هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'        أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء        الحكومة توقف رسوم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام    "دور الشباب في مناصرة حقوق الإنسان" موضوع الحلقة الأولى من سلسلة حوار القيادة الشبابية    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    وفاة ضابطين اثر تحطم طائرة تابعة للقوات الجوية الملكية اثناء مهمة تدريب        أمن البيضاء يوقف شخصا يشتبه في إلحاقه خسائر مادية بممتلكات خاصة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال في مطار الجزائر بعد انتقاده لنظام الكابرانات    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    يخص حماية التراث.. مجلس الحكومة يصادق على مشروع قانون جديد    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من أجل حصانة علمية رجل التعليم
نشر في الأستاذ يوم 21 - 03 - 2012

يشهد التاريخ، قديمه وحديثه، على محورية التربية في صنع الإنسان وبناء المجتمع. وقيمة الإنسان هي حصاد معارفه، وحضارة المجتمع بدورها هي المحصلة الجامعة لمعارف أبنائه التي وهبتها إياهم التربية.
يتصف رجل التعليم في الأدبيات التربوية بكثير من الصفات، ويتمتع بكثير من القدرات والكفايات، وهو كذلك كان ومازال مع بعض الاستثناءات حتى أحصى بعضهم ثلاثين كفاية ومئات الصفات والنعوت؛ منها علمية خطابه، ورجاحة عقله، وثقافته الواسعة، وتضحيته السخية، وظلال عطفه الوارفة، ووعيه لما يقول ويفعل ... وتَوَّجَه بعضهم مرتبة الأنبياء، وما كان ليتوجه هذه المرتبة لولا مكانة وجلالة فعله في المجتمع الإنساني، من حيث أنسنة الإنسان والرقي به إلى عظم الخصال وجليل الأعمال. هذا الإنسان، الذي يشكل ثروة وثورة ألفية المعرفة، لا تبنيه غير التربية، والتربية مدخلها المؤسساتي نساء ورجال التعليم، حيث ( عندما تتوارى أهمية الموارد الطبيعية والمادية وتبرز المعرفة كأهم مصادر القوة الاجتماعية تصبح عملية تنمية الموارد البشرية التي تنتج هذه المعرفة وتوظفها هي العامل الحاسم في تحديد قدر المجتمعات )[1]. وقدر المجتمعات ما هو سوى معرفة، والمعرفة ما هي سوى بناء إنسان، وأساس البناء هو رجل التعليم، الذي هو في بحر المجتمع منارة شواطئه، ولؤلؤ جوفه، وعطاء خيراته. وهو القمر المضيء في دياجير جهله، المنير لعتماته وحلكته وشدة ظلمته. منه يستقي العلم الوجود والتطور، ويزداد تمددا وكبرا حتى يشب على يده، ويستقيم عوده وتورق شجرته، وتزهر وتثمر منجزات وأعمالا تغني حياة الإنسان حضارة وتشييدا ...
هو رجل التعليم الذي قال فيه الشعراء شعرا، زاده رفعة ومكانة وسموا في المجتمع، ولست في حاجة إلى أبيات شعر للتذكير بما قدمه رجل التعليم، وما يقدمه من خدمات عزيزة في المجتمع، كريمة المنبع والهدف. قيل فيه هذا الشعر العظيم حين كان محصنا علميا وثقافيا وأخلاقيا ومهنيا، وكان معتقدا ( بأن مهنة التدريس لا تعادلها مهنة أخرى باعتبار الأمانة التي يحملها أهل التعليم )[2]، وأنه مشارك في تنشئة الإنسان، ف ( أهل التعليم كل من موقعه يشارك في تنشئة خلق الله على مواصفات وصوغه في قوالب اجتماعية بلغات. بل لا أحد يجاري بمهنته معلما انتدب نفسه لأن يسهم في صناعة شخصية للإنسان، وصياغة عقيدته أو صقلها، وتنميط سلوكه الاجتماعي وترويض ملكاته الذهنية والبدنية لمزاولة مهنة إنتاجية، وإعداده للدنيا فقط أو لها وللآخرة )[3]. ومشارك في نشر العلم والمعرفة ( فالنهوض بالعلم من أوجب واجبات أهل الفكر القادرين على إنتاج الثقافة وإبداع المعرفة، بينما نشر العلم بين أفراد الأمة واحدا واحدة فمن أخص واجبات أهل التعليم، وهم المشمولون بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ” تعلموا العلم وعلموه الناس ” و ” كونوا ينابيع العلم مصابيح الهدى أحلاس البيوت سرج الليل جدد القلوب خلقان الثياب تعرفون في أهل السماء وتخفون على أهل الأرض )[4]. لكنه غدا اليوم ومن قبله البارحة مع الأسف الشديد شعر هجاء وبئس ولؤم، وأصبح علامة ملامة وليس علامة علاَّمة!؟ كل الأوصاف جمعوها في أشعارهم ونكتهم وحكاياتهم الليلية، يتسامرون بها عند عتبات أفواهم ضحكا وقهقهات وابتسمات عند حشمة سريرتهم!؟ هو الشعر اليوم يقول:
قف للمعلم يا بني عجولا *** واضربه حتى يرتمي مقتولا
هاجمه بالكرسي واكسر رأسه *** فالرأس كان مخرفا وجهولا
وإذا افتقدت من الكراسي عدة *** أشهر عليه الساعد المفتولا
والطمه فوق الوجه لطما موجعا *** حتى ترى للدمع فيه مسيلا
وإذا رأيت بوجهه نظارة *** عاجل ( ببوكس ) يرفض التأجيل
وعليك بالأسنان حطم نصفها *** كي لا ترى عضا ولا تقبيلا !
وعليك بالثوب عليه فشقه *** شقا .. ليمشي عاريا مخذولا
واجثم عليه .. كليث غاب جائع *** واستدع صحبك إن شكوت خمولا
قوموا عليه وحاصروه وحاذروا *** أن ترحموه إذا استغاث طويلا
فلماذا وصل الوضع إلى حد الهجوم والضرب والاستهانة بشموع تحترق لتضيء ظلمة الجهل؟ أليس في الواقع ما يشي بالأسباب والدوافع؟ وما يفصح عن الحقائق والنوايا؟ وما يشير إلى أيد خفية وجلية فاعلة في الواقع وملابساته؟ أيقع اللوم على رجل التعليم فقط أم يتعداه إلى الآخرين؟ على من تقع مسؤولية تردي الواقع التعليمي؟ هذا الواقع الذي لم يستطع تجاوز مشاكله وقضاياه التي استحكمت في بنيته رغم الجهود المبذولة! أسئلة معلنة ومضمرة في وجه رجل التعليم قبل وجه السياسة والكياسة والمجتمع. أسئلة أستقي منها سؤالا واحدا، استفزتني مسوغاته ودواعيه، وأحالتني على التفكر والتفكير فيه، لعلي أجد الجواب. لكن؛ هيهات أن أجد في قضيته التي تعقدت عقدتها واشتد لحام قضبانها، فتشعبت، أن أجد للقضيب فيها بداية أو نهاية؟! سؤال يقتضي الصياغة التالية: أليس لرجل التعليم في واقعه الذي يعيشه وفق معطياته نسبة ما من المسؤولية؟ وللجواب قصدت مثالا حيا يؤشر على غمس يد رجل التعليم في قضيته بنسبة مائوية ما، ولا يعفيه الواقع ولا العقل ولا الحقائق أبدا مما آل إليه وضعه في المجتمع. قد يكون المثال شديد الإيلام، ويستعصي على البعض هضمه واستيعاب طرحه في ظرفية تلوم الآخرين دون الذات، وتبحث عن المشاجب دون مساءلة الذات! وتفكر في أغلبها بالعواطف والحالات النفسية، التي تذهب بها إلى حد: انصر أخاك ظالما و مظلوما، حتى نخرج معنى النصرة من معناها في الحديث النبوي الشريف المعروف إلى الحديث عن النصرة، كما هي في ظل الإثنية المهنية على الأقل، إن لم تكن إثنية عرقية. فكيف يكون حال كاتبه وهو من أهل الدار؟! ركب النقد الذاتي بما هو ( الذي يبتغي بيان أصول الاستقامة في التفكير والسلامة في التكلم )[5]، ولعله يصنع به ثقبا في جدار الصمت عن سقم الذات، وفي المقدس الذي تجند الطاقات والأفراد والمؤسسات تجاه أي اقتراب منه، بله هتكه أو تعريته بمشرط النقد. حيث مقدسنا مسكوت عنه، محجوب عن العامة، مباح فقط لخاصة الخاصة أن يقتربوا منه بحذر وتهيب. فيه مصالح ومكاسب، أضعفها سكون وثبات فعل وروتين وعادة، نوم وراحة بال وعقل. بما يوحي بالركون إلى الكسل، إذ ( الكسل داء مستشر في الناس، ويغزو كل مفاصل حياتهم، فنحن ننجذب دائما إلى أن نؤدي جميع أعمالنا بالحد الأدنى المقبول من الجهد، على ما هو مشاهد في البلدان النامية اليوم؛ والنقد هو الذي يكشف عن قصور إنجازاتنا حين يحاكمها من خلال التنظير إلى النموذج الأصلي الذي كان ينبغي أن يتجسد فيها. ولك أن تقلب النظر في أحوال أمم الأرض لترى أن أعلى مستويات الإنجاز، يتحقق حيث تتوفر محاسبة ومتابعة حقيقية، وحيث تفضح الانحرافات ويكشف الغطاء عن الزيف والتدليس )[6]. وهو التعاطي معه أو مقاربته نسف له، وتحطيم لصنمه القائم عند عتبات معبده المطهر والمعطر بمحافل التهليل والتصفيق وكلمات المجاملات، التي تكره نقد الذات، وتنفر من كل جديد يطور الذات. كل جديد قال فيه مفكرنا عباس محمود العقاد رحمة الله عليه:( أعرف أن ليس أضيع عندنا من مجترئ على تمزيق غلاف الأجنة عن جوارحه واستنشاق هوائه بأنفه، وأن ليس أخسر صفقة في موازيننا من داع إلى جديد لأن أنصار الجديد قليل في كل جيل والفاهمين منهم لما ينظرون أقل من القليل )[7]. والنقد في الموضوع الذي أستهدفه، لابد أنه جالب ردودا ستتنوع في الدرجة والنوع والكم، بين مؤيد ومعارض، وبين حاد وهادئ، وبين معترف وناكر، ولكن للنقد في زمننا ضريبته، التي قد تكون قربان الروح في أعلى ثمن لها، ( فالذين يمارسون النقد يلقون الكثير من المشكلات؛ مما دفع جل الناس إلى إيثار الصمت، وتجاوزه بعضهم إلى تزيين الخطإ وتلميعه، مما جعل المشاكل تتراكم، وتفرخ، وتصبح أشبه بأوبئة مستوطنة. إن كثيرا من الأخطاء والخطايا التي نقع فيها، ليس مصدرها الجهل، وإنما الهوى والرغبة في تحقيق المصالح الخاصة، مما يعني تكرارها هو التوقع، نظرا لديمومة أسبابها. والذي يساعد على التخفيف من تكرارها، هو الاستمرار في نقدها بشتى الوسائل وشتى الطرق؛ فالأخطاء لا تتبدى دائما للعيان، ولا تتلبس بلبوس واحد؛ مما يعني ضرورة الاستمرار في كشفها ومواجهتها. ومن وجه آخر فإن أبنيتنا الفكرية ومقولاتنا الفكرية الإصلاحية وملاحظاتنا النقدية، لا تحتفظ بقوتها وطفوها على سطح الوعي من غير رعاية وحياطة وتدعيم ... والنقد هو الذي يجدد الأبنية الفكرية، حين يصقلها، ويجعلها في حالة من التوهج والإشعاع )[8]. ولأجله لابد من الاقتحام في موطنه، لأن له ألف داع وداع، وللرجوع إلى الذات من أجل الذات مئات المسوغات، وهي العودة إلى الذات فيصل بين ذات وذات، يوم قيل فيها شعرا:
قُمْ للمعلّمِ وَفِّهِ التبجيلا *** كادَ المعلّمُ أن يكونَ رسولا
أعلمتَ أشرفَ أو أجلَّ من الذي *** يبني وينشئُ أنفساً وعقولا
سبحانكَ اللهمَّ خيرَ معلّمٍ *** علَّمتَ بالقلمِ القرونَ الأولى
أخرجتَ هذا العقلَ من ظلماتهِ *** وهديتَهُ النورَ المبينَ سبيلا
وطبعتَهُ بِيَدِ المعلّمِ ، تارةً *** صديء الحديدِ ، وتارةً مصقولا
مثالي يفيد أن البعض منا نحن رجال ونساء التعليم يصدرون أحكام قيمة، تشكل رأيهم[9] في قضايا متنوعة أو بعضا منها، ورأيهم ذاك يأخذ الدلالة العامة غير المنطقية للرأي إن لم يستفتحوا به قولهم. وأما إن استفتحوا به قولا في قضية ما، فتلك دعوى، تستوجب التدليل، وهي الدلالة العامة المنطقية للرأي. وأما، ونحن أمام قضايا تربوية وبيداغوجية مدرسية، ذات موضوع شيئي قبل أن يكون موضوعا مشيدا علميا، قابلا للدراسة. فالمطلوب أن يأخذ الرأي الدلالة الخاصة، التي تفيد الاستنباط العقلي. ( وبما أن الاستنباط عملية استدلالية، فإن الرأي يصير حينئذ مردودا إلى الدليل )[10]. وأحكامهم القيمية ليس لها من الدليل والبرهنة والعلمية مرتكز وأساس ومنطلق، ومن الموضوعية ارتباط واحتضان! هم فيها متسرعون واهمون، يفضي بهم النقص المعرفي والمنهجي إلى ( إصدار أحكام خاطئة لا تصح عند ذوي المعرفة )[11]وهم في ذلك لا باحثين ولا ملاحظين، ولا حتى طبيعيين ساذجين مجربين مخبرين بالفطرة! بل يطلقون العنان للكلام العام على حساب الكلام العلمي الموضوعي. فيفقدون صدقهم العلمي، وسلطتهم المعرفية في مجتمعهم التعليمي والمدرسي قبل مجتمعهم الاجتماعي المجتمعي! و( إننا نلمح هنا إلى أن الممارسين للرفض الثقافي ] والتفكير العلمي [ هم غالبا قوم لم يمارسوا الفعل المعرفي ممارسة عملية، ولم يتعاملوا مع المناهج الإجرائية ولا مع النظريات المعرفية. وهم لهذا يصدرون عن وهم وعن ظن يهجسون به دون أن يختبروه. ولعلهم وجدوا ذلك أيسر السبل لإعفاء أنفسهم من عنت البحث والريادة، فقالوا بالرفض عجزا عن بلوغ المراد من جهة، وإنقاذا لماء الوجه من جهة ثانية كي يغطوا على قصورهم )[12]. فعجبا ممن المفترض فيهم العلم يصيرون إلى نقيضه؟! ويثبتون بالدليل والحجة والبينة أنهم مشاركون في بناء الجهل والتخلف، حيث ( أشد قيم التخلف ليست الأمية ولكنه التعليم الإدعائي بأنصاف المتعلمين كما قال المثل: ما قتل الناس سوى ثلاثة: نصف طبيب ونصف فقيه ونصف عالم. ] وأزيد رابعهم أنصاف السياسيين [ إن التعليم الخداع هو التعليم القاتل وهو شبه التعليم وشبه التقدم، وكم ذا نجد أن التعليم هو تجهيل والأمية أفضل منه لأن الأمية تواضع وتسليم بعدم المعرفة، ونصف العلم أن تقول لا أعلم، أما العلمية الواهمة فهي ادعاء وعنجهية ومن ثم هي خطر داهم ومتصل )[13]. فكيف نصدر الأحكام دون شروط إصدارها أو بما نحكم دون التحكم في أدوات الحكم ومرجعيته العلمية؟! ورغم ذلك نعي أن ( التفكير البشري على الرغم من قدراته الهائلة يبقى في حالة إرباك دائم أمام كثافة الأسئلة المتولدة عن الواقع الجديد )[14]. وما أحوجنا نحو هذا الناشئ الجديد إلى ( إنتاج منهجي متجدد، يجعل الأزمة ومفاتيح الحل تأخذ طابعا تداوليا أكثر منه انكفاء وانغلاقا )[15] ويبعدنا عن الموقف التقليدي المقاوم والممانع في أغلب الأحيان، لأن ( الواقع الحديث بكل معطياته العلمية تحديدا قد كشف حجم الجمود والتكلس للموقف التقليدي، فقد شهد العقل المعاصر حالة أشبه ما بالإمكان وصفها بالتحرر والاستقلال عن سلطة المفاهيم التاريخية )[16]. وتجاوز ( أسرى الأفكار الثابتة المتخلفة عن الذات، وعن الآخر )[17]، والمتشبثة بالأفكار التربوية التقليدية البالية التي تخطاها الزمن والتاريخ والتطور والتجديد التربوي. وإن المثال الذي أقدمه للنقاش دلالة على أن حصانة بعض رجال ونساء التعليم العلمية بل والعقلية على المحك، وتقبع تحت علامة الاستفهام؟ وتزيدها أزمة، وتعقد درجة الاستفهام، مأسستها عبر بعض الأطر المؤسساتية التي تمثلهم بالأكثرية أو بالأقلية، التي لا تضعها فقط على المحك بل بين السندان والمطرقة! إن لم نرتق بتفكيرنا التعليمي العام إلى التفكير العلمي ولا نعني هنا بالعلمية المعنى الضيق بل المعنى الواسع لمصطلح العلمية وذلك عندما نعمق في المثال البحث والدراسة. ومطلب العلمية أولا التفكير النقدي، بما هو ممارسة ( تجعل الفكر محاطا بقوانين إجرائية تصونه من الوقوع في الغلط والتغليط. فقد أفكر في أ مر ما، وقد يقدم غيري على نفس الأمر، لكن الفرق يكمن في طريقة التفكير. فقد نفكر لمجرد التفكير، وقد نفكر وفق ضوابط نقدية، تتوخى إجلاء ما في الشيء من عيوب وشوائب )[18]. وهو ما يضمن لنا مقاربة واقعنا التربوي والتعليمي من أجل تجاوز سلبياته واستثمار إيجابياته من أجل المستقبل، ومن أجل التطور والتقدم والتجديد. ولا يمكن لنا المشاركة في ذلك، ما دامت تتحكم فينا أحكام قيمة مسبقة أو خلفيات سياسية أو إيديولوجية أو حتى مواقف قبلية ... وربما سلبية موروثة من طبيعة تعلمنا. ومرتكز هذه المقاربة رجل التعليم، حيث ( لا يمكن إحداث التجديد التربوي المطلوب ... دون مساهمة إيجابية من قبل المعلمين والمربين، فالمدرس لابد أن يكون قائد هذه الثورة التربوية، ومن الأمور المعروفة التي تشهد على صحة تجارب التجديد التربوي أن سلبية المدرس تزداد كلما ارتقت تكنولوجيا التعليم وتعقدت ما لم يستحث بصدق للإسهام الإيجابي في تطويع هذه التكنولوجيا لبيئة التعليم الواقعية، وما لم نؤمن له مكانته وحوافزه )[19].
فقد نص بيان20 مارس 2011[20] لبعض رجال ونساء التعليم المتداول في الشبكة العنكبوتية على مطلب أجده غريبا، وهو إلغاء العمل ببيداغوجيا الإدماج لأنها أثبتت فشلها حتى نظريا؟! وأكد هذا الطرح استطلاع قام به موقع منتديات دفاتر تربوية بالمغرب، حيث جاءت النتائج يوم 25/03/2011 على الساعة الرابعة بعد الزوال على الشكل التالي:
ما رأيك في بيداغوجيا الإدماج
[52%] أطالب بإلغاء بيداغوجيا الإدماج
[15.9%] فهمتها و لم أقتنع بها
[14.6%] أطالب بمراجعة بيداغوجيا الإدماج
[9.5%] لم أفهمها رغم التكوينات التي شاركت فيها
[7.8%] فهمتها و مقتنع بتنفيذها
وهو ما يعضده في الطرح بالنسبة المائوية المفصح عنها ب ( 52% ). غير أن القول بالإلغاء فيه تفصيل علمي ومنهجي يجب طرحه، وبسط الكلام فيه بروية، خاصة من قبل المختصين والخبراء التربويين. لأننا نعلم يقينا وبالعبارة الصريحة أن بيداغوجيا الإدماج تعترف لنفسها بأنها مسلك منهجي [ مع بعض التجاوز في المصطلح والمفهوم والمضمون للبيداغوجيا ] لتصريف وتدبير المقاربة بالكفايات في الدرس المدرسي. حيث تقول مصوغة تكوين أساتذة التعليم الابتدائي: ( في المغرب، تم اختيارها ] يعني بيداغوجيا الإدماج [ إطارا منهجيا لتطبيق المقاربة بالكفايات )[21]. و( إن المنهج ليس طريقة في التصنيف والتبويب وحسب على أهمية ما للتصنيف والتبويب وإنما هو طريقة في التفكير والتحليل يتبعها العقل لاكتشاف الحقيقة وتقصيها )[22]. وبذلك نتساءل لمن يقول بأن بيداغوجيا الإدماج فشلت حتى على المستوى النظري:
بداية هل لهذه البيداغوجيا إطار نظري يقدمها نظرية قائمة بذاتها كأي نظرية تفسر الوقائع التعليمية والتربوية كحدثية داخلية أو خارجية، نفسيا وديداكتيكيا، بيئة ووراثة ... وتقيم دلالة للارتباطات والعلاقات بين المداخل والمخارج أو النتائج والأسباب والسيرورات ...؟ وعندما يطلق على مدخلها الإطار النظري لا يقصد به عمق مصطلح ” النظرية “، وإنما الأبجديات المرجعية التي ترتب خطواتها وآلياتها ومنهجتها في أداء وظيفتها ودورها في بناء الموارد والإدماج والتقويم والمعالجة ... بمعنى نظم بنيتها العضوية والوظيفية في سياق الأداء التعليمي التعلمي. وهي نفسها تستقي إطارها النظري من أكثر من نظرية تربوية ونفسية واجتماعية ...
وهذا السؤال يحيل على سؤال اكتمال النسخة النهائية لبيداغوجيا الإدماج وفق الاجتهاد أو التجربة المغربية. ويطرح مدى استقرارها في الفعل التعليمي التعلمي داخل الأقسام والحجرات الدراسية! وهو ما يشهد به الميدان بين مد وجزر، والذي مازال يشهد تجريب وتعميم بيداغوجيا الإدماج كائنا جنينيا لم تكتمل صورته النهائية وفق الاستنساخ المغربي، ولم ترسخ قدماه بعد في الممارسة الصفية! وفي ظل هذه الوضعية، أيمكن أن نطرح الإلغاء مطلبا؟ ومتى يمكن لنا طرحه أو عدم طرحه؟ وما هي شروط الطرح أو عدمه؟ ...
وهل هذا الوافد الجديد على المدخل الديداكتيكي للدرس المدرسي المغربي يشكل بيداغوجيا[23] وفق المتفق عليه اصطلاحا في البيداغوجيا؟ أم لم ترق بعد إلى هذه المرتبة الاصطلاحية والمفهومية والموضوعية؟ فالأغلب من الباحثين بما فيهم صاحبها لا يزعم أنها بيداغوجيا، لأنه ليس لها بناء البيداغوجيا. لكن، وضمن بعض التعاريف الخاصة أو الضيقة لمصطلح ” البيداغوجيا ” يمكن أن ندخلها فيما يسميه غاستون ميلاري[24] Mialaret. Gaston. البيداغوجيا على مستوى النظري، من حيث تطرح بيداغوجيا الإدماج التأملات النظرية التي يستنير بها تدبير المقاربة بالكفايات في الدرس المدرسي، انطلاقا من كونه تعلمات حاملة للموارد. وهي موارد تطبيقية في البعد الإبستيمي والمنهجي والموضوعي للفعل التعليمي. كما يمكن أن ندخلها في البيداغوجيا على مستوى التطبيقي إن اعتبرناها مسالك إجرائية وتقنية لبناء الموارد وإدماجها لحل وضعية إدماجية، ناظمها الهندسة البيداغوجية وفق ما طرحه الاختيار المغربي، الذي لم تكتمل صورته الأنطولوجية بعد.
وهذا الاختيار، على الأقل، يوجب على الممارس البيداغوجي الوعي المعرفي ببنية الطرح المغربي الإجرائي لبيداغوجيا الإدماج، وبوظيفته على مستوى فعلي التعليم والتعلم. كما يوجب في حقه تعميق التفكير في الجذور المعرفية التي تربط هذه البيداغوجيا بالحقول المعرفية التي تشتغل على التربية والتعليم، وعلى الذكاء الآلي أو العلوم المتقاطعة مع حقل التربية والتعليم. حتى يتسنى معرفة ارتباط تفاصيلها المنهجية أو الهيكلية المعلوماتية لها بمناطق الثبات في الحقول المعرفية الأخرى، بمعنى ما يشد رباطها بالتربة المعرفية التي تستند إليها وعليها. وهنا، يمكن الإشارة فقط كمثال لا ينفي أمثلة أخرى ولا يحصرها، إلى مفهوم السياق[25]. بما هو حامل لحدثية داخلية متعلقة بالوضعية الديداكتيكية أو الإدماجية، أو متعلق بحدثية خارجية عن الوضعية الديداكتيكية أو الإدماجية، بمعنى حدثية تقديم الوضعية نفسها. وهذا المثال يحيلنا على مجموعة من الارتباطات مع حقول معرفية، كالحقل اللساني، وفيه نكتشف معنى السياق ومكوناته وأسسه وخصائصه[26]، ومتى يكون دالا أو غير دال، ومتى يمكن المتعلم من فهم الوضعية إلى غير ذلك من التفصيلات في الحقل اللساني النصي. وهي مكونات الوضعية بما هي نص، تتيح للمتعلم تمثلها وتسنين تخزينها في الذاكرة، وفي معجمه اللسني كمفردات لغوية تحمل دلالات معجمية وسياقية ووظيفية ضمن التركيب اللغوي وخارجه. ما ينمي الرصيد اللغوي للمتعلم من جهة، وينمي كفايته اللغوية من جهة ثانية. وما يمده بتجارب الآخرين، بل يمده بطرق التفكير وبناء المعلومات والموارد والتعامل مع الإشكالات والمشاكل اللغوية ... كما أن هذا السياق فيه من المكونات ما يشكل سيرورة أو دخلات أو خرجات سواء من ناحية الأحداث أو الأزمنة أو الأمكنة أو الأشخاص أو العلاقات التفاعلية بين هذه المكونات. ذلك ( أن العناصر الأساسية التي تشكل سياق خطاب/ نص ما ] الوضعية الديداكتيكية، والوضعية الإدماجية [ هي: المتكلم، والمخاطب، والمشاركون، والموضوع، والقناة، والمقام، والسنن، وجنس الرسالة، والحدث، والمقصد،. تلك هي العناصر السياقية حسب تصنيف هايمس. لكن ليس من الضروري الاحتفاظ بكل هذه العناصر، ومن ثم حسب براون ويول يمكن الاكتفاء بما يلي: المتكلم، والمخاطب، والرسالة، والزمان، والمكان، ونوع الرسالة. ففي رأي براون ويول كلما توفر المتلقي على معلومات عن هذه المكونات تكون أمامه حظوظ قوية لفهم الرسالة وتأويلها، أي وضعها في سياق معين من أجل أن يكون لها معنى )[27]. وهو سياق داخلي للوضعية، إن فهمنا ميكانيزمات اشتغاله في الحقل اللغوي، فهمنا مكامن فهمه من قبل المتعلم أو العكس عند عدم فهمه. فنطلب مزيدا من المعلومات التوضيحية في الوضعية، إما عند بنائها ووضعها وإنشائها أو عند تقديمها ومقاربتها. وهذا الفعل هنا، هو فعل ديداكتيكي بامتياز! وهو ارتباط للسياق بالمجال الديداكتيكي. كما أن السياق الداخلي للوضعية بما هي نص لغوي من جهة أولى، ونص اجتماعي من جهة ثانية، يمكن ربطه بعلم الاجتماع وبسوسيولوجيا التربية، خاصة فيما يتعلق بالعلاقات الداخلية في بنية النص وحدثيته، التي تشير إلى حدثية أوسع، وهي حدثية المجتمع الذي تعبر عنه الوضعية، والتي تستقي منه دلالتها الاجتماعية عند المتعلم، وتربطه بمحيطه الاجتماعي. حيث ( يجب معالجة النصوص ] والوضعية نص بطبيعتها [ باعتبارها عناصر مكونة في الأحداث الاجتماعية، كما يجب أن لا نعنى فقط بالنصوص كنصوص، إنما أيضا بسيرورات صناعة المعنى التفاعلية )[28]. وهو ما يهتم به التحليل النقدي للخطاب. المجال الجديد في التحليل الألسني. وهكذا يمكن ربط السياق الداخلي بأكثر من حقل معرفي، بما فيه حقل علم النفس المعرفي، من حيث مساءلة المتعلم عن السيرورة الذهنية التي سلكها في فهم الوضعية، وهي سؤال الميتامعرفة، وسؤال التخزين في الذاكرة والتذكر والاستدعاء والتعبئة والتمفصل والمعالجة والأداء والتحويل ... وكلها مباحث علم النفس المعرفي تجذر الوضعية في تربته من خلال السياق، ذلك ( أن الذاكرة ترتبط بالسياق في واقع الأمر، وقد بدأ علماء النفس يفهمون أهمية وكذلك مخاطر هذه التبعية )[29] ... وأما السياق الخارجي فارتباطه بحقل سوسيولوجيا التربية، والصراع السوسيوبنائي بين المتعلمين حول المعرفة واكتسابها، فضلا عن صراع طبقي اجتماعي يتجه نحو التصادم بين ذوات المتعلمين أو يتجه نحو الاعتراف، والاعتراف نظرية اجتماعية ( تلعب دورا مركزيا يتمثل في إعادة بناء شبكة العلاقات الاجتماعية والإنسانية )[30]، التي تساهم في التخفيف من معاناة المتعلمين، وتدفعهم إلى الحوار والتعاون والتضامن بما يحقق انسجام جماعة القسم. وهو ما تضمنه بيداغوجيا الإدماج منهجيا واجتماعيا في تعلم الإدماج في مقاربة الوضعية جماعة. كما أن السياق الخارجي يمكنه أن يفضي بنا إلى علم النفس المعرفي، من حيث ظروف التخزين أو التذكر، بمعنى من حيث تسنينات التخزين أو تسنينات التذكر، أو ما يسمى الاستدعاء والتعبئة ... كما يمكنه أن يربطنا بعلم النفس العصبي، من حيث اكتشاف الباحات الدماغية النشطة، والتعرف على المواد الكيماوية التي تنتج حالة التنشيط أو معرفة الكهرومغناطيسية التي تساهم في السيولات العصبية ... إلى غير ذلك من المباحث العلمية التي تربط السياق كمثير وردات الفعل عليها من قبل المتعلم حين يواجه الوضعية من خلال سياقها. وهكذا؛ يمكن أن نلمس ارتباط السياق بحقول معرفية عدة، لم أفصل فيها، بقدر ما أعطيت إشارات فقط. فحقل التاريخ وحقل الجغرافيا وحقل الرياضيات والتربية الدينية حقول حاضرة وغيرها بالضرورة التعليمية المدرسية في الوضعيات كمادة مدرسية مستهدفة. وحقول معرفية أخرى كحقل التقويم، والتخطيط التربوي ... تحضر في العمق وبطريقة غير مباشرة، لأنها محط دراسة فعل التعليم مقابل دراسة فعل التعلم. وهنا ألا تسائل الدعوة إلى إلغاء العمل ببيداغوجيا الإدماج نفسها معرفيا؟ أيمكن الذهاب إلى مثل هذه الدعوة دون أن يكون لدينا الدليل القاطع بين أيدينا؟ ألا نجازف بمصداقية رجل التعليم العلمية؟ سواء متعلقها الموضوعي أو المنهجي أو الإجرائي؟ أيمكن المخاطرة بما راكمه رجل التعليم من معرفة وتجربة وممارسة مهنية بمجرد خلل هنا أو هناك، أو بمجرد نفي إشراك هنا أو اثباته هناك؟ أيمكن الارتكان إلى أراء مطلقة هلامية، لا يمكن الإمساك بصدقها أو كذبها في الحقل الديداكتيكي؟ هي متعالية عن الأسباب الحقيقية التي يمكن أن تشكل إرهاصات فشل بيداغوجيا الإدماج نظريا؟! وكيف أن يفشل النظري إن لم يحتكم إلى التطبيقي؟ ألا يمكن الحديث عن هشاشة البناء النظري بدل فشله في هذه الحالة؟ ...
يفيد البعد المعرفي في رجال ونساء التعليم أنهم باحثة متمكنون من أبجديات البحث وأدواته مقابل اكتسابهم التبصر والتروي والنقد الذاتي، بما يؤدي إلى صفاء ونقاء وموضوعية وعلمية أحكامهم وأقوالهم وأفعالهم. ما يزيل عنهم اعتباطية الأحكام والقرارات، ويثبت لهم منطق العقل فيما يقومون به ارتباطا بالتخطيط لعملياتهم وأدوارهم الرائدة في الفعل التدريسي. لكن ما يطرح الآن ينفي كل هذا عن بعضهم، الذين أجدهم أبعد من صفة الباحث وأقرب إلى صفات المتهور المندفع الغافل عن أبجديات مهنته وأدبياتها!؟ ذلك أن هذا الطرح الذي ذهب إليه أكثر من نصف المصوتين ينم عن فقر معرفي بأبجديات البحث وثقافته ولغته. فلا يمكن للباحث مهما كانت لديه ارتساماته وإرهاصاته وتخميناته بل وحتى نتائج واقعية بين يديه أن يعممها أحكاما إلا بمنهجية علمية صارمة تؤكد نتائجها ومعطياتها تكرارا. وهي ما يمكن أن نطلق عليها المعرفة التجريبية أو المعرفة الحسية، التي تبقى قاصرة عن تفسير ظاهرة فشل بيداغوجيا الإدماج، وعن تفسير أي ظاهرة طبيعية أو علمية أو اجتماعية. إذ، إن قررنا مبدئيا فشلها، فسيرتد علينا قرارنا جملة أسئلة، من قبيل:
ما المناطق النظرية التي تبين فشلها؟ وكيف؟
وما المرجعية النظرية التي اعتمدناها في مقاربة فشلها النظري؟
وهل فشلها فشل في الأسس والمنطلقات أم في النتائج النظرية أم فيها جميعا؟
وإذا ما فشلت في التطبيق، فما مصدر فشلها؟ أهو في فهمها واستيعابها الأصلي؟ أم في ترجمتها؟ أم في التكوين فيها، سواء ألخلل في مضمون التكوين أو في منهجيته أو في شروطه أو في المكوِّن أو في المكوَّن أو في الاشتغال بها أو في المتعلم أو في شروط التعليم أو في زمن التعلم ... ؟
أفشلها مع مجموعة من المتعلمين هو فشلها مع كل المتعلمين أو بعضهم؟
أفشلها مع مدرس هو فشلها مع كل المدرسين أو مع بعضهم؟
أفشل التكوين فيها مع مكون هو فشل كلي مع جميع المكونين؟
...
إن البعد المعرفي في نساء ورجال التعليم هو الذي يقودنا إلى هذه الأسئلة. وهذه الأسئلة هي التي توجب التروي والتريث في تقديم أطروحات أو بناء مقدمات على ملاحظات قد تكون في أغلبها عابرة أو وهمية. ما يستوجب التدقيق فيها وصبر حقيقتها بالمنهجية العلمية. فالمنظومة التربوية والتكوينية المغربية لا ينقصها التسرع والسرعة، فهي التي أهلكتها وحطمتها. وإنما ينقصها التروي والرزانة والهدوء وأخذ الوقت المناسب مع تقديره باستحضار الغايات الكبرى، التي نسعى إلى تحقيقها. أما الأحكام الجاهزة والمسبقة، فقد ملها الفكر التربوي المغربي. وما أحوجنا اليوم إلى فكر تربوي رزين متنور يقدر الأمور والأشياء حق قدرها. ويضع لها الموازين الحساسة التي لا تترك للصدفة أو للخطأ الفادح أي حضور في مشهد الممارسة الصفية. فما أحوجنا إلى ( فكر تربوي جديد يؤسس نظرته إلى الذات والواقع والمستقبل والآخر على مفاهيم وتصورات مغايرة، قوامها تعرية الذات التربوية أمام عيوبها وكشف مكوناتها وحدودها قصد صياغة عناصرها التنويرية وبلورة سيروراتها وآلياتها الفاعلة التي تستبدل مظاهر النقل والتبعية والاستهلاك بمظاهر الإبداع والاستقلالية والإنتاج. فالأمر يتعلق برهان إعادة النظر في هذا الفكر من خلال وعي مصادر انحطاطه وشقائه، وبالتالي تأسيسه من جديد على مبادئ وأهداف يؤطرها مناخ اجتماعي تسوده عناصر الحرية والعقلانية والانفتاح التي تشكل الأدوات اللازمة لكل تنوير أو تجديد في هذا المضمار. وكما أن الجميع يتفق على أن الصياغة التي ستؤهل هذا الفكر ليحتل مكانته المطلوبة بين الأنساق التربوية المتقدمة، لا يجب ولا ينبغي أن تنحصر في اجترار مضامين التراث التربوي، لأن ذلك لن يكسبه أي موقع ولن يضفي عليه أية قيمة تربوية هادفة، ولا في استنساخ مكونات النماذج التربوية الغربية وتقليد أطروحاتها، لأن ذلك لو تم، لا يعد لا مشاركة في تطويرها أو استيعابا لمنطقها أو إبداعا في نطاقها )[31]. وهب أخي أننا عدنا على أنقاض بيداغوجيا الإدماج والمقاربة بالكفايات والبيداغوجيات الحديثة والبحث التربوي وإدارة المشاريع ومشاريع المؤسسات ... إلى مدرستنا التقليدية والقديمة ولا أخال نفسي إلا مازالت حاضرة في منظومتنا التربوية والتكوينية ومستمرة فيها رغم ما نزعمه من تطويرها فهل ستنتج لنا عقول الألفية الثالثة؟ وحضارتها وقيمها؟ أشك أن تنجح في هذه المهمة بقدر نجاحها في تحقيق أهدافها في زمنها حسب معطياتها وقتئذ. أما نجاحها اليوم فيعتمد معطيات مغايرة ومختلفة عن تلك التي استوجبتها وظيفتها في زمنها. وإني أستغرب الدعوات التي ترفع من أجل الرجوع إلى مدرسة بداية الاستقلال وربما ما قبل الاستقلال، دون أن تستحضر هذه الدعوات الفارق التاريخي والحضاري والعلمي والثقافي والغائي والمكاني والزماني ومجموع المتغيرات الإنسانية والفكرية والمادية والسيكولوجية والاجتماعية التي وقعت ومازالت تقع بسرعة الصوت والضوء بل بسرعة السحابات الإلكترونية التي لا تتميز فيها الأشياء ... في هذه العودة!؟ وأجدها تنتكس في التاريخ ولا تتقدم، وترجع إلى الماضي ولا تتجه نحو المستقبل! ومن ثم أجد هذا الفكر التربوي الداعي إلى هذه الردة غير مسلح بالتفكير النقدي ولا بأدوات التفكير الإبداعي، ليستقي من أصوله ما يؤسس عليه تجدده وتطوره، وعاجز عن قراءة ماضيه قراءة نقدية، تنطلق من إيجابياته لتجاوز سلبياته، والبناء عليها مستفيدا من الفكر التربوي العالمي بما ينسجم مع خصوصيات ذاته المستقلة. أجده عاجزا عن ( الاستجابة لمتطلبات العصر الجديد القائم على اقتصاد المعرفة وتداول المعلومات في شتى مناحي الحياة العملية )[32]. فبالأحرى أن يطرح هذا الفكر أطروحات تتجاوز واقعه المر والمؤلم. وما هذا الطرح الذي أوقف دواليب الحياة التربوية والتعليمية بدعوى وقف النزيف أشد نزيفا في بعض جروحه وفلح جلده، ستتورم أكثر وتزداد تعفنا في المستقبل حتى الصديد، ما لم تستدرك في وقتنا الراهن! ... فالمنظومة التربوية بهكذا دعوات سيتوقف قلبها النابض، وهو ما يطلب مراجعتها. وما يستوجب على نساء ورجال التعليم أن يستحضروا البعد المعرفي والوعي في أي دعوة أو رأي أو حكم. وبالتالي؛ لا يمكن القبول بإصدار دعوة أو رأي أو حكم مطلق دون موجبات الإطلاق.
الدعوة إلى إلغاء بيداغوجيا الإدماج، هي دعوة تتعلق بعدة أطراف لا طرف واحد، من بين هذه الأطراف المجتمع المغربي في بعده الأبوي والأمومي، لأنها تتعلق بمدخل ديداكتيكي معني به أبناؤه. ويجب عليه أن يدلي برأيه في هذه المسألة. لأن الممارسة الميدانية والعملية والتطبيقية لبيداغوجيا الإدماج أثبتت على الأقل نتيجتين، هما:
نتيجة؛ أفادت بأن بعض المتعلمين نقلتهم بيداغوجيا الإدماج نقلة نوعية في مقاربة الوضعيات الإدماجية، بما حقق لديهم تطورا في التعلم على مستويات مختلفة ومتنوعة. فالتحرير الكتابي مثلا عندهم أصبح ممنهجا، وتفكيرهم أصبح منطقيا فضلا عن تمكنهم من توظيف مواردهم في حل الوضعيات. وكم من أب وأم مستاء ومستاءة من هذه الدعوة.
نتيجة؛ أفادت بأن بعض المتعلمين لم تنقلهم بيداغوجيا الإدماج تلك النقلة النوعية لعدة أسباب، لا داعي إلى تفصيلها.
ومن هنا، ألا يحق لمن نجحت بيداغوجيا الإدماج في نقل أبنائهم تلك النقلة النوعية أن يطالبوا بعدم إلغائها؟ أم هو حق لطرف دون آخر؟ ألا يحق لأب ولأم المتعلم المغربي أن يطالبا بتجديد المدخل الديداكتيكي للفعل التعليمي؟ ... وكذلك، من بين المعنيين بهذا الموضوع المتعلم نفسه. فهل هذه الدعوة استحضرت على الأقل موقف المتعلم المغربي في مصير فعله التعلمي على مستوى المنهج بما هو الوجه الثاني للعملية التعليمية التعلمية؟ فما المسوغات الموضوعية والمبررات العلمية التي سنقدمها للمتعلم الذي يجد نفسه في بيداغوجيا الإدماج، ويحب الاشتغال بها مبررا للدعوة إلى إلغائها؟ أليس من حق المتعلم الذي تمكن من الاشتغال ببيداغوجيا الإدماج الاحتفاظ بهذا الاشتغال الجديد بدل إرجاعه إلى الاشتغال القديم، ألا يشكل ذلك انتكاسة له؟ أليس هذا هضما لحقه في التعلم بالطريقة التي وجد فيها نفسه؟ ... ومنه، ألا يحق للمتعلم المغربي أن يكون له رأي في هذه المسألة، ما دمنا ندعي أن التعليم نمركزه حول المتعلم، الذي يشكل خطي الانطلاق والوصول في العملية التعليمية التعلمية؟! ألم يصبح ( من الضروري إذن أن نعيد النظر في وظيفة أنظمتنا التعليمية وفي برامجها التكوينية بحيث نحدد لها أهدافا دقيقة تتماشى في آن واحد مع رغبات التلاميذ وحاجات المجتمع. وإن تحقيق أهداف من هذا القبيل يستلزم اعتماد استراتيجية علمية شاملة في مجال توجيه التلاميذ ومساعدتهم على الوعي بمشاكلهم واتخاذ قراراتهم بأنفسهم. فإيماننا هو أن مؤسساتنا التعليمية لن تؤد وظيفتها بالشكل المطلوب إلا باعتمادها على برامج توجيهية شاملة ومتنوعة الخدمات ).[33]
وأما الفاعلون التربويون، فهم منقسمون على أنفسهم حول الدعوة إلى الإلغاء حسب تمكنهم من هذه البيداغوجيا أو حسب معطيات أخرى قد تكون في بعضها استرزاقية، وهي التي ندينها أشد الإدانة، وننأى بالجميع عنها. ومن ثمة، ألا يحق لمن سبر غور هذه البيداغوجيا، ويعرف مزاياها التربوية والبيداغوجية أن يطالب ببقائها؟ أليس من الأجدر إجراء تقويم وتقييم علمي جاد عليها؟ ... وبالتالي، أجد هذه الدعوة انتقائية، ولا تعبر عن المجتمع المدرسي، إن لم نوسعه إلى المجتمع المعني بالمسألة التعليمية، وهو المجتمع المغربي.
هذه الدعوة، وانطلاقا من كون مصدرها هو رجل التعليم على الغالب، فهي تستوقف علميته حول إطلاق الجزء على الكل، بمعنى الأخذ بالتعميم في موطن التخصيص. حيث بيداغوجيا الإدماج لا تنحصر فقط في أسبوعي الإدماج، وإنما هي كل متكامل ابتداء من أسابيع إرساء الموارد [ بالوضعيات الديداكتيكية ] إلى أسبوعي الإدماج ومتطلباتها الإجرائية. وما يستتبع ذلك من هندسة بيداغوجية ... وبالتالي، حكمت الدعوة على الكل من خلال الجزء وبالمناسبة، منهج إنزال بيداغوجيا الإدماج في الميدان فيه أخطاء كثيرة وكثيرة جدا، ساهمت في صب الزيت على النار، فحميت، وزادتها احمرارا المذكرة 204، التي تعقدت وعقدت المشهد المحتقن أصلا. فانفجر بهذه الدعوة وهو حكم باطل. ومنه، كان من المفترض التريث حتى تكتمل هذه البيداغوجيا من ألفها إلى يائها، لكي نصدر هذه الدعوة أو غيرها. وبالتالي، نجد أننا تسرعنا في هذه الدعوة، التي سيحاسبنا التاريخ التربوي المغربي عليها، لا لنجاحها وجدارتها بقيادة التغيير الديداكتيكي، وإنما لعدم إعطاء الفرصة لها للاكتمال والنضج، ليتسنى لنا الحكم عليها. وإعمال المنهج العلمي في دعوتنا بالإلغاء.
الدعوة إلى الإلغاء تفصح عن بضاعتنا العلمية، وعن متحكمات مجتمعنا المدرسي في الفعل والأداء، الذي يعتبر واجهة حقيقية لمكنوننا المهني الداخلي. فبيداغوجيا الإدماج، وبعيدا عن نقدنا لها، تعبر عن الجديد والدعوة إلى الإلغاء بدون بديل رجع للقديم، وما بينهما يظهر الصراع ما بين القديم والجديد. وهو صراع حقيقي أدى إلى صراع أنصار التجديد في المؤسسة التعليمية مع أنصار القديم. مما أدى بدوره إلى انتصار التيار الثاني على الأول، وضمن ملابسات عدة طغت عليها الهواجس غير التربوية والبيداغوجية. مرة في سحنتها السياسية و ثانية في سحنتها الإيديولوجية، هاته التي تحرف الواقع ذهنيا في عكسه بمنطوق صاحب الإيديولوجيا العربية المعاصرة قائلا: ( ما ينعكس في الذهن من أحوال الواقع انعكاسا محرفا بتأثير لا واع من المفاهيم المستعملة )[34] أو تحجب الواقع بما هي ( نسق فكري يستهدف حجب واقع يصعب وأحيانا يمتنع تحليله )[35] وثالثة في سحنتها النقابية ... ولم يفتح التياران حوارا بينهما، تكون الحجة والبينة والإقناع سبيل الاتفاق حول مخرج من الورطة أو من المشكل. وهو مشكل مصيري بالدرجة الأولى. لكنه يوحي بأنه مشكل صراع إرادات في العمق، وفي الظاهر مشكل خبزي حقوقي، نتعاطى معه عاطفيا لا عقليا. ويستقطب الأنصار في التيارين معا! وهنا، وضمن هذا الصراع، أيمكن للمؤسسة التعليمية أن تكسب المتعلم المعرفة، والتكيف مع المجتمع وتنمية ذاته وقدراته الشخصية ... بما يحقق عنده: ( تعلم لتعرف، تعلم لتعمل، تعلم لتكون، تعلم لتشارك الآخرين )؟[36]. وفي ظل هذه الدعوة بما يظهر منها؛ أنها تقاوم كل جديد مهما كان جنينيا، أيمكن الاعتقاد بأن المدرس ( يعتبر أكثر معرفة وأوسع خبرة وأدرى بمواطن القوة والضعف في النظريات والآراء المختلفة )؟[37]. حتى يعرض على الآخرين الدعوة إلى الإلغاء بالحجة الحسية والنقلية والعقلية؟ ( لأن الحجة العقلية إذا كانت يقينية جلية، أمكن أن نعرضها على الآخرين فنقنعهم إقناعا عقليا )[38]. وهو المتوخى من الدعوة. وأن أفضل دعوة جديرة بالثقة والمساندة هي تلك التي تراكم حولها أكبر قدر من إجماع المهتمين بها. وأن أخسرها، تلك التي يختلف حولها أكبر قدر من المهتمين.
أيمكن الذهاب إلى الدعوة إلى الإلغاء دون طرح البديل الأنجع والأنجح والأصوب، الذي يحقق تجديد المدخل المنهجي، ويحقق النقلة النوعية لتعليمنا؟ أليس هذا من متطلبات علمية نساء ورجال التعليم؟ خاصة أن لديهم تجارب وممارسات تعليمية رائدة، تتطلب فقط الهيكلة العلمية لمعطياتها. ألا يعاب على علمية نساء ورجال التعليم النقد دون طرح البديل؟ ونحن نعلم أن النقد البناء هو الذي يطرح البديل، حيث ( النقد مظهر من مظاهر استيقاظ الوعي، فالحضارات حين تدخل في التراجع والأفول، يسيطر على مثقفيها الانشغال ببيان الإنجازات التي حققها عظماؤها بدل البحث عن وسائل استعادة ما فقدوه، وتعويض ما فات. يعني النقد وعي الوعي بذاته، وقدرته على تجاوز النماذج الشائعة، والعودة إلى الأصول والأهداف الكبرى في كل المسائل التي تحتاج إلى إعادة النظر )[39]. وكذلك الانشغال ببيان إنجازات الآخرين واستيرادها، والانسلاخ عن الذات إلا من وعى دوره العلمي وموقعه الاجتماعي الثقافي، في تشييد العلم والتنمية والحضارة في مجتمعه. وكان مستقلا في التعاطي مع هذه الإنجازات غير منبهر ولا منغمس بكليته فيها، متخذا مسافة منها لنقدها والتأسيس على إيجابياتها. ( وخاصة أن معرفة الآخر علمتنا أنها غير ثابتة، وأنها تحمل دائما في رحمها المجهول والخطأ؛ الأول في حاجة للاكتشاف، والثاني في حاجة للتصحيح. فأما الطريق إلى ذلك فهو حسن فهم المعرفة واستيعابها في ظروف نشأتها، ثم مناقشتها بالعقل العلمي المنهجي الذي يتخذ استراتيجية له فكرة التبني باكتشاف المجهول وتصحيح الخطأ، لأن تبني معرفة ما يعني تجديدها ودفعها إلى الأمام )[40]. وهي الدعوة إلى الإلغاء دعوة تقتضي مكونا عقليا وآخر لغويا وثالثا واقعيا منسجمة ومتكاملة فيما بينها لأجل صدقها اتجاه الآخر غير المقتنع بالدعوة، والدفع به إلى الاقتناع بها، والإيمان بها، والمشاركة في المطالبة بها. وهو طلب البديل يفيد البحث في القضية التعليمية بمختلف المناهج للوقوف على الحقائق، وبناء الجديد المعرفي عليها، ونحن نعرف بأن ( المعرفة ليست نعمة أزلية يفرغها في جيوبنا الآباء والأجداد، وليست منحة باردة تنتظر أن يفرغها في جيوبنا الآخرون. إن المعرفة إنتاج للمعرفة بكل ما تحمله كلمة الإنتاج من مدلولات. إنها كدح عقلي وجسدي يجمع في آن واحد بين النتيجة والناتج والاستنتاج والإنتاج )[41]. فكيف بإسقاط الأجنة والخداج يمكننا من إنتاج المعرفة حول مؤسستنا التعليمية، وحول متعلمينا، وحول سياستنا التعليمية، ومنهجيات التدريس ... ؟
إن الدعوة إلى الإلغاء دون طرح البديل تنم عن فقدان التفكير النقدي في منظومتنا التربوية، الذي يسائل الممارسة الصفية يوميا عن تفاصيل يومياتها التنظيرية والإجرائية والعملية ونتائجها. وتعرب عن انسداد أفق فكرنا التربوي، الذي تحاصره المشاكل والقضايا الإشكالية دون أن يقاربها بنفسه. فهو إما جالبا الآخر لحلها أو هاربا إلى الأمام بمواقف غير مفهومة، ولا مبررة منطقيا وعقليا وعلميا وواقعيا! فما بالنا نطفئ مصابيح منظومتنا التربوية في الليل، ثم نقودها، ونطلب منتوج المصابيح المضيئة؟! ألا نعلم أن التجديد التربوي استجابة للأسئلة المعرفية والبحثية العميقة والمحرجة، التي تطرح على منظومتنا التربوية في التاريخ، ليترك لنا تراكما متفاعلا بين مكوناته، يصب في تجديدها، وإدامة تجددها مسايرة مع التطورات الوطنية والعالمية؟ أليس هذا الجديد الذي ظهر في الدرس المدرسي يستحق الدراسة والتحليل قبل أية دعوة نتخذها تجاهه، في ظل علمنا أن أزمة منهجة المقاربة بالكفايات في الدرس المدرسي هي جزء من أزمة المنظومة التربوية، التي تطلب حلا؟ فما البديل الذي طرحه التوجه لحل هذه الأزمة؟ ألا نعلم أن أزمتنا التربوية تطلب ( نفرا من أصحاب الوعي الذين يبصرون صور الخلل القائمة ويفتشون عن أسبابها، وينبهون إليها، ويرسمون ويحلمون ويفكرون فيما يجب أن يكون عليه الوضع الأفضل، بل ويناضلون عمليا في سبيل هذا وذاك )[42].
و ختاما؛ عود على بدء، يفيد أن هذه الورقة ليست دفاعا عن بيداغوجيا الإدماج، وقد سبقتها أوراق في نقدها، خاصة في تنزيلها وفق التجربة المغربية. وهي تنأى بنفسها أن تدخل في سجال مع أوراق أخرى مقابل استعدادها الدخول في حوار بناء مع كل قراءة نقدية أو قراءة تطويرية، بما يحقق الحفاظ على الحصانة العلمية لنساء ورجال التعليم. وهي الغاية التي استهدفتها بطرح دعوة إلغاء بيداغوجيا الإدماج ورديفاتها الأخرى تبعا للمنطق العضوي والبنيوي للبرنامج الاستعجالي على التساؤل والنقد. وليكن في وعينا، أننا إذا أغلقنا تعليمنا على الماضي وقاومنا كل ما فيه جديد أو جهد إضافي، فإننا سنموت موتا بطيئا، وموت الإنسان أشد إيلاما من موت الأشياء. ذلك ( إذا أغلق المجتمع ] بما فيه المجتمع المدرسي [ أبواب النقد ونوافذ التساؤل وانطوى على نفسه يجتر صورته عن ذاته، فإن دورها يتقلص ويدرك الخسوف مكانتها والذبول وظيفتها )[43]. فليكن وعينا بالمسؤولية الملقاة على عاتقنا أكبر من أي اعتبار في مقاربتنا لقضايا تعليمنا المأزوم. والله من وراء القصد.
عبد العزيز قريش
تربوي
[1] د. نبيل علي، العرب وعصر المعلومات، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1414/1994، العدد 184، ص.: 381.
[2] محمد الأوراغي، اللسانيات النسبية وتعليم اللغة العربية، منشورات الاختلاف، الجزائر العاصمة، الجزائر، 1431/2010، ص.: 208.
[3] محمد الأوراغي، اللسانيات النسبية وتعليم اللغة العربية، مرجع سابق، ص.: 209.
[4] محمد الأوراغي، اللسانيات النسبية وتعليم اللغة العربية، مرجع سابق، ص.: 210.
[5] حسان الباهي، جدل العقل والأخلاق في العلم، افريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 2009، ص.: 17.
[6] د. عبد الكريم بكار، تجديد الوعي، دار القلم، دمشق، سوريا،1421/2000، ط1، صص.: 41 42.
[7] عباس محمود العقاد، مقدمة الطبعة الأولى ل ” الغربال ” لميخائيل نعيمة، كتاب الدوحة 10، صص.: 37 38.
[8] د. عبد الكريم بكار، تجديد الوعي، مرجع سابق، صص.: 40 41.
[9] انظر تفصيل القول في الدليل عند أستاذنا طه عبد الرحمان،اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء، المغرب،1998،ط1، ص.: 133.
[10] نفسه، ص.: 133.
[11] عبد الله محمد الغذامي، اليد واللسان، كتاب المجلة العربية، الرياض، م.ع. السعودية، 2011، عدد 172، ص.: 154.
[12] عبد الله محمد الغذامي، ثقافة لأسئلة: مقالات في النقد والنظرية، دار سعاد الصباح، الصفاة، الكويت، 1993، ط.:2، ص.: 13.
[13] عبد الله محمد الغذامي، اليد واللسان، مرجع سابق، ص.ص.: 92 93.
[14] علي آل الطالب، تساؤلات الواقع المتجدد، المجلة العربية، مارس 2011، العدد 411، ص.ص.: 20 24.
[15] عبد الله محمد الغذامي، اليد واللسان، مرجع سابق، ص.ص.: 92 93.
[16] نفسه، ص.ص.: 92 93.
[17] د. نبيل علي، العرب وعصر المعلومات، مرجع سابق، ص.: 386.
[18] حسان الباهي، جدل العقل والأخلاق في العلم، مرجع سابق، ص.: 17.
[19] د. نبيل علي، العرب وعصر المعلومات، مرجع سابق، صص.: 389 390.
[20] هذا البيان اطلعت عليه ولم أجد له مصدرا ولا متبنيا، لكن بنوده توحي بأن من كتبه من رجال التعليم لأنه يعرف أغلب القضايا المطروحة في الساحة التعليمية. وما كنت لأتخذه مثالا لولا دعم مثال ثان له وهو استطلاع الرأي الذي قام به موقع منتديات دفاتر تربوية الذي قرنته معه.
[21] المركز الوطني للتجديد التربوي والتجريب، وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي، مصوغة تكوين أساتذة التعليم الابتدائي في بيداغوجيا الإدماج، الرباط، المغرب، ص.: 12.
[22] د. عبد الكريم حسن، إنتاج المعرفة بين الأصالة والحداثة، مجلة العلوم الإنسانية، كلية الآداب، جامعة البحرين، البحرين، 2002، العدد5، صص.: 20 91. وينظر كتب مناهج البحث في مسألة قيمة المنهج العلمية، والتي تعدد أحد مكونات الحقول المعرفية بل العلوم.
[23] للإطلالة الأولية على البيداغوجيا يراجع: رونيه اوبير، التربية العامة، ترجمة د. عبد الله عبد الدائم، دار العلم للملايين، بيروت، 1979،ط4، صص.: 21 43.
[24] Mialaret. G , Dictionnaire de l'Education, Ed. P.U.F. , Paris
[25] السياق وهو سياق لغوي بامتياز قبل أن يكون وقائع متنوعة، فإنه ينطبق عليه ما ينطبق على اللغة والحجاج عند أستاذنا الدكتور أبو بكر العزاوي في: اللغة والحجاج، مؤسسة الرحاب الحديثة، بيروت، لبنان، 2009.
[26] انظر في فهم السياق في لسانيات النص: محمد خطابي، لسانيات النص: مدخل إلأى انسجام الخطاب، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، 1991، ط1، ص.: 297 وما بعدها. كذلك في: د. منذر عياشي، الأسلوبية وتحليل الخطاب، مركز الإنماء الحضاري، حلب، سوريا، 2009. وفي: د. محمد نظيف، الحوار وخصائص التفاعل التواصلي، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 2010.
[27] محمد خطابي، نفسه، ص.: 297.
[28] نورمان فاركلوف، تحليل الخطاب: التحليل النصي في البحث الاجتماعي، ترجمة: د. طلال وهبه، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، لبنان، 2009، ط1، ص.: 37.
[29] باتريك لومير، علم النفس المعرفي، ترجمة: عبد الكريم غريب، منشورات عالم التربية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، 2011، ط1، ص.: 140.
[30] د. كمال بومنير، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان، 2010، ط1، ص.:130.
[31] د. الغالي أحرشاو ، العلم والثقافة والتربية: رهانات استراتيجية للتنمية، منشورات مجلة علوم التربية 2، الرباط، المغرب، 2005، ط1، ص.: 88.
[32] د. الغالي أحرشاو ، العلم والثقافة والتربية: رهانات استراتيجية للتنمية، مرجع سابق، ص.: 88.
[33] د. الغالي أحرشاو ، العلم والثقافة والتربية: رهانات استراتيجية للتنمية، مرجع سابق، ص.: 112.
[34] د. عبد الله العروي، الإيديولوجيا العربية المعاصرة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 1995، ط1، ص.: 29.
[35] نفسه، ص.: 29.
[36] د. نبيل علي، الثقافة العربية وعصر المعلومات، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت،2001، العدد 265 عدد خاص، ص.: 307.
[37] د. يزيد عيسى السورطي، السلطوية في التربية العربية، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت،2009، العدد 362 ، ص.: 82.
[38] جينفياف روديس لويس، ديكارت والعقلانية، ترجمة عبده الحلو، منشورات عويدات، بيروت، لبنان، 1988، ط4، صص.: 17 18.
[39] د. عبد الكريم بكار، تجديد الوعي، مرجع سابق، ص.: 40.
[40] د. عبد الكريم حسن، إنتاج المعرفة بين الأصالة والحداثة، مرجع سابق، صص.: 20 91.
[41] نفسه، صص.: 20 91.
[42] د. سعيد إسماعيل علي، فلسفات تربوية معاصرة، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1416/1995، العدد 198، ص.: 141.
[43] د. سعيد شبار، النخبة والأيديولوجيا والحداثة في الخطاب العربي المعاصر، سلسلة ودراسات وأبحاث فكرية1، 2012، ط2، ص.: 18.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.