1(- الدستور الجديد و مؤشرات الإصلاح السياسي المعطوب إن الإصلاح السياسي و على مدى تاريخ المجتمعات الإنسانية لا ينبع فقط من إرادة فردية أو فئوية، لأن الفرد أو الفئة القائمة على ذلك، لا محالة ستستهدف من خلاله الإبقاء، بل و تعزيز مكانتها على رأس الهرم السوسيوإقتصادي، ما دامت ممسكة بزمام الأمور و على رأسها الإصلاح نفسه، الذي غالبا ما تكون حجرة العثرة أمامه. فما الذي يدفعها إلى التخلي عن مكانة الحضوة داخل المجتمع أو على الأقل تقديم تنازلات. إن فكرة الإصلاح الناتجة عن المهيمنين لا مكانة لها في علم الإجتماع السياسي، أللهم في الفلسفات الأخلاقية أو الدينية المثالية. حتى من يقول لوجه الله فهو يفكر في الجنة كجزاء، في الغالب لا يعطي أحد شيئا إلا بدافع، إلا بالضغط. فالحاكم عندما يتنازل عن قليل أو كثير فهو يشعر بالضغط، و قد لا تشعر أنت به، هو ينظر إلى ما سيؤول إليه الحال في المستقبل، و من خلال خطوات إستباقية، ثم أيضا تنازلات. هكذا منطق التاريخ. الأمر في النهاية مسألة ميزان قوى، و هذا ما تعبر عنه قولة “شعرة معاوية” الشهيرة، حيث قال: “بيني و بين الناس شعرة إذا خلوها جذبتها و إذا جذبوها خليتها”، معنى ذلك أن السياسة فيها أخذ و رد حسب موازين القوى بين من يحكم و من يحكم أو لا يحكم. لزمن طويل كان أحد الإمتيازات المميزة للسلطة المطلقة هو حق الحياة و الموت. لقد كانت السلطة فيه قبل كل شيئ حقا للقبض: على الأشياء، و الأجساد، و في النهاية الحياة، لتبلغ ذروتها في الإستيلاء على هذه الحياة بإلغائها كليا، إن هذا الموت الذي كان ينهض على حق الملك في أن يدافع عن نفسه أو على طلب أن يدافع عنه، سيظهر على أنه الضد البسيط للحق الذي للجسم الإجتماعي كله في تأمين حياته و المحافظة عليها و تطويرها. فكيف إذا لسلطة أن تمارس في الإماتة أعلى إمتيازاتها، إذا كان دورها الأساسي هو ضمان و دعم و تقوية و تكثير الحياة و تنظيمها و جعلها أكثر رفاهية. في ظل تراكم التجارب و الفكر الإنسانيين حول مفهوم السلطة و ممارستها على مدى قرون صار هذا المنطق أحدث و أرقى أشكالها، و الذي عرف ذروته في فكرة “العقد الإجتماعي” عند جون جاك روسو على المستوى النظري، و عمليا من خلال النص الدستوري الذي عرف بإسم “إعلان حقوق الإنسان و المواطن” الذي أصدرته الجمعية التأسيسية الفرنسية سنة 1789، مؤكدة من خلاله على أن السيادة للأمة كما جاء في المادة الثالثة: “إن السيادة أيا كانت، إنما تجد مبدأها بصورة أساسية في الأمة و لا يحق لأية هيأة و لا لأي شخص أن يمارس السلطة مالم تكن صادرة عن الأمة صدورا صريحا”. يتحدث فقهاء القانون عن أن الصلاحيات الموسعة للملك(الممثل الأسمى للأمة) تجد مبدأها في ثلاث دساتير معتمدة في مغرب ما قبل الدستور الجديد: الدستور المكتوب الذي ينظم حقل الملكية الدستورية، الدستور التاريخي المنظم لحقل إمارة المؤمنين و الذي يجد مشروعيته في البيعة، و الدستور العرفي المنظم لحقل التحكيم و الذي يستمد مشروعيته من التحكيم. تتشكل هذه الدساتير الثلاثة لتنجز وظيفة معلنة هي تأكيد محورية المؤسسة الملكية، كما تحيل على مبدأ مركزي ضابط لدساتير مغرب ماقبل التعديلات الأخيرة، مبدأ مركزية السلطة، و هذا المبدأ يرتكز على مبدأ فرعي هو مبدأ "التفويض"، حيث أن السلطات العامة كالحكومة و البرلمان و القضاء تمارس صلاحياتها بمقتضى تفويض من الملك و ليس بمقتضى "تفويت"، فإذا كان البرلمان يمثل الأمة فالدساتير المكتوبة السابقة تجعل من الملك ممثلها الأسمى، و من صلاحياته حل البرلمان أو إحدى غرفه، أما الدستور التاريخي و كما هو معلوم في أدبيات الحكم التاريخية المرافقة للملكيات و الخلافة أو إمارة المؤمنيين فإن مجلس النواب لا يعدو كونه مجرد مجلس شورى، أما فيما يخص القضاء فهو من وظائف الإمامة العظمى. نخلص من هذا التحليل إلى القول بوجود سلطة ملكية أصيلة و ثلاث وظائف مفوضة، لا تملك أدنى مقومات المواجهة و الصمود في وجه قوة راكمة من المشروعية ما يجعلها قادرة على إحتكار تمثيلية الأمة و بالتالي إحتكار السلط في إطار سلطة واحدة، إن قوة هذه الأخيرة تجد مشروعيتها في كل من الدستور التاريخي و العرفي اللذين يطغيان على على الدستور المكتوب و يقيدانه، من حيث أنهما سابقان في وجودهما عليه، بحيث جعل الملكية محتكرة للسلطة التأسيسية أي سلطة وضع الدستور المكتوب. لاكن و في ظل الدستور الجديد ماذا تغير؟ هل يمكن الحديث عن إعادة توزيع للسلط بشكل متساوي يضمن توازنها و تكاملها بحيث لا تجمع في يد شخص أو فئة؟ هل يمكن تجاوز وحدة السلط التي يشرعنها كل من الدستور التاريخي و العرفي من خلال الدستور المكتوب الجديد إلى مبدأ فصل السلط، إستنادا على مشروعية حداثية تعطي السيادة للأمة، ممثلا في قدرتها على إختيار ممثليها و إخضاعهم للمسائلة والمحاسبة. و هو ما مثلته أفكار جون لوك الذي قرر بأن الحكومة المطلقة لا يمكنها ان تكون شرعية، إذ كيف يمكن أن يقبل الناس الخضوع لسلطة شخص أو فئة هي وحدها لا تخضع لأية سلطة!؟ إن ذلك بحسبه يعني أنهم جميعا (أفراد المجتمع) سيتحولوا إلى "حال المجتمع" ما عدى هذا الشخص فهو وحده يبقى في "حالة الطبيعة"، مالكا لكل شيء!؟ و كما يرجع منشأ الحكم إلى إختيار الشعب و رضاه يرجع إليه النظر فيما إذا كان الحاكم يقوم بالمهمة المنوطة به أم انه يتعسف في ممارسة السلطة المفوضة له، فإذا طغى الحاكم فللشعب كامل الحق في مقاومة طغيانه و عزله، لأنه هو الذي نصبه، فالشرعية منه و إليه. وبالعودة إلى الإشكالات المطروحة حول قدرة الدستور الجديد على إعادة توزيع السلط بشكل يضمن توازنها و عدم هيمنة إحداها على الاخرى و وضع المسؤولين على رأسها بناء على إرادة الشعب، و بالتالي إمكانية إخضاعهم للمسائلة و الحساب؟؟؟ السلطة التنفيدية: مع أن الدستور الجديد نص على أن الوزير الاول يفرزه الإقتراع المباشر، أي أن مشروعيته نابعة من الإرادة الشعبية التي صوتت لحزبه، لاكن تلك الإرادة الشعبية المنهكة، أولا بفعل إنعراجات و طعنات العملية الإنتخابية، ما تفتأ ترفع رأسها حتى تغتالها طعنات فصول الدستور، فبحسب الفصل42 الملك:"يعين أعضاء الحكومة بإقتراح من رئيسها. للملك بمبادرة منه، بعد إستشارة رئيس الحكومة، أن يعفي عضوا أو أكثر من أعضاء الحكومة من مهامه". فكيف إذا لوزير أول أن يحكم البلاد و هو لا يستطيع ان يعين أو يعزل وزراء حكومته إلا بإستشارة الملك، الذي يرأس المجلس الوزاري، غير أن الإستشارة و الإقتراح لها حدود فالملك حسب الدستور لا تناقش قراراته و لا توضع موضع تساؤل حتى!!! السلطة التشريعية: كثر الحديث عن تعزيز دور البرلمان بغرفتيه في رسم المعالم السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية للبلاد ما دام يمثل إرادة الامة التي إختارت أعضاءه عن طواعية و إقتناع، لاكن تعزيز هذا الدور لا يأتي البثة من فراغ، بل يحتاج إلى جهد جهيد من الإصلاح، و بإرادة إجتماعية لا فردية أو فئوية تهدف إلى بعث الروح في جسد فقد روح السلطة منذ ولادته، على أن روح هاته الإرادة لم تولد، فبالاحرى تبعث في ظل إستمرار تقزيم سلطات البرلمان مقابل السلطات الأخرى و على رأسها السلطة الام الملكية. فكما هو معلوم أن الدستور الجديد نص على هزالة سلطة البرلمان مع أنه السلطة الممثلة لإرادة الأمة بدون منازع، و بالتالي الأقوى بحسب أدبيات نظم الحكم الحديثة، و مع ذلك فللملك حق حل البرلمان أو إحدى غرفه كما هو منصوص عليه في الفصل 96 » للملك بعد إستشارة رئيس المحكمة الدستورية و إخبار رئيس الحكومة و رئيس مجلس النواب و رئيس مجلس المستشارين، أن يحل بظهير المجلسين معا أو أحدهما «، لاكن هل بوسع رئيسي الغرفتين الإعتراض أو حتى مناقشة هذا الإخبار من حيث الفائدة المرجوة منه على الشعب بإعتبارهما ممثلان لإرادته من خلال مشروعية حداثية لا تقبل النقاش؟؟ الفصل 52 يجيب عن هذا التسائل »للملك أن يخاطب الأمة و البرلمان، و يتلى خطابه أمام كلا المجلسين، و لا يمكن ان يكون مضمونه موضوع أي نقاش داخله «. أما فيما يخص إستشارة رئيس المحكمة الدستورية فقرار الحل دستوري مئة بالمئة ما دام منصوص عليه في الفصل 51و 96 من الدستور. السلطة القضائية: ينص الدستور الجديد في الفصل 107على أن » السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية و عن السلطة التنفيدية. الملك هو الضامن لإستقلال السلطة القضائية«.كيف ذلك؟؟؟ كما يرأس الملك المجلس الأعلى للسلطة القضائية، بالإضافة إلى 19 عضوا يعين الملك 5 أعضاء، أضف إلى ذلك الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، هكذا يصبح المجلس تحت تصرف الملك، كما أن للملك حق العفو، و دون أن ننسى العبارة الفضفاضة المتضمنة في الفصل 107. الدستور الجديد يحمل في ذاته تناقضا بل تناقضات كبيرة، حينما ينص في مستهله "الفصل2: يقوم النظام الدستوري للمملكة على أساس فصل السلط، و توازنها و تعاونها، و الديمقراطية و التشاركية، و على مبادئ الحكامة الجيدة، و ربط المسؤولية بالحساب." بينما تتنافى الفصول الأخرى مع هذا المبدأ، بل و تتعارض معه، حيث السلط لا تزال مجتمعة في سلطة واحدة، سلطة الملك، ولو بنوع من الخلخلة و التعقيد و التعرج الذي ما يفتأ يعود للتأكيد على المبدأ المحوري للدساتير السابقة مبدأ وحدة السلط المجتمعة في سلطة واحدة و سلط مفوضة تابعة للسلطة الام. ومن هنا تنبع أقوى التناقضات الماثلة في الدستور الجديد، حيث أنه عندما ربط المسؤولية بالمحاسبة، وفي نفس الوقت نزه من بيده جميع السلط عن المسائلة و المحاسبة، الفصل46"شخص الملك لا تنتهك حرمته و للملك واجب التقدير و الإحترام"، بل و لا توضع قراراته و خطاباته موضع نقاش، إذا من سيحاسب، من لا يحكم، من لا سلطة له. لقد إرتأيت أن هذا المدخل الدستوري للمشهد السياسي كفيل بإيضاح ملامح المشهد السياسي ما بعد الإنتخابات التشريعية المبكرة، التي أفرزت فوزا نسبيا لحزب العدالة و التنمية...