-I- يعتبر مفهوم الحداثة من أكثر المفاهيم شيوعا وتداولا في الحقلين السياسي والثقافي المغربي في العقد الأخير، حيث يوظف في الكثير من الخطابات, وفي مختلف السياقات والظرفيات,من طرف اليساري الراديكالي واليميني المحافظ على حد سواء, توظيفا لا يخلو من اختزال وفي أحايين كثيرة من التباس وابتذال. والحق_ كما يِؤكد محمد سبيلا في جل أبحاثه العزيزة والقيمة حول الحداثة_ «أن الحداثة مفهوم جديد لا يخلو من التباس» 1, بسبب تعدد وجوهها ومجالاتها,أو ما يعبر عنه ب «بانورامية مفهوم الحداثة», ولذلك يغدو من الصعب «تطويق مفهوم الحداثة», مما يدفع الباحثين إلى التركيز والاهتمام بالثوابت والقواسم والسمات المشتركة بمعزل عن «الخصوصيات ومظاهر التباين» فالباحث _يقول الأستاذ سبيلا_ « يجد نفسه مدفوعا إلى عدم التركيز على الوقائع والأحداث والتواريخ والفواصل، موليا الاهتمام لأكبر المنحنيات العامة في كل مستوى « 2 , لتصبح الحداثة في هذه المقاربة « بنية فكرية جامعة للقسمات المشتركة, لها تمظهراتها في مجالات المعرفة والطبيعة والتاريخ وفي تصورها للإنسان كوعي وإرادة وقيمة عليا في ذاتها» ومن هذا المنظور العام للحداثة، والمقاربة البنيوية لها تصبح الحداثة لا مجرد تجربة تاريخية عرفتها أوروبا في بداية القرن السابع عشر فحسب ,وإنما «بنية فلسفية وفكرية تتميز ب « بروز النزعة الإنسانية التي تبوئ الإنسان من الكائنات مكانة قطب الرحى, وظهور «النزعة العقلانية» التي تنصب العقل أداة سيادة على مجالي النظر والعمل على حد سواء..»3, الحداثة بكلمة : هي «تحول فكري شامل ورؤية جديدة للعالم، هي بنت فضاء فلسفي تعود إرهاصاته الأولى إلى «كوجيطو» ديكارت , وإلى كانط الذي يعتبره هايدجر في فحصه للعقل في حدوده رائد الحداثة الفلسفية هيجل، الذي حدد ماهية الحداثة في الذاتية ببعديها الأساسيين: الحرية والفكر4 . وعلى الرغم من ارتباط الحداثة بتحولات تاريخية كبرى رافقتها (الثورة الصناعية - صعود الرأسمالية- الثورة على الإكيروس أو الإصلاح الديني- الاكتشافات العلمية الكبرى ...) أحدثت قطيعة جذرية مع الماضي ومع التقليد، وخروجا - كما يقول كانط _ «من حالة القصور إلى حالة الثقة بالنفس والاعتماد على الذات» (نص ما هي الأنوار؟) - على الرغم من ذلك - تبقى قيمها ذات طابع كوني ... وبما أن المجال لا يتسع هنا كثيرا للوقوف عند موضوعات فكر «ما بعد الحداثة «, الذي انتقد الحداثة كنموذج مكتمل للمعقولية (نيتشه), يمكن اختصار القول هنا في ملاحظتين جوهريتين: _ إن نقد الحداثة (النص الجينيالوجي النيتشوي- مدرسة فرانكفورت... ), لايشكل قطيعة مع الحداثة, بل تشخيصا لمآزقها، فمرحلة ما بعد الحداثة هي «سرعة ثانية لها» بتعبير الأستاذ سبيلا- وليس نهاية لها.. فالحداثة هي دائما «مشروع لم يكتمل» (هابرماس) أو مشروع متجدد دوما. _ إن المجتمعات التي لم تعش وتنتج وتستوعب الحداثة كبنية فكرية, ووعي فلسفي ,تظل دائما في حاجة إلى استلهام الفكر الحداثي في طوره الأول , أي قبل دخوله إلى مرحلة ما بعد الحداثة, التي تعكس تصورا وتحولات ثقافية أيديولوجية وعلمية في الغرب, فرضت النقد والتفكيك لفكر الحداثة هناك ، دون الارتداد عنه, أو القطع مع أسسه ومبادئه وقيمه المؤسسة. وفي سياق هذه الملاحظة، لابد من استحضار نقد عبد الله العروي القوي لدعاة «ما بعد الحداثة « الذين في نظره» أحدثوا فوضى فكرية» بحديثهم عن «تجاوز الحداثة» يقول : «نقرأ اليوم كتبا تنتقد فكرة الحداثة ,ونعتمد عليها للقول إن الحداثة أصبحت كلها متجاوزة، هل هذا صحيح؟ هل يحق لنا أن نفعل كما لو كنا تجاوزنا الحداثة مثل الأوروبيين الذين عاشوا في أحضانها ما يزيد عن ثلاثة قرون تزيد أو تنقص حسب البلدان (....) يجوز «لألان تورين» أن ينتقد مفهوم الحداثة, فهل يجوز لأستاذ مغربي أن يردد كلامه بدون التفاته إلى ما يحيط به من سلوك سابق على عهد الحداثة» 5 . ويبقى سؤال ع العروي، الكبير والإشكالي هو:› إلى أي حد نحن مؤهلون لأن نحيى حداثتنا بالرغم من كل التناقضات والصعوبات والمفارقات التي تحملها معها «6 , إنه السؤال الذي أطر تفكير المثقفين والفلاسفة المغاربة في الحداثة, وجيلا من الباحثين في صيرورة التجارب التحديثية في المجتمعات التقليدية التي تعرضت لما يسمى بصدمة الحداثة . -II- إذا كانت الحداثة الأوربية قد ارتبطت بتطور فعلي ذاتي( جواني) للمجتمع بانتقاله من مجتمع إقطاعي كنسي زراعي إلى مجتمع تجاري صناعي رأسمالي مؤطر فلسفيا وإيديولوجيا بمفاهيم وتصورات جديدة حول الطبيعة الإنسان والعقل والاجتماع البشري، فإن التقاء (أو اصطدام) مجتمعات «التأخر التاريخي», ومن بينها مجتمعنا المغربي الحداثة كان عن طريق الصدمة: فعن طريق الحملة الفرنسية بقيادة نابليون سنة 1798 على مصر، وعقب هزيمتي إيسلي(1840) وتطوان (1860) في المغرب، تشكلت صورة الحداثة الأوروبية في وعي النخب الثقافية والسياسية, صورة تفصح عن نظرة مزدوجة لأوروبا باعتبارها بلاد ‹الأنوار› من جهة، وباعتبارها دولة مستعمرة من جهة ثانية ,» فهي مثال للتقدم والقوة على درجة كبيرة من الجاذبية والإغراء ,لكنها عنوان وحشية وغلظة وتسلط نظير ما كانت عليه صورتها الصليبية الراسخة في الذاكرة , مما خلق «فجوة عميقة في الضمير القومي والثقافي والديني للمجتمعات التقليدية بصفة عامة, خاصة تلك التي لها موروث تاريخي حضاري وديني كالمغرب 7. إن علاقة مجتمع ما بالحداثة «تتحدد بشكل جوهري في ضوء عاملين ومعطيين أوليين: أولا عامل خارجي، ونعني بذلك التاريخ الخاص بالحداثة في حد ذاتها كتغلغل واكتساح رأسمالي عالمي لكل المجتمعات التي لا تنتمي إلى مجالها الجغرافي الخاص أو الأصلي (...) ثانيا عامل داخلي، ومحلي يتعلق بطبيعة الحضارة التي داهمتها الحداثة في لحظة تاريخية معينة، أو بعبارة أخرى بنوعية التقاليد والثوابت التاريخية الخاصة بكل مجتمع على حدة (..) و كان لهذا العامل دور جوهري في الطريقة التي تستقر بها الحداثة في مجتمع ما وفي الكيفية التي تتلون بألوان وملامح المجتمع الجديد»8. وها هنا استحضر مساهمات واجتهادات فقيدنا عبد السلام الحيمر، الذي ظل إلى آخر رمق فيه، يبحث ويتجول في أروقة الثقافة المغربية وتراثها الغني محللا التجارب التحديثية التي قامت بها النخب السائدة آنذاك في المجتمعات التقليدية التي تعرضت لصدمة الحداثة الرأسمالية كاليابان ومصر والمغرب. يقول في استخلاص هام من استخلاصات أبحاثه السوسيولوجية حول مسار التحديث في «مجتمعات التأخر التاريخي»: « إن المجتمعات التي نجحت في تجربتها التحديثية، بعد تعرضها لصدمة الحداثة كانت تحتوي إما على بنيات مجتمعية إقطاعية في طور التحول الرأسمالي (ألمانيا-روسيا خلال الحروب النابليونية)، وإما على بنيات مجتمعية إقطاعية لم تنضج للتحول الرأسمالي بيد أنها توفرت على بعض مقومات ذلك التحول أهمها: توفرها على نخبة ثقافية سائدة تمتلك وعيا حديثا منفتحا على الأوضاع العالم العالمية وتحولاتها المجتمعة، وقادرا على استيعاب مقومات الحداثة الأوروبية وغرس تلك المقومات في التربة الوطنية( اليابان في عصر الميجي) «9 . ويتساءل فقيدنا: ما وضع المجتمع المغربي في هذا السياق, وماهي الصورة التي رسمتها النخبة السائدة للحداثة الأوروبية؟ كيف فكرت في تحديث مجالات حياتها المجتمعية عسكرية كانت أو اقتصادية أو سياسية؟ وفي تحليل للبنيات السوسيولوجية والذهنية لمغرب القرن 19 ينتهي إلى اعتبار أن « المجتمع المغربي كان آنذاك في مستوى من التطور لم يكن يجعله قابلا للتحول نحو النمط الحضاري الرأسمالي الحديث «10, متوقفا عند النخبة المخزنية مبينا أدوارها وطبيعة تكوينها الثقافي ومنظورها إلى العالم والمجتمع, مميزا بين تيارين: تيار تحديثي وآخر معارض، وقد قدم فقيدنا في سياق الجدل بين التيارين أدبيات هامة ودالة ل :»الكاتب ألمخزني» و» الكاتب اللامخزني» غطت مرحلة 1844-1912... ومن بين ما خلص إليه من استنتاجات من أبحاثه حول هذه المرحلة التاريخية مرحلة «الصدمة» : « إن الفكر المغربي الحديث فكر في الحداثة والتحديث من خلال مفاهيم مركزية هي:النظام - الترقي- الشورى الدستورية من جهة، و ظل في تعاطيه مع إشكالية التحديث ينطلق من منطلق فكري تقليدي مفوت بالنسبة لمتطلبات المرحلة التاريخية الحديثة محليا وعالميا من جهة أخرى» فالفكر المغربي ظل في نظره سلفيا ماضويا وإما إيديولوجيا يهفو إلى التحديث ويتحمس له ويحرص في نفس الوقت على البقاء متماهيا مع المنظور التقليدي للعالم» 10, فهل يمكن أن يتحقق التحديث كغاية بوسائل ومفاهيم وتصورات وبنيات فكرية تقليدية, وبتعبير آخر ,هل يمكن التحديث بدون الحداثة الفكرية ؟ إن انبهار النخبة الفكرية والعربية المغربية كجزء منها, بالحداثة الغربية في وجهها التقني والمادي وتحمسها له بقصد التحديث المادي , مع الانكفاء على الذات و التماهي مع التصورات التقليدية للعالم في نفس الآن ,جعلها تعيش على ازدواجية في الرؤية للآخر (الغرب) مما أعاق التحديث كغاية ووسائل, فبسبب هذا الانفصام لم تأخذ هذه النخبة بأسس الحداثة ولم تنفتح وتستلهم مرجعياتها الفلسفية مما جعلها ممزقة متأرجحة بين الحداثة والتقليد، محاولة « تشذيب» الحداثة ( بتعبير ذ.محمد سبيلا) لتصبح متلائمة مع التراث ومتوافقة معه ومع التصور الجامد السائد للهوية, يقول عبد الإله بلقزيز في هذا السياق :» لم يتعرف النهضويون المغاربة على أوروبا الفكر ألأنواري الحديث, فهذه كانت أوروبا الغائبة في نصوصهم , بل تعرفوا على أوروبا واحدة ,هي الحاضرة في جميع تلك النصوص,تجسدت في ما عاينوه في موطنهم أو على أرضها . وليس من شك في أن الجهل بالمنظومة الفكرية الحديثة مسؤول إلى حد ما عن غياب الفارق في الوعي بين الأنوار وبين الاستعمار»11 . وهكذا بقيت مشاريع الإصلاح والتحديث تراوح بين طرفي تلك الثنائية (حداثة - تقليد) مما أعاق المجيء إلى الحداثة, والدخول إليها من أبوابها، وأدى إلى فشل أنماط الفكر والمؤسسات التي, باسم التحديث, عقدت « توافقات»هشة مع التقليد, فبقي مشروع النهضة التاريخي الحداثي مؤجلا إلى حين تحقيق شرطه الأساسي و الحاسم المتمثل في النفاذ إلى «بنية العقل» وإنجاز ثورة الفكر والوعي والتنوير كمقدمة لكل نهضة فكرية واجتماعية وسياسة وحضارية.. ولا شك في أن لعامل غياب طبقة بورجوازية قائدة وثورية من جهة, وعامل هيمنة ورسوخ التقليد كبنيات ذهنية وثقافية عتيقة من جهة ثانية, دور في بقاء المشروع المجتمعي النهضوي الحداثي مجرد حلم أو أفق بعيد, ماجعل مجتمعاتنا مستهلكة لنتائج الحداثة , خاصة التقنية منها, لا منتجة لها، ومكتفية بتمثلاتها عن ذاتها الموروثة عن تصور قدسي جامد ومنغلق للهوية، وعن ذهنية مازالت - في عصر العولمة ? تتطلع حالمة إلى عودة أمجاد الماضي وأبطاله ورموزه, ليخرجوا هذه الأمة من التقهقر إلى الازدهار والتفوق ,كما كانت في زمن ولى... إن هذه الذهنية الإرتكاسية والمنغلقة على معطيات العصر العلمية والفلسفية والقيمية,هي التي غذت النزعات الأصولية والدوغمائية العقائدية التي تنهل من مرجعية دينية ترى كل شيء من زاوية الحلال والحرام، والكفر والإيمان مما أدى اليوم, وأكثر من أي وقت سابق ,إلى وضع المشروع الحداثي النهضوي في مواجهة قوية (دامية وتراجيدية في كثير المحطات) مع الأصولية الدينية بمختلف أطيافها وجماعاتها وأفرادها «وخلاياها النائمة»...مما أصبح يطرح بجدية مسألة الإصلاح الديني, كإحدى أعمدة وأولويات المجيء إلى الحداثة. - III - بناء على كل ما سبق , يمكن القول: إن التفكير في الحداثة في مجتمعنا هو بالضرورة ، تفكير في قضايا كبرى, كالإصلاح الديني و التراث، والديمقراطية والإصلاحات السياسية والاقتصادية والتربوية, تفكير في الدين والدولة وفي الإنسان المغربي في وضعه الحي، المادي والذهني ومدى تحقق مواطنته كاملة. إن هذه القضايا هي ما تشكل في كليتها وتفاعلها وتداخلها مكونات المشروع الحداثي باعتباره صيرورة ودينامية ذاتية، يقتضي الانخراط فيها وعيا تاريخيا مطابقا للعصر من جهة , وصبرا وطول نفس في مواجهة عوائق تحققه من جهة ثانية , لنقف, ولو بإيجاز, عند كل مكون من هذه المكونات. 1) الإصلاح الديني: مطلب الإصلاح الديني ليس جديدا في الثقافة العربية والإسلامية، وليس ?بالتالي- شعارا أملته تحولات العالم الراهنة وحراك مجتمعاتنا من أجل الديمقراطية والعدالة ، فقد عرفت ثقافتنا فتوحات شجاعة وجريئة في هذا المجال منذ العصر الكلاسيكي مع المتكلمين والفلاسفة العقلانيين في مواجهة الدوغمائية اللاهوتية التي انتصرت منذ القرن الحادي عشر,مرورا بالنهضويين العرب مشرقا ومغربا ممن جعلوا من الدين الإسلامي عاملا من عوامل الانفتاح على العصر وحركة تتطلع إلى الحرية والتحرر من ربقة الاستعمار, وصولا إلى جيل المفكرين المعاصرين الذين جعلوا من نقد التراث الثقافي والديني موضوعا للتفكير والتفكيك , ورهنوا الدخول إلى الحداثة الفكرية إما بالقطع مع «طابوهاته» ,ومع النزعة التراثية الماضوية (الراحل محمد أركون) , وإما بتملكه نقديا والانتظام داخله (الانفصال بالاتصال كما دعا إلى ذلك الراحل محمد عابد الجابري ) . لقد أصيب مشروع الإصلاح الديني في الثقافة العربية والإسلامية بالانتكاس والتراخي بفعل ثقل التقليد وهيمنته على كل مناحي المجال العمومي , وبسبب ضعف التأطير الفلسفي له وعدم استيعابه للأطر الفكرية والفلسفية للحداثة الأوروبية وفضائها التاريخي , هذا بالإضافة إلى عدم استقلال المجال الديني في تجربة الدولة العربية الإسلامية عن المجال السياسي يقول علي أومليل في هذا الصدد : «.. ما دام الديني لم يستقل عن السياسي، أي ما دامت الدولة لم ترس قواعدها في استقلال عن الشريعة، أو تقطع لنفسها مجالا مدنيا لا دخل لما هو ديني فيه، فإن المجتمعات الإسلامية تعرف دائما سلطة الناطقين باسم الشريعة, وسيظل الباب مفتوحا باستمرار لمختلف أصناف الأصوليين في المستقبل كما في الماضي «12 وها هي ثمار ما يسمى ب «الربيع العربي» تِؤكد ما ذهب إليه علي أومليل, مما يزيد من حدة سؤال الإصلاح الديني في «أجندة» القوى الديمقراطية والحداثية في المجتمع. وفي هذا السياق فان أية مقاربة لهذا السؤال تقتضي الأخذ بعين الاعتبار الأسس والمنطلقات التالية : 1. إن الدين إيمان وقناعات راسخة في أعماق النفس البشرية وهو عبر تاريخ الإنسانية، شرط وجودي وانتروبولوجي لا يمكن استصغاره تحت أية دعوى علموية . إن دور الدين في التربية الروحية والوجدانية, وفي تقوية التماسك الاجتماعي, قد يتحول إلى نقيض ذلك كلما تحول إلى سلطة خارجية تتحكم في البلاد والعباد , وعليه فان الدين بحكم ارتباطه بالإرادة الإلهية , يظل قابلا لان يتحول إلى أداة طغيان كلما تدخل في شؤون الحقل السياسي الذي يرتبط بإرادات بشرية متناقضة ومتصارعة, ومختلفة الرهانات .. وفي تجربة الدولة الإسلامية _عبر تاريخها_ الكثير مما يبرز كيف تحولت العقيدة الإسلامية إلى «ديانة طغيان» (بتعبير هيجل) على أيدي الخلفاء والسلاطين, والى أداة تقسيم وفتنة مذهبية وطائفية .. 2. إن غاية الإصلاح الديني، ورهانه التاريخي استئناف الاجتهاد العقلاني العصر الإسلامي الكلاسيكي, والقطع مع ما علق بالدين الإسلامي من أفكار ظلامية دوغمائية على يد سلطة الفقهاء منذ الردة السنية في القرن الحادي عشر، أفكار ودعاوى وفتاوى تحتقر العقل والمرأة , وتكفر»أهل الذمة» , ولا تضع أية حدود ابستمولوجية وتاريخية بين الجهاد والإرهاب، وبين قتل النفس والاستشهاد ... وبكلمة؛ رهان الإصلاح الديني هو الإعلاء من قيمة العقل , وتمثل القيم الكونية للعصر باعتبارها لا تتعارض مع القيم السمحاء للعقيدة الإسلامية, وإنما تماثلها وتتكامل معها, فالمشروع الحداثي ? إذن- لن يتحقق إلا بالتعامل النقدي والعقلاني مع الموروث الديني من جهة, وبالاستلهام المبدع للمنظومة الفكرية الحداثي, والتشبع بقيمها الإنسانية ذات البعد الكوني من جهة ثانية. 3. إن الإصلاح الديني يقتضي فضاء فكريا حرا ومنفتحا، فهو يرتبط وثيق الارتباط بالتقدم الديمقراطي، وبرعاية حرية الفكر والمعتقد والاجتهاد، كما يرتبط أيضا بمستوى وطبيعة النظام التعليمي في المدرسة والجامعة، حيث مازالت المناهج والبرامج الدراسية حبيسة المنظور الدوغمائي للدين, فارضة بذلك الحصار على الموروث الكلامي والفلسفي العقلاني , وعلى أحدث المناهج في مقاربة الأديان,ودراستها دراسة تاريخية ومقارنة,وذلك لصالح التصورات والمفاهيم التقليدية التي تشكل «السياج الميتافيزيقي» للدين الإسلامي كما بناه ورسخه الفقهاء منذ الانقلاب السني في القرن الحادي عشر.. 4. إن الفكر العربي المعاصر ( والمغربي كجزء منه), راكم أعمالا نقدية كبرى، اتجهت نحو تفكيك بنية العقل العربي (الجابري)، وتحليل نظام الفكر الإسلامي ( ابستمي) و إبراز عناصره المتشكلة من « إضفاء الإطلاقية على القيم الدينية، وحصر وظيفة العقل في الاجتهاد وتأويل الوحي، والتأكيد على تفوق المسلم على غير المسلم، و جعل الفكر متمحورا حول الوحي» كما أشار إلى ذلك محمد أركون في «نقد العقل الإسلامي» وبقية أعماله الجريئة، داعيا إلى تطبيق المنهجية التاريخية والاجتماعية والتحليل النفسي، والمنهجية أللسنية واللغوية على النص القرآني حتى يتم فهمه في تاريخيته واستيعاب مقاصده الحقيقية استيعابا عقلانيا .. ولاشك في أن الانطلاق من هذا التراكم من أجل إصلاح «فهم الدين» , يشكل مهمة ثقافية كبرى للنخبة الفكرية, يرتهن بها مستقبل المشروع الحداثي . 5. إن الإصلاح الديني , إذن , هو حركة فكرية نقدية مستقبلية تتوجه إلى فهم أو تأويل معين للدين ليقوم بدوره الحضاري النهضوي في عصرنا، كما قام به في عصور سابقة، دور نشر قيم الحرية والتسامح وإعمال العقل في شؤون الدين والدنيا... إن للنخبة الثقافية المغربية مسؤولية كبرى وحاسمة في مواصلة وتعميق ما خلفه أساتذة ومفكرون كبار من إنتاج فكري جريء وهام كالراحلين عنا , محمد عابد الجاري، ومحمد أركون ونصر حامد أبو زيد، وممن ما زالوا على قيد الحياة .. وذلك للارتقاء بمضمون الإصلاح الديني من اعتباره مجرد إجراءات تدبيرية لشؤون المؤمنين الدينية، إلى « إصلاح الفهم للدين» باعتباره « ليس إكراها خارجيا أو سلطة على الجسد، كما اتضح لمفكري الإسلام ورواد نظرية الآداب السلطانية ,وإنما كسلطة على الروح والنفس, وعلاقة حميمية بين الفرد كفرد وبين ربه ,علاقة تغذي سلوكه الاجتماعي تجاه نفسه وتجاه الغير، إنه التزام ذاتي يفرضه الفرد على ذاته دون تدخل الدولة والحقل العمومي لممارسته «13 2) الديمقراطية: يقوم هنا المكون من مكونات المشروع الحداثي على»جوهر جواهر» الحداثة ألا وهو الحرية ، كمفهوم اجتماعي سياسي لا مفهوم أخلاقي» كما شرح ذلك عبد الله العروي في كتابه « مفهوم الدولة « حيث أكد أن المقصود هو الحرية السياسية والاجتماعية عكس « الحرية الوجدانية التي تمارس خارج الدولة لا داخلها أي الحرية كطوبى « ... من هذا المنطلق، فليست الديمقراطية - كما يجري اختزالها_ مجرد صناديق اقتراع تفرز مؤسسات تمثيلية, إنها » تتضمن في مفهومها العميق والشامل جملة عناصر أهمها: إقرار الحقوق الفردية والجماعية قانونيا وفعليا كذلك، وتحقيق سيادة القانون والمؤسسات... وإقامة السلطة على أساس جديد من المشروعية والعقلانية»، إنها بمعناها الشامل، «كل لا يتجزأ ، تنصهر فيه الحقوق بالحريات وبالتمثلية وسيادة القانون, وبالمواطنة وبالمشروعية، في إطار ثقافة سياسية ديمقراطية ترتكز على الاعتراف بالاختلاف والتعدد، وسلوك النهج الحواري للتوافق بدل التطرف والإقصاء ...14 في كتابه القيم (الإصلاحية العربية والدولة الوطنية) يربط الدكتور علي أومليل الحداثة بالديمقراطية، فالمجتمع الحداثي هو المجتمع الذي يتسم بالسمات الجوهرية التالية: * «مجتمع تعاقدي: تقوم فيه السلطة على أساس التعاقد مع مكونات المجتمع على قاعدة أو مبدأ المنفعة العامة لا على أفكار « الاختلاف والانتماء « * مجتمع تعددي: على نقيض المجتمعات التقليدية التي يسودها الاستبداد أو الحكم الشمولي المفروض بالقوة أو القهر، فإن التعدد هو الصورة الأرقى للتعبير عن الاختلاف والاعتراف به وتدبيره ديمقراطيا لا إنسانيا وحضاريا. * مجتمع مدنيي أو مجتمع الرأي العام: بدل (العوام ) أي مجتمع المشاركة في تدبير الشأن العام في إطار تعددي ديمقراطي وتعاقدي.» إن جوهر الحداثة السياسية، كما بلورها وأسس قواعدها فلاسفة ومفكرو الأنوار، هو الفصل بين السلط (جون لوك «الحكم المدني») وجعل القوانين ذات سيادة في ذاتها ( مونتيسيكو روح القوانين) تسري على كل أفراد المجتمع، وتضبط المساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات. وفي وضعنا الخصوصي المغربي الراهن، يمكن القول: انه على الرغم من المكتسبات الديمقراطية التي تحققت في العقدين الأخيرين، وبتدرج وعن طريق الجرعات, والتي تعمقت أكثر في سياق ما يسمى ب»الربيع العربي «, خاصة بعد إقرار دستور جديد يقر بفصل السلط، ويربط المسؤولية بالمحاسبة، ويفتح الباب أكثير نحو إرساء نظام ملكية برلمانية ديمقراطية، فإنه مازال أمام قوى الديمقراطية والحداثة طريق طويل وشاق من أجل نشر وترسيخ الثقافة الديمقراطية داخل المجتمع، وفي مختلف هيئاته التعبيرية من أحزاب ونقابات ومنظمات حقوقية مدنية...الخ . إن المجتمع المدني، المنخرط بوعي في مشروع التحديث الدمقرطة يشكل أحد الدعائم الحيوية لربح رهانات المشروع الحداثي ,ومن هنا ضرورة الحفاظ على استقلاليته عن الدولة ,وتحصينه ضد كل محاولات الاحتواء أو الابتلاع له من طرف أية جهة, إذ هو أساس بناء مجتمع ديمقراطي متوازن , وحماية الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان من أية انتكاسة أو تراجعات .. 3) التنمية البشرية: إن من عوائق الحداثة والتحديث، ما يعيشه مجتمعنا من مظاهر الفقر والتهميش والأمية وتزايد الفوارق الاجتماعية, مما يفرض القيام بإصلاحات اقتصادية واجتماعية وتربوية للنهوض بوضعية الإنسان المواطن، وحفظ كرامته وحقه في العيش في شروط إنسانية. وتزداد أهمية هذه الإصلاحات والحاحيتها في ظل تفاقم مخاطر زحف العولمة التي أضحت تهدد الكيانات الضعيفة اقتصاديا بالتحلل والتفكك, بل والإقصاء، إن هي لم تحصن ذاتها ضد سلبياتها ( أي العولمة ) الاقتصادية والاجتماعية, و تؤهل مؤسساتها التربوية للتكيف مع إشراطات وتحديات عولمة النظام الرأسمالي. ولأن المجال لا يتسع هنا للتفصيل في طبيعة هذه الإصلاحات الرامية إلى تحيقق تنمية بشرية مستدامة ومتكاملة، لا بد من الإشارة ,فقط, إلى حيوية الإصلاح التربوي في هذا الصدد، فهو أساس تنمية حقيقية، وصلبة الأسس، فبدون تنمية القدرات البشرية عن طريق التربية والتعليم والتكوين والبحث العلمي، سيظل مجتمعنا معرضا لتحديث مادي تقني قسري, يلبي حاجات الاستهلاك، ولكل أشكال الاستلاب الفكري والإيديولوجي، وفي هذا السياق فإن تطوير المناهج الدراسية والنهوض بالمدرسة العمومية يبقى من أولويات التحديث الفكري. ولا شك في أن تدعيم مكانة الفكر الفلسفي في المنظومة التعليمية يكتسي هنا أهمية قصوى ,فبالفلسفة، يمكن ترسيخ قيم العقل والحوار والتسامح، ونبذ التعصب للمطلقات لصالح ما هو نسبي واحتمالي. إن الفلسفة هي جذر فكر الحداثة، الذي بدون تمثل مبادئه و أسسه ستظل كل تطبيقات المشروع المجتمعي الحداثي، هشة وسطحية وقابلة للانكسار، أمام تحيات العولمة من جهة، وتربص التقليد بالحداثة من جهة ثانية. إن للحداثة فاعلين, كما يقول ذ. محمد سبيلا، هم المثقفون الذين, كما يدعوهم ذ. عبد الله العروي إلى ذلك، مطالبون باستيعاب واستلهام دروس الحداثة وتجارب التحديث والاقتداء بمسلكيات روادها ومؤسسيها وأخلاقياتهم، يقول» إذا كان لتجارب الأمم من مغزى، فإن أمرنا لن يصلح إلا بصلاح مفكرينا، باختيارهم اختيار لا رجعة فيه المستقبل عوضا عن الماضي، والواقع عوضا عن الوهم، وجعلهم التأليف أداة نقد وانتقاد لا لأداة إغراء وتنويم» (الإيديولوجيا العربية المعاصرة ? ص22). فهل واقع حال نخبنا الثقافية والسياسية يِؤهلها للاضطلاع بهذا الفعل الحداثي؟ تلك قضية أخرى. *هذه المقالة منشورة في العدد الاول لمجلة «النهضة», وهي في الأصل نص لمداخلة في ندوة «المثقف والحداثة» التي نظمتها مؤسسة نادي الكتاب بفاس في24 و25 فبراير الماضي _دورة الباحث السوسيولوجي المرحوم عبد السلام الحيمر هوامش: 1_ د سبيلا محمد_ دفاعا عن العقل و الحداثة _ منشورا ت الزمن 2003 _ ص 22 2_ د سبيلا محمد _ الحداثة و ما بعد الحداثة _ الدارالبيضاء _2001 ص 7 3_ ن ,م ص 22و 23 4_ المرجع السابق ص 33 5_ أورده الدكتور محمد الشيخ _ مسألة الحداثة في الفكر المغربي _ منشورات الزمن _ص 27 6_ ن,م ص 72 7_ د بلقزيز عبد الإله _الخطاب الإصلاحي في المغرب : التكوين والمصادر _دار المنتخب العربي _ بيروت _ ص 102 8_د لمريني فريد _ صراع الحداثة والتقليد:معيقات التحول الليبرالي في المغرب _دفاتر وجهة نظر _ص 20 9 و10 _ عبد السلام الحيمر _ النخبة المغربية وإشكالية التحديث _ الملتقى _ ص 9 و10 11_ د بلقزيز عبد الإله _ المرجع المشار إليه _ ص 102 12_د علي أومليل _السلطة الثقافية والسلطة السياسية_ منشورات مركز دراسات الوحدة العربية _بيروت 1996 _ ص 51 _ د ,عبد الحق منصف _الدين و السياسة من منظور فلسفي _ مؤلف جماعي _ منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط _ ص 249 14 _ د سبيلا محمد _ حقوق الإنسان والديمقراطية _ منشورات سلسلة شراع _ ص 68