مثل أي مواطن مقهور لا حيلة له، قال رئيس الحكومة إنه سيقاطع «دانون» ولن يشتريه بعد اليوم بعد الزيادة في سعره. ودعا المغاربة للعودة لأيام «الريب»، متسائلا «واش مبقيتوش تعرفوا تصايبو الرايب؟». وبتصريحه هذا يكون بنكيران قد انضم إلى قائمة المغاربة المغبونين المكتوين بنيران الأسعار والتي التهبت في عهده. وليس «دانون» وحده ما ارتفع سعره، فهناك منتجات أخرى ارتفع ثمنها مثل الأجبان والعصائر والحليب، التي تستهلك بكثرة في شهر رمضان الفضيل وهو على الأبواب. وفي حين كان المغاربة ينتظرون من حكومتهم المناضلة، على حد وصف بنكيران، أن تشكل خلية أزمة لمواجهة الارتفاع الجنوني في الأسعار قبل حلول شهر الصيام، خرج رئيس الحكومة رافعا الراية البيضاء أمام شركات الإنتاج، كما رفعها من قبل في وجه الفساد والاستبداد. وعوض أن يجيب عن سؤال رئيسي حول عدم رفضه لتلك الزيادة، على اعتبار أن أي قرار مماثل يوضع فوق مكتبه سلفا للنظر فيه، لأنه كرئيس حكومة يجب أن يقرر في أية زيادة في الأسعار قد تهدد السلم الاجتماعي في البلاد، عوض ذلك وجه مدفعيته نحو الشركة المنتجة، داعيا المغاربة إلى مقاطعة منتجاتها. وهذه أخطر دعوة على الإطلاق يوجهها رئيس الحكومة، إذ يصوب مسدسه نحو القطاع الخاص الذي يشغل أكثر من تسعين بالمائة من اليد العاملة، سعيا وراء الرفع من شعبيته. وما قام به بنكيران ينطوي على مجازفة كبيرة، فماذا لو افترضنا جدلا أن الشعب كله استجاب لتلك الدعوة وقاطع منتجات «دانون»، أين ستذهب جحافل العاملين في الشركة؟ وهل سيشغلهم بنكيران؟ قطعا لا، سينضافون إلى آلاف العاطلين الذين يحتجون يوميا دون أن تجد شكواهم آذانا حكومية صاغية. وحتى حين أعلن وزير التشغيل التقدمي عبد السلام الصديقي، عن عقد ندوة صحفية لتقديم خلاصات التعاطي مع البطالة، اعتقد الجميع أنه يحمل الحل. لكنه لم يفعل أكثر من تقديم دراسة يمكن لأي مكتب دراسات أن يقوم بها، حيث أعلن أن نسب البطالة في أوساط الشباب وصلت إلى حدود ستة وثلاثين بالمائة، وأنه «آن الأوان للمغرب أن يقوم بإعداد استراتيجية وطنية للتشغيل». مع أن المفروض فيه كوزير أن يقدم خطوط تلك الاستراتيجية بعد عامين ونصف العام على تولي هذه الحكومة إدارة الشأن العام، وليس التبشير بها. وفي مقابل العجز عن إيجاد فرص شغل لآلاف العاطلين وتحسين الأوضاع الاجتماعية للمواطنين، نجد هذه الحكومة متحمسة لإنقاذ مؤسسات مفلسة، وكنا سنصفق لها لولا أنها اختارت أن يكون ذلك الإنقاذ على ظهر الشعب، رغم أنه غير مسؤول لا عن إفلاس صناديق التقاعد ولا عن انهيار المكتب الوطني للكهرباء والثقب المالي الذي يعاني منه والذي وصل إلى 40 مليار درهم. ولأن هذه الحكومة لا تبدع حلولا خارج جيوب المواطنين، فقد قرر رئيسها الزيادة في أسعار الكهرباء، مبشرا، أو بالآخرى منذرا، بأن تلك الزيادة ستكون تدريجية «شوية بشوية»، وهو التدرج الذي جعل سعر المحروقات يقفز في ظرف عامين إلى 38 بالمائة في انتظار رفع الدعم نهائيا عن المحروقات نهاية العام الجاري. يعرف رئيس الحكومة أنه يقترف «جرما» في حق الطبقة المتوسطة التي أوصته كريستين لاغارد، مديرة صندوق النقد الدولي، خيرا بها، لذلك برر الزيادة بأن لا حلول لديه قائلا «منين غادي نجيب الفلوس، والهرم غادي يطيح؟»، مع أن «اللي غادي يطيح هو المواطن». ورغم أن بنكيران تعهد عند الزيادة الأولى في الحليب، بعدم السماح بذلك مرة أخرى، إلا أنه لم يجد أمام الزيادة الجديدة في «دانون» غير اقتراح «الرايب» على المغاربة. والسؤال هو، لماذا يصر بنكيران الذي أطلق قبل توليه رئاسة الحكومة، وعودا وردية لدغدغة مشاعر الناخبين، على معاقبة من صوتوا له والآخرين بتحميلهم مسؤولية إنقاذ مؤسسات لم يتورطوا في إفلاسها. ولو نفذ بنكيران وعده الانتخابي بمحاربة الفساد والاستبداد، لأمكنه جني ثمار إصلاحه. ففرنسا التي تعاني بدورها من أزمة اقتصادية خانقة حصلت على 10 ملايير أورو من الفرنسيين الذين فتحوا حسابات مصرفية سرية بالخارج، بالإضافة إلى أكثر من ثلاثة ملايير أورو كغرامات. وما جنته فرنسا يقارب ميزانية المغرب لعام كامل. ولو أبدى بنكيران نفس الحزم لجنى الملايير و«رخف» على الشعب، لكنه عفا عن المهربين الكبار وسن لهم قانونا على المقاس لتبرئة الذمة، فلا الأموال عادت ولا الضرائب تم تحصيلها. وإذا لم يقدر بنكيران على مواجهة المهربين الكبار والمفسدين الذين تأتي تقارير المجلس الأعلى للحسابات على ذكرهم كل عام، فلا أقل من أن يرأف بطبقات المغرب المسحوقة والمتوسطة، ويرمي بنظره قليلا نحو الطبقة البورجوازية التي يخشى الاقتراب منها.