فقدت الحركة الفكرية والثقافية العربية ،الأسبوع الماضي ،أحد رجالاتها وأعلامها البارزة المرموقة ، هو المفكر وعالم الاجتماع الكويتي الأستاذ الاكاديمي خلدون النقيب ، الذي سطر برحلته مع الحياة والفكر والفلسفة والاجتماع انشودة الحق والكفاح ، وعكس بروحه المتوقدة وفكره الواعي المتنور قضية أمة تعاني التخلف العلمي والفقر الثقافي وارهاب قوى التكفير ، وتطمح الى الحرية والعدالة . وبغيابه ينضم النقيب الى قائمة المفكرين والمبدعين والمثقفين الاحرار والفلاسفة والعلماء العرب المجددين ، الذين أضاءوا سماء حياتنا، بعطاءاتهم وفكرهم النهضوي والتنويري المليء بالأسئلة ، وخبوا فجأة كالشمعة خلال العام الأخير (محمد عابد الجابري ، نصر حامد ابو زيد ، محمد اركون، فؤاد زكريا، غازي القصيبي ، احمد البغدادي وغيرهم) لكنهم لن ينطفئوا وسيظلون ينيرون دروب التنوير بميراثهم الفكري والفلسفي الخالد. خلدون النقيب هو شخصية فكرية عربية خلافية مثيرة للجدل ،كانت كتاباته ومقارباته وسجالاته موضع جدل صاخب واشكاليات واسعة بين أوساط الفكر والرأي الكويتي والعربي . انه مثقف ريادي وطليعي بارز ، وعالم اجتماع جليل عاش حياته مهموماً بقضايا امته ، وقضية الحرية وأعمال العقل وتشخيص الأمراض والأوبئة الاجتماعية ، وحظي بمكانة كبيرة ومحترمة بين رجال الفكر وعلماء الاجتماع العرب . وهو رجل مبادئ ، ومفكر عروبي حر وديمقراطي ، وباحث عقلاني مستنير ورصين مخلص لمعايير ومقاييس البحث العلمي الاكاديمي. امتلك فكراً حداثوياً وتجديدياً مثيراً ، وآمن بالتقدم والعلم والتغيير الحضاري ، ايماناً راسخاً وثابتاً ، وأنحاز الى جموع المظلومين وفقراء الشعب ومعذبيه ، وكان يدعو الى العدل والديمقراطية والمدنية، وتحرر الأمة العربية من نير الاستعمار والطغيان والاستعباد. عرف النقيب بمواقفه الصارمة الحازمة ،وافكاره العروبية التحررية ،وشجاعته الحادة النادرة في انتقاد الزعامات والقيادات العربية والانظمة العربية الرجعية المهترئة ، واغتبط حين رأى الثورات تجتاح الأوطان العربية . وقد شارك بأبحاثه وأوراقه الفكرية العلمية في العديد من المشاريع والمؤتمرات والندوات الحوارية ، وأجاب على التساؤلات المطروحة حول الواقع الاجتماعي العربي، والقضايا المصيرية والمستقبلية الشائكة ، التي تواجه الشعوب العربية من محيطها وحتى خليجها. أنهى النقيب دراسته الأكاديمية في علم الاجتماع وعلم النفس ، وأشغل استاذاَ جامعياً في الكويت ، وأنشأ المجلة العربية للعلوم الانسانية ، والمجلة العربية للعلوم الاجتماعية. وأغنى الفكر العربي بمنجزاته وأبحاثه ومقالاته العديدة ، وترك وراءه ارثاً ورصيداً فكرياً وسجلاً حافلاً من المؤلفات والدراسات ، التي تؤكد ريادته في مجال اختصاصه ، أبرزها: تأملات في فقه التخلف العرب والغرب في عصر العولمة، مفهوم الحكم والمثالية الجديدة، مستقبل الفكر الاجتماعي العربي، العقلية التآمرية عند العرب، القبلية والديمقراطية، الكويت نموذجاً ، الدولة والمجتمع في الخليج والجزيرة العربية من منظور مختلف، الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر. ومن أهم المسائل التي أشغلت النقيب وعالجها بعقل ثاقب ورؤية عميقة شاملة، وبمنظور مختلف مغاير، هي أزمة التخلف الحضاري بمعانيه وجوانبه ومستوياته كلها ، وانعدام التنمية الحقيقية في مجتمعاتنا العربية ، التي ترزح تحت عبء التقليد والخرافة وتقديس القديم ، وتعيش في ظل الدكتاتوريات والمليشيات والقوى البلطجية التكفيرية وأنظمة القطيع والفساد بكل أشكاله وألوانه. ويركز بشكل خاص على الظواهر الاجتماعية والسياسية السلبية المدمرة ، التي تعرقل فعل الابداع والانتاج، وتعطل العقل الجمعي، وتربك حركة التطور الحداثي الحضاري. وفي كتابه (فقه التخلف) يؤصل خلدون النقيب لمشروع قومي عروبي حداثي يعيد الاعتبار للعلم والعقلانية ، وجواباً على العقلية السلفية والظلامية ، عبر رؤية نقدية للتاريخ العربي والقديم المعاصر. خلدون النقيب واحد من المفكرين الاجتماعيين الانتقاديين والتصادميين وعلماء الاجتماع العرب الكبار ، الذين تركوا بصماتهم على مسيرة الفكر النقدي العربي والثقافة الكويتية والعربية الجديدة المعاصرة . تميز بموسوعية معرفية وروح ناقدة صريحة ، واتسمت أبحاثه وكتاباته بالتناول العميق والشمولي ، والمعالجة الجادة الهادفة والنظرة النقدية بعيدة المدى ، واطلالته الموسوعية على علوم الاجتماع والسياسة والتركيبة الطبقية والاجتماعية العربية. واننا نحني له الهامات وننكس الرايات اعترافاً بعلمه وفكره ونهجه وفضله وجهوده في اعلاء شأن ومكانة الفكر الاجتماعي العربي ، والوقوف في وجه التخلف والجهل والثقافية السطحية المسطحة الرديئة والمأزومة والمعلبات الفكرية الجاهزة، والمساهمة في التغيير وعملية التنوير والتنظير الفكري والبحث العلمي والوعي النقدي واطلاق العقل من (قفص العقل) وسيظل حاضراً بفكره وأعماله وتراثه الانتقادي الواعي والتجديدي الخلاّق .