تعد الطفولة مرحلة أساسية في حياة الإنسان إذ من خلالها تتشكل شخصية الطفل بأبعادها المعرفية والانفعالية والسلوكية و فيها يتم غرس البذور الأولى لنمو قدراته ومواهبه وتحديد اتجاهاته وميولاته وثقافته، وقد حظيت هذه المرحلة باهتمام بالغ من قبل علماء النفس باعتبارالطفل عنصرا أساسيا لتقدم المجتمع . و تعتبر الأسرة صمام الأمان الذي يقي الطفل من هول الآفات ومن تأثيرالأزمات فهي التي تنميه و تآزره و تقدم له التنشئة الاجتماعية الضرورية للتكيف مع التحديات التي قد تواجهه في الحياة ، ﻭﻫﻲ البنية ﺍﻟﻤﺴﺅﻭﻟﺔ ﻋﻥ ﺘﻨﺸﺌﺔ ﺍﻟﻁﻔل ﻭﺭﻋﺎﻴﺘﻪ ﺤﻴﺙ ﻴﺸﺒﻊ ﻤﻥ ﺨﻼﻟﻬﺎ ﺤﺎﺠﺎﺘﻪ ﺍﻟﻤﺎﺩﻴﺔ ﻭﺍﻟﻨﻔﺴﻴﺔ ﻭﺍﻻﺠﺘﻤﺎﻋﻴﺔ، ﻓﻴﺸﻌﺭ ﺒﺎﻷﻤﻥ ﻭﺍﻟﻤﺤﺒﺔ ﻭﺍﻻﻁﻤﺌﻨﺎﻥ، ﻭﻴﺼﺒﺢ ﺃﻜﺜﺭ ﺘﻭﺍﻓﻘﹰﺎ ﻤﻊ ﻨﻔﺴﻪ ﻭﺍﻵﺨﺭﻴﻥ.ﻭﺍﻟﺘﻨﺸﺌﺔ ﺍﻟﺴﻭﻴﺔ ﺘﻘﺘﻀﻲ معاﻴﺸﺔ ﺍﻟﻁﻔل ﻟﻭﺴﻁ ﺃﺴﺭﻱ ﺴﻠﻴﻡ ﺒﻭﺠﻭﺩ ﺍﻷﺏ ﻭﺍﻷﻡ ﻓﻲ ﺠﻭ ﻤﺸﺒﻊ ﺒﺎﻟﺤﺏ ﻭﺍﻟﻌﻁﻑ و ﺍﻷﻤﺎﻥ .
غير أن حضن الأسرة و معه الحياة الطبيعية السليمة قد لا تتأتيان لجميع الأطفال فقد يأتي الطفل إلى العالم و هو غير مرغوب فيه ، لتبدأ سلسلة معاناته التي ستلازمه طيلة حياته ، خصوصا عندما يكون الطفل نتاج علاقة " غير شرعية " لا يؤطرها الزواج و تحديدا بالمجتمعات التي لا تعترف بإطار آخر للإنجاب خارج بيت الزوجية.
تحمل الأم المسؤولية الكاملة - في هذه المجتمعات - عن هذا المولود الغير المرغوب فيه ، الذي ينعت فيها بأقدح الأوصاف و النعوت ، "كاللقيط" و " ابن الزنا" و " الطفل الغير الشرعي" و" ابن الحرام"... لا يكتفي المجتمع غالبا بعقاب " الأم " لوحدها بل يلحق بها " طفلها " البريء والذي لا يملك من أمره شيئا.لتستمر محاصرته وعتابه من طرف الناس و كأنه المسؤول الثاني - بعد " أمه " و " أبيه " - عن وجوده .
إن كل هذا الحيف و الظلم المجتمعي ، الذي يمارس عليه و على أمه يؤثر سلبا على و جوده الاجتماعي و كيانه السيكولوجي ، مما يفقده الثقة في نفسه و في الآخرين على السواء ، ويجعل شخصيته مهزوزة و ضعيفة، تحول دون نسجه لعلاقات عادية مع أفراد المجتمع ، وبالتالي عدم القدرة على تحقيق اندماج اجتماعي طبيعي ، لتتولد لديه مشاعر من الإحباط الاجتماعي و الانكسار النفسي ، تجعله غير قادر على الانصهار في مسار تنمية و خدمة المجتمع ،الذي لا يمثل عنده سوى مجموعة قاهرة ترمقه بنظرات ممزوجة بالاحتقار و النفور.
هذا العنف المادي و الرمزي الذي يمارسه المجتمع على هذا الطفل ، يؤدي بهذا الأخير الى مواجهته بعنف آخر، يكون اما خارجيا يتجلى في التعاطي للسلوكات المخالفة لتوجهات المجتمع و التصدي لكل الضوابط الاجتماعية ، واما داخليا تارة أخرى، حينما يتم اللجوء إلى التعاطي للمخدرات و الموبقات الأخرى ابتغاء تدمير الذات كنوع من "المواجهة" للعنف المسلط عليها من الخارج .
ومن الغريب جدا ان يتلقى هذا الطفل كل هذه المآسي و العذابات من قبل مجتمعات " اسلامية" بالرغم من أن الاسلام قد كفل للطفل المتخلى عنه حياة مستقرة ، ورتب له حقوقا ، فأوجب التقاطه و عمل على المحافظة عليه بما يحقق له الأمن و الأمان ، فغدى بحث الطفل المتخلى عنه بحثا مهما في كتب الفقهاء يبين أحكامه و يضع ضوابطه. فعن أبي شهاب عن سنين أبي جميلة أنه وجد منبوذا في زمان عمربن الخطاب فقال فجئت به اليه، فقال : ما حملك على أخذ هذه النسمة ؟ فقال وجدتها ضائعة فأخذتها . فقال له عريفه : يا أمير المؤمنين انه رجل صالح . فقال عمر : أكذلك ؟ قال : نعم . فقال عمر بن الخطاب : اذهب فهو حر، لك ولاؤه و علينا نفقته .(السنن الكبرى للبهيقي 6/.202 نستشف من هذه الواقعة مدى اهتمام الاسلام بهذه الفئة، فالطفل المهمل حر وان وجده عبد و نفقته على حساب بيت مال المسلمين ولا يسلم الا لمن كانت سمعته طيبة و أخلاقه حسنة.
في المغرب صدر قانون يعتبر بمثابة ظهير صادر في 22 من ربيع الأول 1414 الموافق ل10 شتنبر 1993 يتعلق بالأطفال المهملين ثم تغييره بظهير 13 يونيو 2002 الموافق لفاتح ربيع الآخر 1423 , حيث يتضمن هذا القانون الخاص إثنا وثلاتون فصلا . تعرضت المادة 9 من ظهير الكفالة 13 يونيو 2002 للشروط القانونية لمستحقي الكفالة بقولها : تسند كفالة الاطفال الذين صدر حكم باهمالهم الى الاشخاص والهيئات الأتي ذكرها: - الزوجان المسلمان اللذان استوفيا الشروط التالية : * أن يكون بالغين لسن الرشد القانوني و صالحين للكفالة أخلاقيا و اجتماعيا و لهما وسائل مادية كافية لتوفير احتياجات الطفل . * ألا يكون قد سبق الحكم عليهما معا أو على أحدهما من أجل جريمة ماسة بالأخلاق أو جريمة مرتكبة ضد الأطفال. * أن يكونا سليمين من كل مرض معد أو مانع من تحمل مسؤوليتهما . * ألا يكون بينهما وبين الطفل الذي يرغبان في كفالته أو بينهما وبين والديه نزاع قضائي أو خلاف عائلي يخشى منه على مصلحة المكفول . - الامرأة المسلمة التي توفرت فيها الشروط الأربعة المشار اليها في البند الأول من هذه المادة . - المؤسسات العمومية المكلفة برعاية الأطفال و الهيئات و المنظمات و الجمعيات ذات الطابع الاجتماعي المعترف لها بصفة المنفعة العامة المتوفرة على الوسائل المادية و الموارد و القدرات البشرية المؤهلة لرعاية الأطفال وحسن تربيتهم و تنشئتهم نشئة اسلامية .
رغم وجود هذا القانون المنظم لكفالة الاطفال المهملين غير ان الواقع ما زال بعيدا كل البعد عن تطبيقه، فالاسر التي تتكفل بهؤلاء الاطفال لا تتعرض لأية مراقبة او مصاحبة بل غالبا ما يتخذ الموضوع طابعا بيروقراطيا صرفا . والجمعيات ذات المنفعة العامة التي ذكرها المشرع يفتقد جلها لأطر كفأة و موارد مالية قارة، قادرة على تلبية احتياجات هذه الطفولة المظلومة، ولعل الدولة قد تملصت من مسؤوليتها تجاه هؤلاء الأطفال واتكلت على الجمعيات، لتقوم بهذا الدور، وتناست أن معظم هذه الجمعيات ترزح تحت مشاكل مادية و لوجستيكية ،وأغلب المشتغلين بها لا يملكون كفايات و كفاءات في مجال الطفولة المتخلى عنها، التي تتميز بخصائص سيكولوجية مختلفة،تجعلها عرضة لعدة عقد نفسية و اجتماعية اذا ما أسيئ التعامل معها.
ان المجتمع أمام هذا الوضع ، يمكن أن يضيع عليه طاقات يمكن أن تكون هامة ، وعقولا قد تغدو نيرة و قد تساهم إن أعطيت لها الفرصة في تقدمه و ازدهاره و رخائه . وبالتالي بات من الملح البحث عن برامج إدماجية تساعد هذه الشريحة الاجتماعية الهامة على الاندماج في بيئتها و العيش في ظل جو من " التكافل الاجتماعي " مع أفراد المجتمع . انطلاقا من مقاربة شاملة تتجاوز مفاهيم الشفقة و الصدقة و الإحسان إلى نوع من التضامن و الإخاء الاجتماعي الذي ينبني على مفهوم أوسع لثقافة المواطنة ، بما تحمله من قيم العدالة الاجتماعية و ما يترتب عنها من مساواة في الحقوق و الواجبات . ومن الممكن التخفيف من معاناة هؤلاء الاطفال باجراءات بسيطة من قبيل، تسجيل وملاحظة أدق المعطيات والعلامات التي توجد على الطفل أثناء اكتشافه لأول مرة، لأنها ستكون ثمينة في المستقبل بدون شك، وربما عند الحفاظ على هذه الحيثيات،نكون قد ساهمنا في انقاد كرامة انسان شاءت له الأقدار أن يحيا بلا هوية بيولوجية، وحتى اذا ما صحا ضمير ابويه لاحقا، فستكون لكل معلومة تافهة في نظرنا، قيمتها في رحلة البحث عن الاصل البيولوجي في مجتمع لا يرحم من انتزع منه هذا الحق.