلت دون حلول جذرية.مما يؤكد الفكرة القائلة بأن العالم العربي لم يفلح حتى الآن في تأسيس نظم سياسية قادرة على مواجهة التحديات التاريخية الكبرى للعالم المعاصر. حيث يذهب بعض الباحثين في تفسير أسباب هذا الفشل إلى كل من طبيعة النخب السياسية الحاكمة وطبيعة الأنماط الثقافية السائدة في مرحلة ما بعد الإستقلال،وطبيعة النظامين الإقليمي والدولي الذي نشأت الدولة العربية الحديثة وتطورت ضمن تفاعلاتهما،إضافة إلى تنامي وازدياد القوى والجماعات والتيارات السياسية والفكرية التي يحكمها منطق الصراع على السلطة لارتباط مصالحها بالوضعية الراهنة للدولة العربية.وفي ظل هذه السياسة التي تهمش المبادرات الثقافية البناءة ،نلاحظ غياب الإبداع عن مختلف المكونات الثقافية والعلمية،وأصبحنا نعاني من النمطية والتقليد والتكرار والنقل مع غياب الابتكار والتجديد في شتى المجالات، وذلك كنتيجة حتمية لغياب الشروط السياسية المشجعة والمحتضنة لثقافة الإصلاح التي تتطلب الوعي والمعرفة في أجواء ومساحات كافية للحرية والديموقراطية. ولكي يتجاوز العالم العربي عقبة التخلف والإخفاقات المتتالية في شتى مجالات الحياة،وأن يبني لنفسه ثقافة مبدعة وخلاقة تدفعه لبناء حضارة حقيقية ومتكاملة، فلابد أولا أن يؤمن بالقيم الإنسانية التي آمنت بها كل الشعوب الحرة التي تحررت من ربق العبودية والإستبداد السياسي والفكري،لأن الثقافة الخلاقة لا تنمو إلا في بيئة خصبة بالتنوع والتسامح وتلك البيئة لا تتشكل إلا في جو من الحرية التي يتيحها الفاعل السياسي للفاعل الثقافي من أجل الارتقاء بعقل هذا الأخير إلى مستوى الإنسان الحقيقي القادر على صناعة التفوق والإبداع وبناء الأسس السليمة للحضارة والمجتمع.لذلك فإن مانراه اليوم من تسيد للثقافة الغربية سواء الأمريكية والأوروبية ليس إلا نتيجة لما أفرزته القيم الغربية بعد انتصاراتها المتلاحقة ضد الاستبداد والقمع وضد مدعي امتلاك الحقيقة دون غيرهم مع نهجها لأسلوب ديموقراطي لتنظيم حياة المواطنين عبر سنها لقوانين وأنظمة عادلة في ظل نعمة الحرية التي لا تخضع لقيود أو موانع تقصي الإنسان عن ممارسة حقه كي يعبر عن ذاته وواقعه بطريقة مستقلة،دون أن يكون لغيره الحق أن يجرده من ذلك الحق المقدس.فالثقافة الحقيقية إذن تنطلق في رؤيتها للحياة من مبادئ راسخة وقيم عظيمة تحترم حرية الإنسان وكرامته،بينما السياسة تنطلق من رؤية باطنها خلفيات إيديولوجية وظاهرها مغلف بالثقافة المزيفة أو الدين المسيس،وكلما تسيس الدين أو الثقافة كلما تحولت القيم إلى قيود يستخدمها المسؤولون لتكبيل حرية المواطنين مما يجعلها منافية لمبادئ الفكر القيمي المنتج للثقافة الإيجابية. ومن هنا نستنتج غياب الرؤية العقلانية والنقدية في ثقافتنا العربية نظرا لغياب مساحة الحرية الفكرية،حتى وإن سجلت بعض الحالات الفردية والمعزولة فإنها لم تتعد في الأغلب أن تكون مجرد محاولات جزئية وشكلية،بمعنى افتقادها للرؤية النقدية الشاملة بشكل عام والإصلاحية الشاملة بشكل خاص.من هنا طابعها المتقطع والجزئي والعابر،ومن تم خلوها من أية رؤية استراتيجية ومتكاملة للإصلاح، وقابلة للتنفيذ وفق مخطط زمني مدروس وآلية تتبع ومراقبة وتقييم للنتائج،لهذا فإنها لا تعدو أن تكون عبارة عن سياسة التعايش مع الأزمة البنيوية من خلال الاستعانة ببعض المسكنات اللحظية التي لا تقضي على المرض وإنما تخفف من درجة الألم الذي سكن الذات العربية بشكل مزمن. ويبقى لنا أن ندرك أنه إن لم يكن لدينا التصور الصحيح لإصلاح أوضاعنا الثقافية والسياسية والرغبة في دعم التفاعل الإيجابي بين هذين المكونين(الثقافة والسياسة) فلن ننجو من هذه الأزمة المعقدة والقاتلة،ولن يكون لنا مخرج منها،إلا بتأسيس فلسفة عربية حديثة تتناغم مع الفلسفة الكونية في توجهاتها الإنسانية،تأخذ بعين الاعتبار ،موقع العرب في التاريخ والجغرافية،وتكون جسرا للمزاوجة بين الإرث الناهض من التاريخ،وحقائق المرحلة التي نحياها،فلسفة تجعلنا إيجابيين في قلب العالم،وصناعا لمنتوجه المعرفي وليس الاكتفاء باستهلاكه ،ومبدعين في حركته المتطوزة وليس على هامشه.