إن من يتتبع أخبار العالم اليوم سيصاب بالحيرة وهو يبحث عن الحقيقة ، فالكل يدعي أن خصمه قد أخطأ وهو قد أصاب ، وهذا هو وجه الغرابة في عالمنا المعاصر،حيث ترتبط كل القيم بالإقتصاد ، فبقدر ما تملك من المال بقدر ما يسمع لكلامك ويصفق له في المؤتمرات واللقاءات…باعتباره كلاما صادقا وغير قابل للنقاش ،لأنه مفعم ومدعم بأدلة وحجج مختلفة من الدولارات . ومن هنا تضيع حقوق المستضعفين في الأرض الذين لا يملكون قوت يومهم ناهيك عما سيدافعون به عن أقوالهم حتى تصبح حقيقة كالآخرين ، فلاحظ الآن ماذا يحصل بين أمريكا وروسيا والإتحاد الأوربي ، فهذا الثلاثي المتحكم في قرارات الفيتو يملك من المقومات ما يجعل كلمته مسموعة في المحافل الدولية ولو بدرجات متفاوتة نسبة إلى القوة الإقتصادية والعسكرية لكل منهم ، فأمريكا الآن ينطبق عليها قول القائل : ( إذا قالت حذام فصدقوها ** إن القول ما قالت حذام) وباللسان الدارج (ولو طارت معزة). فكل ما تقوله أمريكا اليوم أو ما تريده بالأحرى فهو الذي ينبغي أن يكون ،ولو كان ذلك ضد إرادة منظمة الأممالمتحدة وأحيانا أخرى بمباركة من هذه الأخيرة حتى يقي أمينها العام شر إقصائه من هذا المنصب الذي لا يخفى ثمنه على أحد،ولعل مثال بطرس بطرس غالي أحد الأمناء السابقين لهذه المنظمة خير مثال لمن أراد أن يعتبر،ومن هنا تبدأ رحلة هذه الحقيقة التي نبحث عنها،فكلما حاولنا الإمساك بها كلما حاولت أمريكا أن تسلها من بين أيدينا مدعية أن لا أحد في هذا العالم يملك رخصة البحث عنها ناهيك عن الحصول عليها ،لأنها الوحيدة التي تملك أدوات البحث والتنقيب عن النفط وأسلحة الدمار الشامل ومعاقل الإرهابيين ،إضافة إلى رخصة نشر الديموقراطية والحرية والسلم وحل الصراعات والقضاء على المجاعة و الحروب الأهلية أينما كانت في الكرة الأرضية . صحيح أن لا أحد اليوم في العالم يضاهي أمريكا من الناحية الإقتصادية والعسكرية ، ولكن في المقابل لا أحد في العالم يؤيد سياستها أو يتعاطف معها أو يصدق كلامها ما عدا من كانت لديه بعض الملفات التي تربكه وتجعله غير مؤهل لاستعمال قاموس الرفض والمواجهة، أو من كان يغلب لغة المصالح كبريطانيا التي أصبحت نموذجا للتلميذ الوفي والمخلص للسياسة الأمريكية،والحقيقة آن الأوان لأمريكا إن كانت عاقلة وأرادت أن تتصالح مع المواقع التي خسرتها أن تتأمل في الأحداث اليومية بنظرة علمية وموضوعية ونزيهة،وأن تراجع مواقفها وسياستها تجاه القضية الفلسطينية والعراق وسوريا واليمن وليبيا وأفغانستان…باعتبار هذه الفضاءات كلها هي بؤر التوتر التي ساهمت مع بقية حلفائها في صنعها بسياستها العدوانية والمنحازة لقوى الطغيان دون مراعاة لحقوق الشعوب والعباد التي تداس في واضحة النهار تحت ذريعة ترسيخ قيم الديموقراطية والقضاء على الإرهاب ، فكيف تنظر أمريكا لتلك المظاهرات الغاضبة التي ألفناها كل يوم وهي تندد بالسياسة التي تنهجها الحكومات الأمريكية المتعاقبة خصوصا مع العلم العربي والإسلامي؟ أليس من الحكمة أن تقرأ الأحداث جيدا وتفهم الدرس بمعزل عن السياسة العنترية التي لا تجلب لها إلا المصائب والمزيد من الأحقاد وبؤر التوتر والتطرف الديني…ولنا في السفريات التي يقوم بها حكام أمريكا في العالم خير دليل على ذلك، فكلما حل أحدهم ببلد إلا واستقبله المواطنون بالمظاهرات المنددة لسياسته التي لا تفجر إلا الويلات والمعاناة لشعوب العالم ،عوض الرخاء والعدل والحرية التي تتشدق بها في بعض وسائل الإعلام المسخرة للدعاية الكاذبة والمتاجرة بالمواقف والقيم الإنسانية، فلتتذكر أمريكا قول الشاعر الأندلسي أبو البقاء الرندي: لكل شيئ إذا ما تم نقصان + فلا يغر بطيب العيش إنسان لهذا فسنة الحضارات عبر التاريخ في هذا الكون العجيب مبنية على قاعدة الصعود والهبوط وفق قواعد ومقاييس لا يعلمها إلا خالق هذه البسيطة الذي لا تعلو فوق إرادته أية إرادة بشرية مهما كانت عدتها وقوتها.