وأنا أطالع الكتاب الشهير "الجهل المقدس" للكاتب "اوليفييه روا" استوقفتني في صفحته المائة هذه العبارة "إن الاعتقاد الراسخ بأن على أعضاء المجتمع كافة أن يتقاسموا علانية منظومة المعتقدات نفسها هو اعتقاد غبي ولا يمكن أن يفضي إلا إلى قهر مستدام".قرأت وقرأت مرات عديدة عبارة روا هاته ليس لأني أبحت عن المعنى في الهجاء بل لأني وجدت شيء من منطق ورأي روا في محيطي ومجتمعي، أن تعتقد أن الناس سواسية فهذا ضرب من الجنون والغباء المقدس هكذا يذهب روا في تحليله لعقليات الناس المتقوقعة في جماجمهم، أمضيت سنة وأنا أدرس كتاب روا حتى إني اقترحته على أستاذي المشرف على بحوثي العلمية ليكون موضوع دكتوراه لكنه أقنعني أن روا لن يفيدنا في شيء، وطلب مني بالمقابل أن أبحث في مجال آخر كالحيوان مثلا على غرار كاتبنا العظيم عباس المحمود العقاد، لم يكن كلام الأستاذ معقولا بالرغم من أدلته التي أمطرني بها ذات صباح ونحن على شط برج دبي بدولة قطر، لكن علمت فيما بعد أنه شكل لجنة من طلاب الدول الاسكندينافية وكلفهم بإجراء مسح مفاهيمي علمي دقيق لكتاب روا، إن معارضة الأستاذ لمشروعي لم يكن مصدره عدم أهمية فلسفة روا بالعكس كان جهل المدرس عينه بروا. أن تجمع بين البحث في علوم التربية وبين فلسفة روا ونيكولا كزانسكي وفيرجينيا وولف فأنت بحق ستكون جاهلا ليس بالنسبة لذاتك ولكن للآخرين، تقول الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي " الجهل سلاح العاجزين" كنا في الصف الثانوي نحن زمرة الطلبة المنتسبون لشعبة الآداب نصف أستاذ الرياضيات وهو يشرح لنا المعادلات والجبر والهندسة نصفه "بالخرباق"، لم يكن الأستاذ "يخربق" ولكن كانت منا العقول تعجز أن تدرك علم وسعة الرجل، الذات تبحث دائما عن حماية نفسها في معارفها حتى إذا ما استفزت معرفيا تجدها تحارب وتقاوم لكي تضمن وسطا معقما لجهلها لأن هذا الأخير أصبح على غرار الشيء المقدس عندها. لو كتب لروا أن يلقي نظرة على منظومتنا التعليمية وعلى مدرسينا كان لا محالة سيفرح لأنه سيلمس لكلامه أرضية في الواقع المعاش، وليس ببعيد قد يقرر المكوث بوزارة التعليم ليؤسس قسما للعلاج النفسي يتم تعميم فروعه على أكاديميات المملكة. سألت صديقين لي أحدها شاب في مقتبل العمر حديث العهد بالتدريس وسألت الأخر وهو كهل قاربت وزارة التعليم أن تسرحه ليلتحق بالرفيق الأعلى، كان سؤالي حول سبب تعثر المنظومة التعليمية ببلدنا، فقال لي المدرس الشاب في ما يشبه المتأكد الواثق من كلامه " لأن الخوف لم يعد يسيج العلاقة بين التلميذ والمدرس" ثم أضاف شاهدا مزكيا به كلامه" كان قديما يأتي الأب بابنه للأستاذ ويقول له أنت اذبح وأنا اسلخ" في حين يرى الصديق الثاني أن المشكل يكمن في كثرة البيداغوجيات والمقاربات التي أصبحت تعج بها الساحة التعليمية، ويضيف أن التعليم كان بخير أيام زمان لأنه لم تكن هناك لا بيداغوجيات ولا مقاربات، كل ما كان هو العصا لمن عصا خاتما كلامه بانتقاد للوزير الوفا معتبرا إياه " دري كيلعب في التعليم" إن الشاهد عندي في هاتين الشهادتين هو تحجر العقول وقصرها في الوصول إلى مكمن الداء ومن ثمة وضع الأصبع عليه علاجا وإصلاحا، إن الأغلبية الساحقة من رجال التعليم يرون الإصلاح الجاري في الوقت الراهن داخل دهاليز المنظومة التربوية، يرونه تدميرا وليس المثال لما نقول عنا ببعيد، فلما رأى المشرفون على الوضع التربوي ضرورة خلق نسق بين التعلمات والواقع المعاش للمتعلم ضمن سياق بيداغوجيا الإدماج شهدنا مقاومة ليس لها مثيل واضعين الشوك والحجر أمام ذاك المشروع فلم يرتح لهم بال حتى أجهضوه، زد على ذلك المقاومة القوية التي يواجه بها الوزير الحالي للتعليم في ذات المشاريع والبرامج التي جاء بها لأجل تطوير المنظومة، وبما أنه أبدع وبحث عن المشاكل في عمقها ونظر وقرر فلقد جوبه بالرفض، هنا أعود لمنطق روا جهل الآخرين بالإصلاح وبأدبياته وفنونه وبما تملكه أنت –الباحث- كذات يجعلهم يقاومونك لأنهم يستشعرون الخطر فردت فعلهم الغاية منها حماية جهلهم لأن هذا الأخير غدا مقدسا يمنع المس به وهذا غباء حسب روا. أذكر أني في بداية مشواري العملي كمدرس بأحد المدن الجنوبية اقترحت على إدارة المؤسسة مشاريع عدة الهدف منها تطوير وتحسين تعلمات المتعلمين وتجاوز التعثرات، لكن بعد مدة اكتشفت أن هناك جبهة من المعارضين بدأت في التشكل رويدا رويدا –هذا النوع من العقليات يسميها روا بالعقليات الزائفة الجديدة وهي تُحجم التقدم على الصعيد الاجتماعي لأنها تخشى على وجودها من المخاطر التي يمثلها الانخراط في التجديد- معارضة التجديد والتشبث بالقديم سنة كونية سائدة لا تزول وهي باقية ما بقي الخلق والإبداع، إن الانجراف إلى مستنقع الفئة التي تقدس الجهل هو كل ما يسعى إليه هذا النوع من المجتمع المعارض، النجاح له أعدائه والخلق له معارضيه والفكرة الخلاقة يقابلها اعتناق القديم لأنه الخلاص للآخرين. إن تنامي التجديد في المنظومة التربوية لهو خير مبشر بزوال وذوبان العقليات المتحجرة كتلك التي تقرن النجاح في رفع العتبة أو تلك التي ترى أن المنظومة يجب أن تقوم على إرهاب المتعلم حتى يقبل على المدرسة وزد على ذلك من "الخبيير" والترهات، إصلاح المنظومة التعليمية والتزحزح بها قدما رهين بتكسير جمود العقول ونفض عنها غبار التقادم وتبني سياسات التجديد التي ينبغي أن تتمركز حول المتعلم وان تجعل النجاح مطلبا اجتماعيا من حق جميع المتمدرسين.