هذه العبارة لسقراط، وهي إحدى العبارات الأكثر تأثيرا في الفكر اليوناني. ففي الوقت الذي كان فيه الناس يعيشون خارج ذواتهم، أو يفكرون في أمور لا تعني وجودهم، أو تقع خارج هذا الوجود، كان سقراط مشغولا بنفسه، أي بضرورة أن يحيا الإنسان بنفسه، قبل أن يحيا ويعيش بغيره. أن تنقش هذه العبارة في معبد الإلهة دلفي يعني أن سقراط صار أحد آلهة الفكر اليوناني، ليس بالمعنى الديني الغيبي، أو الميتافيزيقي، بل بالمعنى الدنيوي الفيزيقي. فسقراط، عاش في وقته محنا كثيرة، تعرض للنقد والمصادرة والسخرية، كما اتهم بالجهل وبعدم المعرفة، وكان أرسطوفان، أحد أقوى منتقديه، إلى جانب أميزياس الذي عرف بعدائه للفكر السقراطي. وقد كان أرسطوفان جرم سقراط، حتى قبل أن تقدم أثينا على تجريمه ومحاكمته، في بعض مسرحياته التي كرسها لنقد سقراط والسخرية منه. سقراط، لم يكتب. ليس له كتاب، فهو كان محاورا، أي أنه كان يفضل «الخطاب الحي الناطق»، كما يذهب إلى ذلك أفلاطون في «فيدر»، ولم يكن يعتبر الكتابة شرعية، كان يخرج إلى ساحة السوق التجاري «الآغورا»، أي في مجال عام، ويحاور الناس، خصوصا الشبان منهم. ما نعرفه عن سقراط نقله عنه أفلاطون، وهو أحد تلامذته الذي صار ناطقا باسمه أو كاتبه بالأحرى. أهمية العبارة تأتي من كونها قلبت رؤية الإنسان لنفسه، وغيرت مسار الفكر اليوناني، ونقلت المعرفة من سياقها الغيبي الأسطوري الذي كان مستحكما فيها إلى سياقها الفكري العقلاني القائم على المحاورة وعلى اعتماد العقل والمنطق في اختبار النفس وفي معرفة الإنسان لنفسه، أي أن يبدأ الفكر أو التفكير من الإنسان نفسه، وهو ما يعبر عنه سقراط في «فيدر» بقوله: «وليست الحقول ولا الأشجار بقادرة على تعليمي». في نظر سقراط، لا يمكن أن تكون لنا معرفة بغيرنا إذا لم نكن على معرفة بأنفسنا، لأن ما تسكت عنه العبار، هو ما تؤكده. ويمكن إعادة كتابة عبارة سقراط بالشكل الآتي: «اِعرف نفسك (قبل أن تعرف غيرك)». ليس غريبا أن يتجه الغرب، كوريث للفكر اليوناني، إلى إعادة اكتشاف نفسه من خلال جمع وتدوين تراثه الفكري القديم، وهو هنا ما تركه سقراط وغيره من الفلاسفة والمفكرين والمؤرخين والشعراء. فهذا الجرد الذي قام به الغرب لتراثه كان مقدمة لمعرفة نفسه، أي معرفة «البدايات» بالمعنى الذي يعطيه نيتشه لما نسميه نحن، التباسا، ب«الأصول». ما تلا عملية الجمع والتدوين، أو الجرد، هو فحص هذه الأعمال وقراءتها بوعي نقدي، وليس باعتبارها فكرا نهائيا أو تراث سلف مقدسا، لا تكون بداية التفكير إلا منه، باعتباره الأصل وما يليه نسخة. كما أن تاريخ الفكر عند الغربيين لم يبدأ بالمسيحية أو بتجاهل ما قبلها أو بقراءة هذا الماقبل باعتباره «جاهلية»، أي بانتقاء ما يمكن أن يبقى وما يمكن أن يزول أو يتم إخفاؤه، أي باعتبار الدين هو معيار المعرفة، وهو الغربال الذي به نزيل كل ما هو سابق على الدين، أو إخضاع هذا الماقبل، في رؤيته وطبيعته المعرفية والتاريخية، لسياق تال ومغاير، بمعنى أن يجبّ المابعدُ ما قبلَه ويلغيَه، فتاريخ الفكر الغربي بدأ من هذا الماقبل، وأعاد قراءته وتفكيكه ونقده، كما أعاد قراءة المسيحية نفسها في ضوء العقل، أي في ضوء عبارة سقراط «اِعرف نفسك». فالإنسان، بالنسبة إلى سقراط، وهو ما ورثه عنه الفكر الغربي، هو معيار الأشياء جميعها. ومعرفة الإنسان لنفسه تعني، في بعض خواصها العقلية، ألا يكون الإنسان آلة لغيره، فالإنسان موجود بذاته، بفكره، بعقله، بقدرته على النقد واتخاذ القرار. في هذا، طبعا، ما يشير إلى قولة الفارابي، الذي تعرف على الفكر اليوناني، وعلى سقراط أيضا، ومفادها أن كل موجود بغيره فهو موجود بآلة. هذه الآلية، في التفكير، وفي المعرفة، هي ما يستحكم في فكرنا العربي وفي ثقافتنا العربية. المدرسة، في مناهجها وفي برامجها، تابعة لمفهوم التنشئة الاجتماعية الذي ينطوي على إيديولوجية الدولة وعلى فكرها الذي هو دائما فكر الطبقة السائدة التي تصوغ «دولتها حسب إرادتها وتستخدمها وفق مصالحها»، مما يعني، كما يقول نيكولاس بولانتزاس، في «نظرية الدولة» أن «كل دولة هي دكتاتورية طبقة». فما تمرره هذه الإيديولوجيا هو الفكر الواحد، المتشابه، فكر القبول والانصياع، وتعتبر الفكر المخالف، أو المختلف، دائما، فكر مؤامرة وعداء، بمعنى أن معرفة النفس غير متاحة في مثل هذا النوع من «الديكتاتورية» التعليمية. حذف شعبة الفلسفة في المغرب، إبان مرحلة الصراع الفكري والإيديولوجي، بين الدولة واليسار، واستبدالها بشعب الدراسات الإسلامية، كان أحد أشكال التعبير عن هذه «الديكتاتورية» التعليمية والفكرية التي لم تكن فيها الدولة، أو الطبقة التي تصوغ الدولة حسب إرادتها، تقبل بالإنسان كمعيار لكل شيء. الدولة هي المعيار، بما تمثله من قوانين وتعابير وبما تسعى إلى تكريسه من قيم ثقافية وفكرية. في مصر وفي تونس، وكما حدث في العراق من قبل، وهو ما يحدث في ليبيا، رغم أن الأمر لم يحسم بعد، أول ما تعمل الثورات على حذفه هو برامج التعليم التي كانت قائمة، قبل الثورة، كون هذه البرامج هي أحد تعبيرات النظام القديم، وهي أحد أسس بناء أفكاره، وتنشئة الأجيال عليها. ثمة تاريخ للبلاد، يعرفه الجميع، لكن ما لا يستطيع أحد أن يفهمه، وخصوصا من النخبة المثقفة، هو هذا الانقلاب الذي يحدث في التاريخ المعاصر الذي يتلون بلون النظم الحاكمة وبشكل حاكميتها، لا بتاريخ الشعوب. لا مكان للشعوب في تاريخ الحكام أو الملوك. ألم يكن ابن جرير الطبري أكثر ذكاء من مؤرخي السلاطين حين سمى كتابه في التاريخ «تاريخ الأمم والملوك»، واضعا الأمم قبل الملوك؟ إن ما نتعلمه، في مدارسنا، ليس أن نكتفي بالتفكير وفق ما نجمعه من حقائق ومعطيات، ووفق ما هو أمامنا من معطيات، علينا أن نتأملها ونسألها أو نستنطقها، لنصل من خلالها إلى ما يمكن أن يكون الحقيقة، أو بعض الحقيقة، في نسبيتها، طبعا. ما نتعلمه هو اليقين والحقيقة المطلقة، ونكتفي باعتبار الحاكم هو القيمة المطلقة لكل شيء، والشعب، أعني الإنسان، هو موجود بالحاكم، وليس العكس. أستعيد هنا قولة جمال الدين الأفغاني، المعروفة: لا يمكن لحاكم أن يوجد دون شعب. فحين صرح وزير مغربي بأن المغاربة صوتوا على الملك، وليس على الدستور، كان على صواب، وهذا بالفعل هو ما حدث، لأن غالبية الناس لم يطلعوا على الدستور، أو لم يفهموا مقتضياته وما تحمله من تبعات، فهم اكتفوا برد الفعل، أي باعتبار الرافضين ضد الملك، دون أن يدركوا أن الرفض هو تعبير عن فهم وفكر، لم يطمئن إلى ما وقع من تعديلات، فقال لا، أو امتنع، لأنه يريد تغيير جوهر الأشياء، لا قشورها. إن ما يفرضه علينا الأمر الواقع هو أن نخرج من فكر الآلة وأن ننتقل إلى معرفة ذواتنا، وهذا أهم بكثير من كل ما حدث من تعديلات في الدستور، فتغيير الأفكار وإعادة الإنسان إلى نفسه وتغيير المقررات والمناهج الدراسية وإيديولوجية الإعلام الرسمي، بكل قنواته، وخطابات الدولة ذاتها، والأحزاب، هو ما يمكنه أن يخرج بنا من أشكال التواطؤ التي سعت الأحزاب كما سعت الدولة إلى تكريسها بتوظيف الدين، بمعناه الطرقي، لمواجهة التغيير، علما بأن السحر دائما ما ينقلب على الساحر. أليس هذا ما جرى حين عادت الدولة لفك الحصار عن مادة الفلسفة، في المدارس المغربية، بعد تفجيرات الدارالبيضاء، أي بعد أن اكتشفت أن توظيف الدين في مواجهة الفكر النقدي، التنويري، كان خطأ استراتيجيا، وهو ما تكرر في أكثر من دولة عربية، وبنفس الحجة، تقريبا. استبعاد الإنسان، كنفس وكفكر، وتحرير أفكاره من المسلمات، أو «الإيمان الأعمى، هو ما يجعل منه هشا وغير صالح لا لنفسه ولا للمجتمع الذي يعيش فيه، فالحقيقة لا تكون قوية إلا حين تتعزز بالفكر النقدي وبالاختلاف، أي بالإنسان المفكر والحر في رأيه وفكره، أو كما يرى تيوكاريس كيسيدس، ف«إن حقيقة مبنية على الإيمان الأعمى (الاعتقاد دون نظر، ودون تفكير) هي حقيقة هشة، ولكونها لا تخضع لغربال النقد فحجتها (تكون) واهية». الانتقال الذي يعيشه فكر الإنسان اليوم يقتضي تأهيل المجتمع، وأعني هنا الشعب، ليكون قادرا على الرؤية والتمييز، لا أن يكون خاضعا، صامتا، مستجيبا، وهو ما حرصت الأنظمة الشمولية على اعتباره إحدى سمات نظمها، لكن، دون جدوى. فإذا كانت النازية اليوم، أو الفاشية، تقتات من فتات هذا الفكر العقائدي الواحد، أو ما تبقى منه في بعض الدول الغربية، فإن غالبية هذه المجتمعات فهمت معنى أن يكون الإنسان هو نفسه، وأن يستحث عقله وفكره، بدل أن يكون آلة أو فكرا دون إرادة. هذا ما نراه في ليبيا وفي سوريا بشكل خاص، فحتى حين تلغي الدولة التعددية الحزبية، ويصبح الحزب الواحد هو الجيش والنظام، فالشعب كان، من خلال ما يجري على الأرض، يعيد صياغة مفهومه للدولة وللحرية، فشعار «سورية (ليبيا) حرية وبس» هو تعبير عن هذا الوعي الذي اعتقد النظامان الليبي والسوري أنهما طمساه، بهيمنتهما على التعليم والإعلام وبتجنيد بعض فئات الشعب لتكون في مواجهة فئة أخرى ممن لم ينصاعوا لسلطة النظام! لا بد، هنا، من أن نتساءل عن وضع بعض المثقفين الذين يكونون أداة في يد الدولة، هل هم غير واعين بما تمثله عبارة سقراط، علما بأنهم أصحاب ثقافة وفكر، وقد يكونون ممن لهم تأثير في الناس، ثم هل هؤلاء غير معنيين بهذا الأمر أم إن مثل هؤلاء كانوا دائما موجودين ولعبوا، عبر التاريخ، مثل هذا الدور السلبي، المنتصر للنظام، على حساب الشعب؟ لحسم هذه المسألة، من وجهة نظرنا، يمكن أن نشير إلى ما قاله نيكولاس بولانتزاس، في حديثه عن المسافة الفاصلة بين النظرية والواقع في ما يتعلق بنظرية الدولة: «ليس ستالين غلطة ماركس، لم يكن بونابرت غلطة روسو، وفرنكو غلطة يسوع، وهتلر غلطة نيتشه، وموسوليني غلطة سبوريل»، بمعنى أن سوء استعمال أفكار الآخرين أو نقلها من سياق الفكر النظري المجرد إلى أرض الواقع، في هذه المسافة الفاصلة بالذات، يحدث انحراف الفكر ويصبح المثقف عرضة لإيديولوجية الدولة ولسلطة النظام التي تعيد إنتاج خطابه وفكره وفق رؤيتها، مثلما حدث في علاقة أفلاطون بسقراط، حيث اعتبر ما نقله أفلاطون عن سقراط هو رؤية وفهم أفلاطون لسقراط، وليس سقراط كما كان في الواقع.