بعد عدة أيام من إعلان التوقيع عن اتفاق الجزائر بين حكومة مالي وبعض الجماعات المسلحة، لا شيء يبدو أنه يسير في تفعيل مشروع الاتفاق في الوقت الذي يزداد فيه إصرار المشككين والرافضين على عدم قبوله فبالأحرى المصادقة عليه، خاصة بعد الرفض الصريح لتنسيقية حركات الأزواد. هذا الموقف الرافض جاء في الحقيقة ليعَرّي حقيقة الوساطة والوسطاء الذين دفعوا وسائل الإعلام التي يتحكمون فيها إلى النفخ في مشروع اتفاق اتّضح الآن أنه وُلِد ميتا، وأن محاولات إعادة الروح إليه باءت بالفشل، خاصة بعد الزيارة الأخيرة لأعضاء الوساطة لمعقل أزواد بمنطقة كيدال، شمال مالي، من أجل ثنيهم عن التراجع عن رفضهم، وبالتالي التوقيع على مشروع الاتفاق قبل التوقيع النهائي عليه في باماكو. لا أحد يعرف كيفية الخروج من هذا المأزق الذي تَسَبَّبَ فيه اتفاق الجزائر، بمن فيهم أعضاء الوساطة الجزائرية الذين طبَّلُوا وزمّروا كثيرا لاتفاق لم يتم الاتفاق عليه وخرج "مَائِلاً" منذ اليوم الأول، ليتحول الأمل، المنفوخ فيه، إلى يأس. وتجسدت حالة اليأس، بوجه خاص، حين توجه وفد الوساطة إلى كيدال بحثًا عن انتزاع موافقة الأزواد، فإذا بالوفد يسمع ويتلقّى الرفض ولا شيء غير الرفض. ظنّت الوساطة الجزائرية أنها حققت معجزة بإنهاء المفاوضات التي تمت بالجزائر العاصمة، بالتوقيع على اتفاق بين أطراف الأزمة في مالي. لكن هذه الوساطة ذهبت في التفاؤل طرقا شتّى، لدرجة جعلت البعض يُبْدِي إعجابه الشديد وتقديره الكبير لنجاحها في حلْحَلَةِ هذه الأزمة المعقدة، من دون أن ينتبه لا الجزائريون ولا المُعْجَبُون بوساطتهم إلى جزئية صغيرة، لكنها على جانب كبير من الأهمية. تكمن هذه الجزئية في طلب بسيط لتنسيقية الأزواد بمنحها ما يكفي من الوقت من أجل إطْلاعِ قواعدها على مضمون الاتفاقية قبل التوقيع والمصادقة عليها. وظنت الوساطة أن المسألة مسألة وقت فقط، وأن بإمكان قادة التنسيقية الأزوادية دفع قواعدها في مالي إلى الموافقة العمياء على الاتفاق. وحدث ما لم يكن في الحُسْبان، ذلك أن أطرافا مالية غضبت لموقف الوساطة المتخاذل إزاء مناورة الأزواد، واعتبرت أنه في الوقت الذي كان على أعضاء الوساطة إقناع (إرغام) هؤلاء الأزواد من أجل المصادقة على الاتفاقية، إذا بالأعضاء يكتفون بأخذ عِلْم بموقف الأزواد الرافض للتوقيع والمصادقة على الاتفاق في الوقت الذي مارست فيه نفس الوساطة ضغوطا كثيرة وكبيرة على ممثلي حكومة مالي للقبول بمشروع الاتفاق. وبدأت الأسئلة تتناسل حول الوضع الجديد الذي ظهر وفرض نفسه بعد رفض الأزواد القاطع والصارم، لدرجة أن البعض ذهب إلى اعتبار الوساطة "متورطة" في هذا الوضع الجديد، أو هي التي خلقته لأغراض يعرفها أصحابها. والمثير في الموضوع أن طرفا آخر من المنتقدين لعمل الوساطة ذهب إلى القول إن تصرّف الأخيرة يؤكد مقولة الذين يرون أن النزاع في شمال مالي ليس سوى أصل تجاري مشترك بين الوساطة وتنسيقية الأزواد، مما يعني استمرارية الأزمة في مالي أطول فترة ممكنة. هؤلاء المنتقدون يلحُّون على أنه آن الأوان لوضع حد ل"التسيب" الأزوادي، كما يقولون، وفي نفس الوقت وضع حد للنفاق الذي تمارسه الوساطة، بل الضحك على ذقون الشعب المالي الذي يبحث عن الوحدة والسلام والاستقرار والرخاء. في نفس السياق، عبّر الوزير المالي السابق، سومانا ساكو، وغيره من الماليين الرافضين للاتفاق، عن غضبهم بأنّ الوثيقة، التي تم التوقيع عليها في الجزائر، تطعن طعنا مباشرا في دستور البلاد نفسه الذي ينص على الوحدة الترابية والسيادة الوطنية على كامل التراب المالي، بينما الاتفاق يشير إلى أن كلمة الأزواد تعني منطقة شمال مالي كلها. هنا يكمن اللّغم المزروع بدقّة وعناية لخدمة أهداف وأجندات معيّنة تمّ التخطيط لها في الجزائر. إن نفاق الوساطة الجزائرية زاد من تأزيم الأزمة المالية، وَوَضَعَ بلدا بكامله في عنق الزجاجة من خلال زرع ألغام في شمال البلاد، وبالتالي تعريض مالي ووحدة مالي لانفصال سيُعلن عن نفسه بانفجار أول لغم من تلكم الألغام الواردة في الاتفاق المذكور.