دراسة دوفورست تنفرد عن سابقتيها، بكونها تسلط الضوء على قبيلة آيتوسى في إطار خاص، مستندة إلى معطيات مفصلة تهم مختلف الجوانب المرتبطة بقبيلة آيتوسى ، والحالة هاته تعتبر هذه الدراسة من الدراسات القليلة التي لامست حدود التحليل، من خلال إعطاء معلومات ذات مرجعيات متعددة المشارب، مما أتاح فرصة الوقوف على مجموعة من المعطيات المهمة لملامسة عناصر الإشكالية التي نرمي من خلال هذا البحث تقديم الإجابات الممكنة، وذلك إستنادا إلى ما يرتبط بالجوانب التي ركزت عليها دراسة دوفورست، فيما يتعلق بالتنظيم الإجتماعي للقبيلة والتدبير السياسي لشؤونها، من خلال إبراز الآليات المتحكمة في النسق الاجتماعي، وأدوار الزعامات والأعيان في توحيد مكونات القبيلة، وإلتفاف مختلف عناصرها (فخذاتها) حول تلك الرموز (الزعامات و الأعيان)، خدمة لإضطلاع القبيلة كوحدة موحدة بكل الأدوار المفترض أن تلعبها على مجال يتمدد حسب قوتها (الوحدة) وديناميتها (إستقرار علاقتها بقبائل الجوار)، ويتقلص بإنكماش علاقاتها بالقبائل المجاورة بالخصوص، كما أن هذه الدراسة التي تناول من خلالها دوفورست قبيلة آيتوسى، تعطي حسب رأيه حكما على أن البنية السياسية هي بنية تتسم بالتعقد والتعدد (مجلس آيت الأربعين)، في إشارة ضمنية إلى عدم فعالية هذه البنية ومحدودية آلياتها التدبيرية، نظرا إلى طابعها المتسم بالغموض، التداخل في الإختصاصات، وعدم الوضوح في الأدوار. وعلى عكس هذه الدراسات الثلاث (دراسة فريديريك دولاشابيل، دراسة فانسون مونطاي، دراسة دوفورست) التي هي بالأساس تقارير عسكرية، يعتبر كتاب بيران الذي هو محكي معاش، مصدر غني بالإشارات التي تكشف عن مجموعة من المعطيات المرتبطة بالأساس بالتنظيم السياسي لقبيلة آيتوسى، وخصوصا ما يتعلق بالزعامة، وهو من هذا المنطلق يفصح بلغة إيحائية أحيانا وصريحة أحيانا أخرى، عن جملة من الجوانب المسكوت عنها في الدراسات الثلاث السالفة الذكر، وما تجدر الإشارة إليه هو أن هذا المحكي، يعرض لتجربة الضابط بيران في مجموعة من المناطق المغربية، إلا أن ما يميز هذا المحكي هو تركيزه بشكل مستفيض على قبيلة آيتوسى، بالإضافة إلى أن هذا المحكي يستهل مضمونه بالحديث عن آسا كوجهة وظيفية للضابط في إطار مهمته العسكرية كمسؤول بمكتب الشؤون الأهلية؛ هذا قبل أن يحط الرحال بآسا ويستلم مهامه. انطلاقا من الفصل الثاني من المحكي يبدأ الحديث عن قييلة آيتوسى؛ في هذا الصدد لم تفت بيران الفرصة دون إعطاء وصف دقيق للحظة اللقاء الأولى بقبيلة آيتوسى، من هذا المنطلق كان لقائه بزعامة قبيلة آيتوسى المتمثلة في شخص القائد محمد ولد الخرشي إحدى اللحظات الغنية بالإشارات، خصوصا أنها الشخصية الوحيدة في المحكي التي خص بها بيران وصفا دقيقا امتد إلى التفاصيل الجزئية (هيئته، شكله، ملامحه، حركاته، ملابسه، واكسسواراته....)، بإختصار وصف فوتوغرافي للقائد محمد ولد الخرشي لحظة اللقاء الأولى، وأسلوبه الوصفي لهذه الشخصية سيمتد مع فصول المحكي الموالية. وما يسجل في هذا المحكي هو تركيزه على جانب الزعامة في قبيلة آيتوسى، وتحديده لمصطلحين في هذا الشأن، ونعني بذلك الزعامة الشرعية والزعامة الحقيقية. بالإضافة إلى تقديم معطيات جديرة بالتحليل والمناقشة، بخصوص الشرعية في الزعامة، ولعل ما يثير الجدل هنا هو الشنآن والخلاف الحاد الذي حصل على مرأى بيران، وفي حضوره بين القائد محمد ولد الخرشي و القائد ولد بيروك، هذا الأخير الذي إرتأى أن يتم التعامل مع زعامة أخرى متمثلة في ولد الرباني الإبن (قائد ادونكيت/اداومستر) بدعوى فتوة سنه وقدرته على التواصل، خلافا للقائد محمد ولد الخرشي الذي بلغ من العمر عتيه في نظره، ولم يعد قادرا على تحمل مسؤوليته كالسابق، وما يمكن الإشارة إليه هو أن بيران أثناء حضوره في هذا الموقف، عبر من خلال محكيه أنه كان مستعدا للتدخل لصالح محمد ولد الخرشي؛ في حالة إذا ما تطور الشجار إلى درجة أكثر حدة، وهي إشارة ضمنية إلى تأييده لمواقف القائد محمد ولد الخرشي. وإذا كانت هذه الكتابات الأربعة، قد مهدت لنا الطريق للوقوف على نقط التقاطع و الإختلاف، فإنه لا يمكن فهم أسباب هذا الإختلاف، دون معرفة مبرراته والسياقات التي يندرج فيها، ولعل أهم هذه المبررات والسياقات، ما يمكن أن نرجعه إلى السياقات التاريخية والمبررات الإيديولوجية، وفي هذا الصدد يجدر بنا أن ننطلق من الظروف التاريخية التي تمخضت عنها هذه الكتابات، وفق ما تتطلبه التوجهات الإيديولوجية لهذه الفترة. وبناءا عليه، يمكن أن نؤطر هذه الكتابات إنطلاقا من فترتين حاسمتين، كتابات ما قبل 1934 والتي تدخل في إطارها دراسة فريديريك دولاشابيل، وكتابات مابعد 1934 المتمثلة في دراسات كل من فانسون مونطاي ودوفورست، بالإضافة إلى محكي بيران. تعتبر سنة 1934 سنة مفصلية بين مرحلتين حاسمتين من تاريخ قبائل تكنة، حيث تمثل هذه السنة دخول المستعمر إلى منطقة تكنة؛ ومما لاشك فيه أن هذا التمايز بين المرحلتين يمكن الوقوف عليه من خلال طبيعة إشتغال هذه الدراسات وأهدافها. فإذا كانت دراسة فريديريك دولاشابيل قد ركزت على قبيلة آيتوسى في إطار شمولي ضمن إتحادية تكنة، فإن هذا الإختيار يجد مبرره في هاجس معرفة قبيلة آيتوسى وضبط دورها، وظيفتها، قوتها من حيث التأثير، نفوذها السياسي والمجالي، في إطار نسقي يتحدد في ظل إشتغال ما يسمى بإتحادية تكنة، وهذا من أجل التمهيد لمرحلة بسط النفوذ التي تمثلها سنة 1934. أما كتابات ما بعد 1934، فسيتم التركيز من خلالها على قبيلة آيتوسى فيما يرتبط بتنظيمها السياسي، الإجتماعي، حدودها المجالية، وقد يعزى هذا إلى أهمية ما تتضمنه من معطيات كفيلة بتفكيك آليات إشتغال قبيلة آيتوسى كبنية مستقلة (عكس دراسة فريديريك دولاشابيل التي تناولت قبيلة آيتوسى في إطار نسق عام) لإحكام السيطرة على كل الآليات التدبيرية لقبيلة آيتوسى وضبط تحركاتها السياسية (الزعامات والأعيان) والإجتماعية (الترحال والانتجاع...)، وتعتبر دراسة دوفورست نموذجا لهذه الكتابات، أما فانسون مونطاي الذي ركز على البعد الصراعي لقبائل تكنة من خلال دراسته التي رأت النور سنة 1948، فإن تاريخ إصدار هذه الدراسة ومضمونها، خصوصا في المرحلة الأخيرة من عمر الإستعمار (أقل من ثمان سنوات عن إستقلال المغرب)، يجعلنا نتساءل عن براءة هذه الدراسة وتداعياتها على المنطقة ما بعد هذه الفترة.