حين يولد الواحد منا يجد في بيئته الثقافية فُيوضَا من المقولات الشعبية والأعراف والتقاليد، كما يجد نظامًا رمزيًا كاملًا، وانتماء دينيا وعرفيا ولغويا، ويجد إلى جانب كل ذلك أسلوبا مميزا للعيش والتفاهم، وإدارة الأزمات، وخبرات وعلوما متناقلة.. وذلك كله منحدر من الماضي البعيد والقريب. وقد نشأت في هذه البيئة وكبرت وكبرت معي الأسئلة الوجودية ماهذا الكون؟ من أين جئنا ؟ وماهي النهاية؟ والى أين المصير؟ وكون الانسان بفطرته طلعة لا يقتنع من الحياة بمظاهر أشكالها وألوانها كما تنقلها إليه حواسه أو كما ينفعل بها شعوره، بل يتناولها بعقله، وينفذ إليها ببصيرته ليعرف حقيقة كل شيء.!!. وهو في إشباع رغبته تلك لا يدخر وسعا من ذكاء أو جهاد حتى يبلغ من ذلك ما يطمئن إليه عقله وتستريح به نفسه. وكذلك كان شان الإنسان في بحثه عن الله، الحقيقة الكبرى التي هي مصدر وجود هذا العالم واليها مصائر أموره.. فلقد أكثر من التطلع إليها والبحث عنها حتى تفرقت به السبل واختلفت فيها مذاهبه، إذ لا شك أن هذه النظرات المتطلعة إلى تلك الحقيقة الكبرى قد أخذت ولا تزال تأخذ صورا وأشكالا متعددة متباينة، تختلف باختلاف الناس واستعدادهم الفكري وما يحيط بهم من ظروف الحياة وأحوالها. فلكل وجهته التي هو موليها، ولكل مبلغه من العلم وحظه من التوفيق. وقد ألفت كتبا(1) ونشرت بحوثا في هذا الموضوع مثل: سلسلة عقيدتي من التقليد إلى التسليم(2) والملاحدة الجدد بين الجهل والضياع(3) حاولت من خلالها أن أجيب على هذه الأسئلة وكان علي أن أرجع إلى ما كتب عن هذا الموضوع وبعد تصفحي لمئات الصحف، والكتب، والمواقع الالكترونية المختصة وغير المختصة، فلم أجد متصلا بالموضوع إلا القليل رغم أن بعض ما قرأته كان لمفكرين كبار. والخطأ يكمن في أنهم يتناولون الدين على انه (مشكلة موضوعية) « Objective problème فهم يجمعون في سلة واحدة كل ما أطلق عليه اسم "دين" في أي مرحلة من التاريخ ثم يتأملون في ضوء هذا المحصول حقيقة الدين!!. إن موقفهم ينحرف من أول مرحلة(4)، فيبدوا لهم الدين جراء هذا الموقف الفاسد عملا اجتماعيا، لا كشفا لحقيقة، ومن المعلوم أن لكل ما يكشف عن حقيقة من الحقائق مثلا أعلى، ولا بد عند البحث عن هذه الحقائق أن ندرس مظاهرها وتاريخها في ضوء مثله الأعلى. أما الأمور التي تأتي بها أعمال اجتماعية فليس لها مثلا أعلى، وبقاؤها رهن بحاجة المجتمع إليها. والدين يختلف عن ذلك كل الاختلاف، فليس من الممكن البحث عن حقائقه، كما يبحث عن تطورات فنون العمارة والنسيج والحياكة والسيارات، لان الدين علم على حقيقة يقبلها المجتمع أو يرفضها أو يقبلها في شكل ناقص(5) ويبقى الدين في جميع هذه الأحوال حقيقة واحدة في ذاتها، وإنما يختلف في أشكاله المقبولة، ولهذا لا يمكن أن نفهم حقائق الدين بمجرد فهرسة مماثلة لجميع الأشكال الموجودة باسم (الدين). وهذا رد في نفس الوقت على أولئك الذين يستدلون بالتاريخ وعلم الاجتماع للطعن في الدين. ولعل ما ذهب إليه عالم الفسيولوجيا والكيمياء الحيوية الدكتور(لتراوسكارلندرج) وغيره يكشف جانبا من هذه الأخطاء العقدية حيث يقول: «أما المنشغلون بالعلوم الذين يرجون الله فلديهم متعة كبرى يحصلون عليها، كلما وصلوا إلى كشف جديد في ميدان من الميادين، إذ أن كل كشف جديد يدعم إيمانهم بالله، ويزيد من إدراكهم وإبصارهم لأيادي الله في هذا الكون» ويرجع (لتراوسكارلندرج) إعراض بعض العلماء علية المبادئ عن الإيمان بالله رغم وضوح الأدلة التي تقود إليها الأبحاث في كل مجالات العلم إلى أسباب لا صلة لها بالبحث العلمي وخص منها: 1 ما تتبعه بعض الجماعات أو المنظمات الإلحادية، أو الدولة من سياسة معينة ترمي إلى شيوع الإلحاد، ومحاربة الإيمان(6) بسبب تعارض عقيدة الإيمان بالله مع صالح هذه الجماعة ومبادئها. 2 المعتقدات الفاسدة التي تجعل الناس منذ الطفولة يعتقدون باله على صورة الإنسان بدلا من الاعتقاد بان الإنسان قد خلق خليفة الله على الأرض، وعندما تنمو العقول بعد ذلك وتتدرب على استخدام الطريقة العلمية فإن تلك الصورة التي تعلموها منذ الصغر لا يمكن أن تنسجم مع أسلوبهم في التفكير أو مع أي منطق معقول»(7).. يقول كانط الفيلسوف الألماني في هذا الصدد: « وعلى الرغم من أن كل ما نصادف من تجارب لا يمكن فهمه وتفسيره إلا إذا صغناه بعبارات الزمان والمكان والسببية فلن تكون فلسفة صحيحة إذا فاتنا أن هذه ليست أشياء واقعة ولكنها وسائل لتفسير التجارب وفهمها فقط». ويقول العالم البريطاني سير جيمس جينز في كتابه (عالم الأسرار): «إن في عقولنا الجديدة تعصبا يرجح التفسير المادي للحقائق»(8). ويرى عالم أمريكي آخر أن العقيدة الإلهية ليست ضد الحرية الفكرية وذلك يقوله «إن كون العقيدة الإلهية معقولة وكون إنكار الإله سفسطة لا يكفي ليختار الإنسان جانب العقيدة الإلهية، فالناس يظنون أن الإيمان بالله سوف يقضي على حريتهم، تلك الحرية العقلية التي استعبدت عقول العلماء، واستهوت قلوبهم، فأية فكرة عن تجديد هذه الحرية مثيرة للوحشة عندهم»(9). ويتفق العالم الأمريكي سيسيل مع كانت في هذا الاتجاه حيث يقول «إن الطبيعة لا تفسر شيئا (من الكون)، وإنما هي نفسها بحاجة إلى تفسير». ونختم هذه الفقرة بمحاورة ومناظرة بين العالم الفيزيائي اينشتين وصحفي أمريكي يدعى (فيرك) في هذا الموضوع قال فيه الرجل : إنني لست ملحدا !! ولا أدري : هل يصح القول بأني من أنصار وحدة الوجود(10). إن المسألة أوسع نطاقا من أن تحيط بها عقولنا المحدودة !! وعاد الصحفي إلى سؤاله بطريقة أخرى فقال: إن الرجل الذي يكشف أن الزمان والمكان منحنيان، ويحبس الطاقة في معادلة واحدة( 11) جدير به ألا يهوله الوقوف في وجه غير المحدود !! فيرد اينشتين : اسمح لي أن أضرب لك مثالا: إن العقل البشري مهما بلغ من عظم التدريب و سمو التفكير عاجز عن الإحاطة بالكون فكيف بخالقه ؟! نحن أشبه ما نكون بطفل دخل مكتبة كبيرة ارتفعت كتبها إلى السقف فغطت جدرانها، ثم هي مؤلفة بشتى اللغات. إن هذا الطفل يعلم أن شخصا ما كتب هذه الكتب، ولكنه لا يعرف بالضبط من هو، ولا كيف كانت كتابته لها، ثم هو لا يفهم اللغات التي كتبت بها!! وقد يلاحظ الطفل أن هناك طريقة معينة رتبت بها الكتب ونظاما غامضا يشمل صفوفها وأوضاعها، نظاما تحس كنهه ولا تدري كنهه. وإن ذلك القصور هو موقف العقل الإنساني مهما بلغ من العظمة والتثقيف !! وعاد الصحفي الأمريكي يسأل: أليس في وسع احد حتى أصحاب العقول العظيمة أن يحل هذا اللغز؟؟. فأجاب اينشتين مرة أخرى بقوله إننا «نرى كونا بديع الترتيب خاضعا لنواميس معينة، ونحن نفهم هذه النواميس فهما يشوبه الإبهام فنؤمن بالله، ولكن عقولنا المحدودة لا تدرك القوة الخفية التي تهيمن على مجاميع النجوم»(12). نلاحظ من هذا الحوار مدى تباين الخطابين خطاب بغوص في المادة وبغرق فيها فينسى ذاته وينسى سؤال الكينونة وخطاب يتأمل هذا الكون وخالقه رافضا الشبهات التي تختلق ضده، وكأن لسان حاله يقول: إن بعض الخلافات الظاهرة مردها اختلاف العبارات وليس المعتقدات. وهكذا حيثما اتجهنا وجدنا من الشواهد ما يكفي للدلالة على أن عدم تبديل المقاربة الأدائية المادية لنمط رؤيتها لماهية الإنسان إنما هو ناتج عن عدم انتباهها لمنطلقها الخاطئ المحكوم بالرؤية الكمية. وهذا ما جعلنا نتخذ طريقة أخرى جديدة في عالم الفكر أساسا لبحثنا وهي منهج الفطرة.(13) بعد جهود مضنية وتمحيص وتدقيق في ماكتب ويكتب الآن نجد أن أكثرية مفكري العالم لم يقرؤا القرآن وأن ترجمات القرآن المتوفرة قديما وحديثا بعيدة عن النص في لغته وفحواه... والعقل بعد أن يصل إلى الحكم بحقيقة وجود الله عن طريق الآثار التي خلقها الله سبحانه وتعالى يرى نفسه عاجزا عن فهم الحقائق المحيطة والمتصلة به، ويرى من الواجب أن يكون هناك اتصال واضح بينه وبين خالقه ليرشده ويهديه إلى الأمور التي يقف عاجزا أمامها ولا قدرة له على حلها. ولما كان العقل محدود (14) والمحدود لا يستطيع أن يتصل بغير المحدود شاء الله العظيم الخالق المدبر أن يتصل هو بنا. ثم أتت رسل تخبر أنها أرسلت من الله، ببراهين تفوق عقل الإنسان...يتواصل...