في خضم الصراع الكبير الذي تمخض عن الربيع العربي بدأت تطفوا على السطح تحليلات وقراءات مختلفة للواقع،كما برز الصراع الأيديولوجي على أشده بين تيارات الاسلام السياسي والقوى المدنية اللبرالية واليسارية،إلا أن الإشكال الحقيقي يكمن بالأساس في الوضعية التعليمية في العالم العربي الموسومة بالكارثية والتراجع على كافة المستويات،فبعدما كانت العملية التعليمية فيما سبق حقلا لمحاربة الأمية الأبجدية وتكريس الاستبداد والابتعاد عن الدور التعليمي التعلمي المفروض أن يكون جوهر كل سياسة تربوية في عالمنا العربي،حيث تراجع دور الأستاذ المناضل من أجل قيم التثقيف والتوعية لفائدة دور أخر لأستاذ متملق وانتهازي ومخبر ومتسلق وطامح لغايات مادية في عمقها ،بل أكثر من ذلك أستاذ متحرش في بعض الأحيان وفاشستي قبلي في كثير من الأحيان،لا تعمم بطبيعة الحال هذه التوصيفات على الجميع، فمازال الأستاذ المثل والنموذج متواجد في قاعات الدرس في مدارسنا العربية إلا أنه يقاوم بصعوبة سيلا جارفا لثقافة عنوانها الأبرز المادة،في ظل هذا الوضع انكفأ دور النخب لفائدة العوام ،و"اغتيلت" فكرة دوران النخب،وتراجع إسهام المجتمع في صياغة توافقات تقطع مع الممارسات السابقة نحو فضاءات ديمقراطية حقيقية تمكن من نقل الشعب العربي من وضعية الجهل نحو وضع توعوي قادر أن يكون أرضية مجتمعية لأجرأة الألية الديمقراطية التي تتطلب مستوا معرفيا ضروريا ،على اعتبار أن الديمقراطية هي نتاج فكري لفلسفة الأنوار ولفكرة التعاقد بين الحاكم والمحكوم،نتيجة هذا طبعا أنظمة عربية غير قادرة على الوصول إلى الدرس الديمقراطي لأن شرط الوعي الشعبي لم يكن في برامج عملها،وصلنا بطبيعة الحال الى مجتمعات غارقة في الأمية،كيف سيتم تأطير هده المجتمعات الامية في غالبيتها؟ أكيد أن خطاب المنطق والحجج لا يمكن أن يقنع أميا بفكرة معينة،وبالتالي البديل في هذه الحالة هو الخطاب العاطفي الذي ينهل من الدين،والنتيجة جحافل من السلفيين والاخوان المسلمون وما يسير في فلكهم ،أناس يحلمون بالماضي ولا يستطيعوا أن يفكروا في المستقبل،اذا الأمية في هذه الحالة خدمت الاستبداد في فترات سابقة وتخدم الظلامية والافكار الماضوية في الحاضر،ليبقى الحل هو المسارعة الى تبني نظام تعليمي تعلمي عربي متحرر ومنتج للكفاءات والمحارب للأمية السياسية والثقافية والاقتصادية... ،أي انتاج مجتمع عضوي واعي ومسؤول يروم تحقيق التقدم والازدهار ،وهذا لا يتحقق إلا بتوافق بين كل المكونات والفرقاء في عالمنا العربي نحو الاتجاه نحو دول العدالة والحرية والديمقراطية ،وحده القضاء على الأمية يضمن هذا ،والايمان بالوصول لمجتمع عربي ديمقراطي هو المحفز لتحقيق هذا الهدف،غير ذلك فإن الخطابات الماضوية تجد في قاعدتنا الأمية موطأ قدم لبث سموم التفرقة والصراع والارهاب،ومحورة الهموم والانشغالات في أمور شكلية متعلقة بطريقة اللباس أو ما يسمونه باللباس الاسلامي وأمور أخرى في الشكل وطريقة أداء الصلاه...وهي كلها شكليات تذهب المجتمع لقاعة الانتظار واللهو والكسل والابتعاد عن الهموم الوطنية وكيفية ربح رهان التنمية والقضاء على الفقر والجهل والوصول الى نهضة عربية شاملة،لقد أفرزت العولمة-حسب عابد الجابري- بتكنولوجياتها الحديثة ومختلف ألياتها السياسية والاقتصادية والعسكرية أفرزت نقيضين لها ،نقيض من الداخل متمثل في مناهضوا العولمة ونقيض من الخارج متمثل في القاعدة وتنظيمات الاسلام السياسي من أقصاها الى أدناها تطرفا،هذه العولمة فرضت على الانظمة السياسية العربية كرها دونما أن تتخد من الاجراءات ما يجعلها تتعاطى مع تبعاتها،فهمشت التعليم مخافة على الكراسي وأنتجت نخبا مبتذلة وتركت المجتمع فريسة سهلة التطويع والاقتياد من طرف مروجوا الخطابات العاطفية التي تنهل من الدين وتحلم بدولة الخلافة الاسلامية،والعودة بالمجتمع الى الوراء قرونا أخرىونشر ثقافة التقصير والسواك وجهاد النكاح وهلم جرا من الأفكار الدخيلة والفتاوي السامة والقاتلة،ليبقى الحل الأنجع والسريع هو التعاطي مع رهان المعرفة الحقيقية باعتبارها الدرع الواقي للامم والشعوب من براثن التخلف وكافة تجلياتها ،وهذا لن يتأتى الا بنهج مخطط استعجالي للانقاذ في مجال التعليم بموازاة اصلاح سياسي يتعاطى مع مطالب الشعوب "المدخلات" ومعالجتها والتعاطي معها بايجابية واخراجها من العلبة السوداء بتعبر دفيد أستون الى مخرجات "استجابات" تمكن من احتواء انفلاتات الربيع العربي،الذي أبان أن تجارب الاصلاح التدريجي في بعض الدول العربية(المغرب مثلا) أفضل سبيل من "الثورات" الفاقدة لسلاح المعرفة وأقل كلفة من مغامرات متهورة غير مجدية لحدود الأن في دول هذا "الربيع" الذي تشابه على الكثيرين بين من يسميه ربيعا ديمقراطيا ومن يسميه ربيعا ركبته قوى أتوقراطية ديكتاتورية متجبرة ومتعطشة للسلطة. حلا لهذه التجاذبات السياسية العربية التي لن تخدم مصالح الشعوب هو التوافق بين الكيانات السياسية والشعوب نحو تبني سياسات مستقلة في مجال التعليم والاصلاح او ما يمكن تسميته بالديكتاتورية الناعمة المتوافق بشأنها تمكن من بلوغ مرحلة انتقالية ببنية تحتية" الشعب" مؤهلة وواعية بالدرس الديمقراطي وبقيم المواطنة الحقة المقتنعة بالخيار الديمقراطي الذي يقود الى ثقافة التناوب على السلطة.