كأن الصباح لا ينتهي في أمكريو أو "قرية الصيادين" كما كتب على اللوحة التي تستقبل الداخل إليها على بعد كيلومترات على طريق شبه معبدة تكسوها الرمال، وتتراكم في بعض نقطها تلال صغيرة إلى درجة يضطر معها السائق غير المحترف إلى النزول من السيارة، ودفعها بدل سياقتها إلى حين تجاوز هذه الرمال العابثة بكل شيء، والتي لا تنتظر تلك الجرافات المنتشرة على طول الطريق المؤدية من طرفاية إلى أمكريو لإزاحة كثبان الرمال بسيزيفية من يسار الطريق إلى يمينه ومن يمينه إلى يساره بشكل يومي ودون ملل أو محاولة لإيجاد حل نهائي!! الصباح في "أمكريو" هواء نقي والمساء فيها أيضا هواء نقي وحتى عز الظهيرة هواء عليل ونقي، ولكنه حتما ليس المبرر الذي جاء بمئات وعشرات العائلات من بني ملال والصويرة وأكادير وأبي الجعد وآسفي وتازة والدار البيضاء أيضا وغيرها من المدن والقرى المغربية، للعيش في قرية "منفية" لا ماء ولا كهرباء ولا مدرسة ولا مستوصف، والأخيرين أنشئا منذ بضع سنوات إلا انهما لا يكفيان، وفوق هذا وذاك يقدم سكانها إلى بحرها عشرات الشباب يدخلون إليه ولا يعودون، وموتهم ك"ميتة سراق الزيت" بتعبير أحد الصيادين، ليس لأنهم "يحركون" إلى ضفة أخرى، فلا ضفة عيش كريم قريبة من أمكريو، ولكن بحثا عن مصروف اليوم/صيد أسماك. أمكريو...الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود تقع قرية أمكريو على شاطئ المحيط الأطلسي حوالي 35 كلم جنوب مدينة طرفاية، و تعرف كثافة سكانية قدرها أحد ساكنتها بنحو ما يزيد عن 5000 نسمة، و هي تابعة إداريا للجماعة القروية الطاح. و جل السكان هم من الصيادين و البحارة. شيدت الدولة بقرية أمكريو مدرسة صغيرة جدا، و بعض المحلات لتوزيعها على أرباب المراكب للحفاظ على معداتهم التي رغم قلتها فهي تشكل لأصحابها مبعث معيشتهم. كما شيدت طريقا تربط بين مدينة طرفاية وقرية أمكريو، و مستوصفا صغيرا. وعند توصل الجريدة بسيل من شكايات ساكنة أمكريو، قصدنا هذه القرية لنقف على حقيقة الأمر. و اصطدمنا بواقع مر جدا، تقشعر له الأبدان، و لا تقبله الضمائر الحية. الطريق الواحدة مقطوعة بسبب الرمال.. الطريق الواحدة الرابطة بين قرية أمكريو و طرفاية مقطوعة في غالب الأحيان، بسبب زحف الرمال. و قد كان لنا حظنا من الانتظار حتى تزيح الآلة الوحيدة الخاصة بذلك ركامات الرمال، التي تغطي الطريق في عدة نقاط، و يتطلب الأمر أحيانا ساعات طوال. و إذا كان الجو مكفهرا، فسيبقى سكان القرية بدون ماء و لا خضر لأيام طويلة كما جاء على لسان أحدهم. مدرسة في غالب الأحيان بدون معلم!! المدرسة الصغيرة الوحيدة، تغطي الرمال نصفها، حتى أن التلاميذ و أستاذهم لا يجدون مشكلة في المرور من فوق الحائط، ليقطعوا مئات الأمتار نحو بيوتهم المهترئة الخالية من الماء و الكهرباء و دور النظافة، و هكذا تبدو قرية أمكريو كقرية بدائية في زمن ما بعد الحداثة و ما بعد العولمة. القرية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، خالية من كل شيء، إلا من رمال تغطي بيوتا مهترئة، ما إن تقبر تحت الرمال، حتى يضطر أهلها لبناء أخرى، و هكذا تتوسط القرية بيوت عبارة عن أطلال خبيثة المنظر، ما إن تلقي نظرك على إحداها، حتى تأخذك حيرة، و تسائل نفسك إن كانت هذه القرية من زماننا. مقبرة على شاكلة أفلام رعاة البقر! المقبرة الوحيدة بهذه القرية توجد على شاكلة أفلام رعاة البقر لسنوات العشرين، أصبحت تلعب دورين، للدفن و الغائط، و لا أرى من كتب على جزء الحائط المتبقي حول المقبرة عبارة " ممنوع الغائط و البول وسط المقبرة "، إلا رسالة للمسؤولين حول الوضع العام لهذه القرية المنسية. أطفال القرية بدون مستقبل لا حديث عن حقوق الطفل في هذه القرية، و أظن أن أطفال قرية أمكريو ليسوا من هذا التاريخ، حيث يفرض أن يرفع الطفل سماعة الهاتف ويتصل بالشرطة إذا شعر بأن أحد والديه أساء إليه إساءة بالغة، لأنه لا كهرباء و لا هاتف و لا اهتمام. و لا مجال للكلام على حق الطفل في اللعب و الخبز و الاستحمام ... مخازن لأصحاب المراكب تنتظر الفرج حسب نفس المصدر، فقد بنت الدولة بيوتا عبارة عن مخازن لأصحاب المراكب منذ ما يزيد على 6 سنوات، حتى يحافظوا على معداتهم، و لكنها سلمت لغيرهم، و هو أمر يستدعي تدخل من يعنيهم الأمر. و لربما مع قدوم العامل الجديد، ستتغير الأمور إلى الأحسن. مستوصف غريب يفتقر لأدنى شروط التطبيب، و حتى الممرض المعين لتلك الوظيفة، لا تراه الساكنة إلا لماما، يكفيه عذرا هو الآخر أن الطريق الوحيدة مقطوعة في غالب الأحيان، ووسائل النقل منعدمة، إلا من بعض أصحاب سيارات لاندروفير الذين يغامرون وسط رمال الصحراء ليحملوا ما تيسر من خضر و ماء لأهل القرية. اختلطت إذن كلمات وأجوبة كل واحد من هؤلاء السكان الذين استجوبناهم، لكنها صبت في النقطة نفسها "البحث عن شيء نفعله لكي نحس أننا نعيش" هنا يعثر هؤلاء على عمل يقومون به حتى لو كانوا يعرفون أنه يقود بعضهم إلى الغرق دون أن يخلف تعويضا لعائلته، ويعرفون أيضا أنهم يغامرون بمستقبل أبنائهم الذين تبتلعهم الأمية سنة بعد أخرى، ويفقدون الأمل في فتح أبواب مدارس جديدة، ويعرفون أيضا أن من مرض منهم " يطلب زهرو" فإذا توفرت وسيلة نقل يحملونه إلى مستشفى العيون، وإذا لم تتوفر وساءت حالته فعليه أن يستقبل موته باستسلام، إنها الحياة في أمكريو أو المنفى الاختياري للصيادين.