الجهات تبصِم "سيام 2025" .. منتجات مجالية تعكس تنوّع الفلاحة المغربية    تصفية حسابات للسيطرة على "موانئ المخدرات" بالناظور    من فرانكفورت إلى عكاشة .. نهاية مفاجئة لمحمد بودريقة    أخنوش يمثل جلالة الملك في جنازة البابا فرانسوا    دول الساحل تعلن دعمها الكامل للمغرب وتثمن مبادرة "الرباط – الأطلسي" الاستراتيجية    المفتش العام للقوات المسلحة الملكية يقوم بزيارة عمل إلى إثيوبيا    مجلس جهة طنجة يشارك في المعرض الدولي للفلاحة لتسليط الضوء على تحديات الماء والتنمية    جريمة مكتملة الأركان قرب واد مرتيل أبطالها منتخبون    مؤتمر "بيجيدي".. غياب شخصيات وازنة وسط حضور "طيف بنكيران"    جريمة قتل جديدة في ابن أحمد    طنجة تحتضن النسخة الحادية عشرة من الدوري الدولي "مولاي الحسن" بمشاركة أندية مغربية وإسبانية    الشيبي يسهم في تأهل بيراميدز    أخنوش يصل إلى روما لتمثيل جلالة الملك في مراسم جنازة البابا فرانسوا    هيئة: وقفات بعدد من المدن المغربية تضامنا مع غزة وتنديدا بالإبادة الجماعية    مرسوم حكومي جديد يُحوّل "منطقة التصدير الحرة طنجة تيك" إلى "منطقة التسريع الصناعي" ويوسّع نطاقها الجغرافي    وليد الركراكي: نهجنا التواصل وعرض مشاريعنا على اللاعبين مزدوجي الجنسية... نحترم قراراتهم    المفتش العام للقوات المسلحة الملكية يقوم بزيارة عمل إلى إثيوبيا    أخنوش يصل إلى روما لتمثيل جلالة الملك في مراسم جنازة البابا فرانسوا    بسبب التحكيم.. توتر جديد بين ريال مدريد ورابطة الليغا قبل نهائي كأس الملك    نشرة إنذارية: زخات رعدية مصحوبة بتساقط للبرد وبهبات رياح مرتقبة الجمعة بعدد من مناطق المملكة    الأخضر ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    قطار التعاون ينطلق بسرعة فائقة بين الرباط وباريس: ماكرون يحتفي بثمرة الشراكة مع المغرب    العالم والخبير في علم المناعة منصف السلاوي يقدم بالرباط سيرته الذاتية "الأفق المفتوح.. مسار حياة"    عناصر بجبهة البوليساريو يسلمون أنفسهم طواعية للجيش المغربي    تقرير يكشف عن نقص في دعم متضرري زلزال الحوز: 16% لم يحصلوا على المساعدة    بودريقة يمثل أمام قاضي التحقيق .. وهذه لائحة التهم    إسكوبار الصحراء.. الناصري يلتمس من المحكمة مواجهته بالفنانة لطيفة رأفت    متدخلون: الفن والإبداع آخر حصن أمام انهيار الإنسانية في زمن الذكاء الاصطناعي والحروب    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    افتتاح مركز لتدريب القوات الخاصة بجماعة القصر الصغير بتعاون مغربي أمريكي    إحصاء الخدمة العسكرية ينطلق وأبناء الجالية مدعوون للتسجيل    مذكرة السبت والأحد 26/27 أبريل    ضابط شرطة يطلق رصاصا تحذيريا لإيقاف مروج مخدرات حرض كلابا شرسة ضد عناصر الأمن بجرادة    مهرجان "كوميديا بلانكا" يعود في نسخته الثانية بالدار البيضاء    "أمنستي" تدين تصاعد القمع بالجزائر    أرباح اتصالات المغرب تتراجع 5.9% خلال الربع الأول من 2025    أبرزها "كلاسيكو" بين الجيش والوداد.. العصبة تكشف عن برنامج الجولة 28    طنجة.. ندوة تنزيل تصاميم التهيئة تدعو لتقوية دور الجماعات وتقدم 15 توصية لتجاوز التعثرات    على حمار أعْرَج يزُفّون ثقافتنا في هودج !    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يناقش "الحق في المدينة" وتحولات العمران    الإعلان عن صفقة ب 11.3 مليار لتأهيل مطار الناظور- العروي    السايح مدرب منتخب "الفوتسال" للسيدات: "هدفنا هو التتويج بلقب "الكان" وأكدنا بأننا جاهزين لجميع السيناريوهات"    توقعات أحوال الطقس اليوم الجمعة    الملك يقيم مأدبة عشاء على شرف المدعوين والمشاركين في الدورة ال 17 للملتقى الدولي للفلاحة بالمغرب    كاتبة الدولة الدريوش تؤكد من أبيدجان إلتزام المملكة المغربية الراسخ بدعم التعاون الإفريقي في مجال الصيد البحري    رفضا للإبادة في غزة.. إسبانيا تلغي صفقة تسلح مع شركة إسرائيلية    المديرة العامة لصندوق النقد الدولي: المغرب نموذج للثقة الدولية والاستقرار الاقتصادي    "الإيسيسكو" تقدم الدبلوماسية الحضارية كمفهوم جديد في معرض الكتاب    أكاديمية المملكة المغربية تسلّم شارات أربعة أعضاء جدد دوليّين    الرباط …توقيع ديوان مدن الأحلام للشاعر بوشعيب خلدون بالمعرض الدولي النشر والكتاب    كردية أشجع من دول عربية 3من3    دراسة: النوم المبكر يعزز القدرات العقلية والإدراكية للمراهقين    إصابة الحوامل بفقر الدم قد ترفع خطر إصابة الأجنة بأمراض القلب    الحل في الفاكهة الصفراء.. دراسة توصي بالموز لمواجهة ارتفاع الضغط    المغرب يعزز منظومته الصحية للحفاظ على معدلات تغطية تلقيحية عالية    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    المجلس العلمي للناظور يواصل دورات تأطير حجاج الإقليم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حَتَّى لا يَأْكُلنا الظَّلام
نشر في الأحداث المغربية يوم 05 - 03 - 2012

” أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ولَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً
ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً “[الفرقان45]
” وأنّ النَّهارَ وَ أَنَّ الظَّلامَ عَلى كُلِّ ذِي غَفْلَةٍ يَدْجُوَانِ “
(أبو المعلاء المعرٍي)
أُفَكِّرُ، فأنا إذن، مَوْجودٌ. هذا ما يُسَوِّغُ وُجُودي كإنسانٍ له عقل، وله فِكْرٌ ورَاْيٌ وخيالٌ. وُجُودِي، هو رأيي، هو حُرِّيَتِي في الابْتِدَاع وفي الابتكار، وفي النَّظر والتَّأَمُّل والبحث. لستُ تابعاً، أو تقودُني عَرَبَةٌ عَمْياء، يقودها ماضٍ أعمى، نحو وُجُودٍ أعمى. الشمس هي ما تقودُني، هي ” دَلِيلِي “، ما يعني أنَّني أنظر إلى الأمام، وأرى الأشياء بما يكفي من الوُضُوح. الوراء، في عقيدتي، وفي هذه الشمس التي تقودُني، هو لحظةٌ انتهتْ، وما تعلَّمْتُه منها، قابلٌ للمراجعة والنقد والمُساءلة والاسْتِقْصَاء. لاشيءَ في فكري ثابتٌ، كل شيء عندي في مَهَبِّ الرِّيح، وقابلٌ للمُراجعة والنَّظَر، مهما تكن النتيجة. لا يقينَ ولا مُطْلَق، إلاَّ يقينَ العقل، وما نذهبُ إليه من خيالات وأحلام، باعتبارها، هي ما يُفْضِي للابتكار والإبداع، لأنَّها هي ما يُذْكِي العَقْلَ ويُؤَجِّجُه.
” لا إِمَامَ سِوَى العَقْل “. هذا ما كان ذهب إليه أبو العلاء المعرِّي، صديقي؛ هذا الشَّاعر الأعمى الذي كان مُتَشَبِّعاً بالضَّوْءِ، لم تأكُلْه الظُّلْمَةُ، رغم أنه كان يُقيمُ في السَّوادِ، فهو أدرك أن الدِّين، حين يقودُه الظَّلام، أو يبقى خارجَ العقل، يصير أعمى؛ يَحْكُمُ على العقل بالجهل، ويصير كلُّ شيءٍ في رؤية من يقرؤونه، بهذا المعنى، تأويلاً أعمى، جاهِلاً، لا يُفْضِي إلاَّ إلى القتل والإبادة والحَجْبِ، والإقصاء والتكفير.
ليس الوُجودُ تقليداً أو تَبَعِيَةً، فهو وُجود بالفكر، ووُجُودٌ بالخلق وإعمالِ العقل، أو بالحياة. لا احْتِذَاءَ ولا اتِّباع. أو بتعبيرٍ آخر للمعرِّي؛ ” فشَاوِر العَقْلَ...فالعقلُ خَيْرُ مُشِيرٍ”.
الذين يذهبون إلى الماضي، باعتباره البديل، أو الحُجَّةَ على فَشَل الحاضر، هؤلاء لا أمام لهم، ولا “إمَامَ”. فَمَن لا أمامَ له، لا وراء له. هكذا فَهِمْتُ الوُجُودَ، وهكذا كتبتُ، وهكذا سَأَحْرِصُ على أن أكون حُرّاً في فكري، وفي رؤيتي للطبيعة وللأشياء. لستُ موجوداً بالتَّبَعِيَةِ، فأنا موجودٌ بما أصِلُ إليه من أفكار، وما يبدو لي أنه ” الحقيقةَ “، والحرية، في الاعتقاد، وفي التفكير، كما ذهب إليها فُقَهاء التنوير، حين قَدَّمُوا العقلَ على النَّقْل والاتِّباع، أي على ما ليست حُجَّتُه كافية، في دَرْءِ الخِلاف.
حين نُفَكِّر بحرِّيَة، فنحن نُتِيح للآخَر، كائناً من يكون، أن يُقَاسِمنا هذه الحُرِّيَةَ، أن نستمع له بصبرٍ وبانتباهٍ، وأن نُنْصِت لِمَا يقوله، أو يكتُبُه، دون مُصادَرَةٍ أو إقصاء. فالعاجز هو مَنْ لا يَتَّسِع صدرُه للاختلاف، و هو من يعتقد أنّ الوُجُودَ هو صورةٌ واحدة تتكرَّر في نفس الفكرة، وفي نفس المُعْتَقَد، أو الأيديولوجيا، وما على الآخرين إلاَّ أن يُعيدوا إنتاج نفس الكلام، بنفس التفسير، وبنفس التأويل، وفق ” حقيقةٍ ” مُغْلَقَةٍ نهائيةٍ، لا شُقُوقَ فيها، ولا تَصَدُّعَاتٍ.
لم يكن الدِّين، آلةً، لِذَا فهو لم يكن ضدَّ العقل، كما لم يكن العقل نافياً للدّين، أو حُجَّة على ادِّعائه، وتهافُتِه. فبقدر ما حَرِصَ الدِّين على الإقناع بالحُجَّة، غيباً كانت أو عقلاً، فالعقل، حين نظر في الدٍّين، فتح أفقاً للسُّؤال، واستعمل الاستدلال كأداة لليقين، أو لِما قد يليه من احْتِمالات، بما فيها الشَّكِّ، كلما بدا له أنَّ ثمة شيئاً لا يزال، مُلْتَبِساً ضَبَابِياً، أو هو في حاجة للاسْتِقْصاء والمُساءلة. وبتعبير ابن رُشد، ف ” دين الفيلسوف الخاص ” يقوم على ” دراسة ما هو كائن، وذلك لأنَّ أرفع عبادة يمكن أن يُعْبَدَ اللَّه بها تقوم على معرفة ما صَنَع لِما يُؤدِّي هذا من معرفتنا إياه على حقيقته كُلِّها “.
ليس العقلُ في ضوء هذا، تابعاً، فهو ” إمامٌ “، بتعبير المعرِّي، دائماً؛ قائدٌ وحُجَّةٌ، وهو ما أقرَّتْه النظريات العلمية، ونظريات المعرفة المختلفة، في مختلف الثقافات الإنسانية التي لم تُقِمْ في اليقين، فبدأت بالشَّك و بالافْتِراض، للوصول إلى ” الحقيقة “، أو لِما يمكن أن يكون طريقاً ل ” حقيقةٍ ” ما.
لم يكن الدٍّين خارجَ “الحقيقة”، بل إنه كان أحد طُرُق تَدَبُّرِها، وحَفَّز عليها، وحَثَّ على كل ما يذهبُ بالفكر إليها، من خلال النظر العقلي، الذي هو مضمار وُجود الإنسان، واختلافه عن باقي الخلائق.
لا يمكن لإنسانٍ أن يكون دون فكرٍ، ولا دون خيالٍ، ما يعني أنَّه، إذا وُجِدَ بهذه الصِّفَة، سيكون إنساناً ناقِصَ وُجُودٍ، لأنه بدون عقل، وبدون نظر، ولا اختيار له.
أليس في إنسانٍ من هذا القبيل، ما يجعل منه خطراً على نفسه، وعلى الآخرين، وحتى على الدِّين نفسه، حين يستعمله بنوع من الاستعادة والتكرار، أي دون رأي أو تَدبُّر، أو بتأويل جاهلٍ وأعمى ؟
أليس الوُجود هو الإنسان العاقِلُ المُفَكِّرُ الذي جاء الدِّين نفسه ليضعه في مقابل الجاهل، أو من لا يعلم، سَيْراً على ما جاء في الآية؛ و ” هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ” ؟
أليس الإنسانُ هو معيارُ كلّ القِيَم، أو قيمة القِيَم ؟
لسنا مثل البقر، نتشابَه في كل شيء، أو كما تُريدُنا السَّلَفِياتُ التقليدية المُحافِظَة، التي لم يَتَأَصَّل عندها الفكر ك ” إمام ” وقائد، وحُجَّة، ومنطق واستدلالٍ، وطريق إلى المعرفة والعلم، أن نكون صوتاً واحداً، أو صَدًى، نقولُ نفس الشيء بنوعٍ من التكرار، ومن التَّبَعِيَة والإجماع، علماً أنَّ “الإجماع”، كما تُشير خالدة سعيد، في “يوتوبيا المدينة المثقفة”، هو موقف سياسي محض، وليس دينياً. فالدين الإسلامي قبل المذاهب والفتاوى، كالمسيحي قبل المجامع المسكونية، يتوجَّه إلى وجدان فردي لا إلى مؤسسة، والانتماء إلى الدِّين [أو الإيمان به] يُبنى على “شهادة” فردية في الإسلام، وعمادة فردية في المسيحية.
حين كان كيركيغارد يُرَدِّد أن سقراط “هو الذي كان موجوداً”، كان يذهب إلى طريقة سقراط في معرفة نفسه، وفي معرفة وُجوده، لأنه اختار “الحوار”، كوسيلة للمعرفة، وإحراج مُحاوِرِيه الذين لم يَعْتادُوا على التفكير بهذه الطريقة التي ابْتَدَعَها سقراط.
يروي “ديوجين لايرس” أنَّ “ايكزينوفون” كان يعبُر درباً ضيِّقَةً في مدينة “أثينا” عندما سَدَّ عليه “سقراط” الطريق سائلاً:
من أين نشتري الأشياء الضرورية للحياة ؟
وبعد أن أجاب “اكزينوفون” تَعَقَّبَه “سقراط” قائلاً:
أين نتعلَّم أن نكون رجالاً شرفاء ؟
ولَمَّا كان “اكزينوفون” لا يعرف إلاَّ أن يُجيب، أضاف سقراط:
تعال معي أُعَلِّمُك كل ذلك.
أن يُمْسِكَ سقراط اكزينوفون من يَدِهِ، ويقودُه، معناه، أن يَسْلُك به الطَّريق الآخر الذي لم يكن اكزينوفون فَكَّر فيه. أن يكون أمام الواقع، أو أمام “الحقيقة”، وجهاً لوجه، أن يخرج من شَرْنَقَة الجواب، ومما تَعَوَّدَ على فعله، إلى ما لم يَتَعَلَّمْه بعد.
لماذا لم يُباغِت اكزينوفون، هو الآخر، سقراط بالسُّؤال ؟
فنحن حين نكتفي بالجواب، نكون في وَضْعِ مَنْ يُبَرِّر، أو يُدافِع عن نفسه، لا في وضع من يُهاجِم، أو يُقْلِق ويُرْبِك ويُزْعِج، أو يَفْتَرِض، ويضع كل شيء في مَهَبِّ الاحتمال.
هذا، في اعتقادي، ما كان سقراط يريد اكزينوفون أن يتعلَّمَه، حتى لا يبقى أسيرَ معرفةٍ، هي ملكُ يَدِ العامَّة، وهي معرفة المُطْمَئِنّ المُؤمن، وليست معرفة القَلِق، الشَّاكِّ والمُرْتَاب، الذي يَلْتَمِسُ الحقيقةَ.
هذا هو جوهر الفرق بين الذين يأتون اليوم من الماضي، لِيَتَصَدَّوْا للحاضر، وبين الذين اختاروا الحاضر كطريق للمستقبل. فرقٌ في المعرفةِ؛ معرفة ” الذين لا يعلمون “، في مقابل معرفة ” الذين يعلمون “، أعني المعرفةَ بالنُّور، في مقابل المعرفة بالظلام.
المعرفة الحديثة، التي هي اليوم ما يُضْفِي على الوجود البشري كل هذا ” التقدُّم ” الذي يسير فيه، وهذه الابتكارات، العلمية والتقنية، التي فتحت الوُجود على مَجَاهِلِهِ، العقلُ، باعتباره، طُموحاً، أي حُلُماً وخيالاً، هو ما أفضى إليها.
هؤلاء الذين أتَوْا اليوم، ليضعوا الأَمامَ وراءً، أو ليعودوا بنا إلى وراء الوراء، وإلى ما قبل الوُجود، بمعناه الابتداعيِّ الخَلاَّق، هُم ضدَّ العقل، بقدر ما هُم ضدَّ الدِّين نفسه. أعداءٌ للعقل وللِدِّين، كما هُم أعداء للخيال والحق في الابتكار والتَّمَيُّز والتَّفَرُّد. هؤلاء، هم نفسهم، من كانوا حاكموا ابن رُشد على أفكاره، وجُرْأَتِه، وحاكموا قبله سقراط، والحلاَّج كما حاكموا الفكرَ المُنْفَتِحَ على الشمس، وعلى الحقيقة التي طالما عَتَّمُوا عليها، وأظْلَمُوها، أو كلما بَدتْ لهم، ساطِعَةً، أَعْشَت أبصارَهُم، مثلما يحدث لمن يكون خارجاً من كهف مُعْتِمٍ، فلا يقوَى على مواجهة الشمس، التي تبقى هي الحقيقة الواحدة، في مواجهة الظلام. أو مثل الظَّمْآن الذي كُلَّما رأى سراباً ظَنَّهُ ماءً.
ليس الفن كُفْراً، ولا الفِكْرُ، أيضاً. الشِّعر والغناء والرقص، والتمثيل والسينما، ومُخْتَلِف التعبيرات الجمالية، بالجسد أو باللغة واللَّوْن، والصورة، ليست، هي الأخرى، غواياتٍ، أو تحريضاً على ” الرَّذِيلَة “، وفعلاً من فعل الشيطان، أو” تحالُفاً مع الشيطان “ !. المرأةُ ليست عَوْرَةً ولا خطيئةً، كما أنَّ الحِجَاب ليس سَتْراً، أو تعبيراً عن إيمانٍ أو اعتقادٍ. هذه كُلُّها أفكار لم تكن حتى في الماضي تصمُد في فكر العلماء الذين كانوا ينظرون للحياة بانشراح، وكان الدِّين عندهم لا شَكَّ فيه، ولا ارْتِيابَ، وأدْرَكُوا قبل غيرهم، أنَّ الوَحْيَ كَشْفٌ، أي قَوْلٌ بما هو موجود، والعقْل اكْتِشاف، أي رغبةٌ في المعرفة، وسَعْيٌ ذَائِبٌ إليها.
هؤلاء هم من فتحوا الدِّينَ على العقل، أو جعلوا من العقل إماماً في فَهْم الدِّين، باعتباره نَظَراً، ورؤيةً للوُجود، يغلب فيها الإيمان على غيره.
لم يكن الدٍّين ضِدَّ الجمال، فمن يعترض على الجمال، يعترض على العقل، وعلى الحُرِّيَة، وعلى الحق في الخَلْق والخيال، كما يعترض على وُجُود الإنسان، وعلى إرادته ومسؤوليته، وقدرته على أن يكون بذاته.
جاءت الدِّيانات جَميعُها، لِحَفْز الإنسان على التأمُّل في الوُجود، ليس باعتباره جَحِيماً، بل باعتباره ابْتِدَاعاً، و “بَهْجَةً للناظرين”، أو كما جاء في الآية “ولَكُم فيها جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ”.
الذين يَعْمَلُون على حَجْبِ الحقيقة، أو على حَجْب الجمال، إنما يَسْعَوْنَ لِحَجْب الله، أو الكلام نيابَةً عنه، وفي هذا بالذَّات ما يجعلهم جاهلين بحقيقة الله، وبحقيقة العقل، وبما يذهب إليه من معرفة وعِلم.
لا أتَصَوَّرُ أنَّ الله خَلَق الإنسانَ ليكون آلةً، أو يكون كالأعمى لا يقودُهُ إلاَّ الظلام. لا يمكن أن يحيا الإنسان دون شمسٍ، أعني دون وُضوح في الرؤية، وأيضاً دون وُضوح في الفكر وفي المُعْتَقَد. وُجود الإنسان مشروط باجتهاده، بإرادته، وباختياره، وبِحَقِّه في الاعتقاد، و بما يَبْتَدِعُه من أفكار، أي باعتباره قيمةً مُضافَةً، وحقيقةً بشريةً، هي من خَلْق الإنسان ومن ابتكاره، أي باعتبار الإنسان مركزاً لا هامشاً.
لم يكن سقراط، وهو من حُوكِمَ بِطَعْنِهِ في الآلهة، أو بالدَّعْوَة لآلهة جديدة، وإفساد عقول الشباب، رغم نَفْيِهِ لهذه التُّهَم، في دفاعه عن نفسه، سوى صورةٍ لِعَقْلٍ أعاد للإنسان مكانته، في معرفةِ نفسِه بنفسِه. وهو ما كان سقراط نفسه، قرأه مكتوباً على أحد جدران معبد “دِلْفِي”، ورأى فيه “نداءً”، يأتيه من الآلهة.
أليس في هذا ما يُشير إلى أنَّ الدِّين نفسَه، كان هو المُحَرِّضَ على إيقاظ فكر الإنسان، ودعوة هذا الكائن العاقل، إلى أن يخرج من سُباتِه، وينهض من نسيانَه، ليتساءلَ، ويتأمَّل؟
أليس الإنسان هو، في جوهره، فكرٌ يَقِظُ، قَلِقٌ، وفي يقظته وقلقه يُضِيف إلى الوجود ما ليس فيه، أي باعتباره خالقاً، مُضِيفاً، وصاحب رأيٍ ونَظَر ؟
ثُم، أليس بهذا المعنى يمكن فهم قول المعري، وهو مَنْ كان أكثر فَهْماً لمثل هذا النوع من الفكر الإقْصائِيِ الأعمى، الذي كان انتشر في زمنه، مثلما هو اليوم ينتشر في زمننا؛
إذَا قُلْتُ المُحالَ رَفَعْتُ صَوْتِي وَإِنْ قُلْتُ اليَقِينَ أَطَلْتُ هَمْسِي
أدْرَك أبو العلاء المعري، بحدسه الشِّعري، من جهة، وبوعيه الفلسفي العميق، من جهة أخرى، أنَّ المعرفة لا تتأسَّسُ إلا على المُحال، أو على قول المُحال، بتعبيره، لا باليقين، الذي لا يُفْضِي إلاَّ إلى التَّشابُه، الذي هو أحد أُسُس ” الثقافة الدينية المؤسساتية ” التي تَتَحَكَّمُ الدّوْلة في تأويلاتها، وتعمل من خلالها على تَكْرِيس فِكْر التقليد والتَبَعِيَة والطَّاعَةِ، والبقاء في سياق ” الجماعة “، التي لا مكانَ فيها للفردِ، أو للصَّوْتِ المُنْفَرِد، أو الثقافة الدينية السلفية، التي لا تقبل بالاختلاف، وتَعْتَبِر كل صَوْتٍ، غير صوتِها، مارِقاً وخارجاً عن حدود السنة والجماعة، ما يُسوِّغُ كُفْرَهُ، أو قَتْلَهُ بالأحرى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.