يشكل عدم الرضى والاستياء من أداء الفاعل السياسي،القاسم المشترك بين الحركات الاحتجاجية التي تؤثث المشهد السياسي بالمغرب. فمند أحداث الحسيمة أصبح الاحتقان الاجتماعي يتبلور عبر مظاهرات ميدانية تشهدها ساحات بعض المدن المغربية، وأيضا احتجاجات ''افتراضية'' تشكل وسائل التواصل الاجتماعي مسرحا لها. و هذا ما يشير إلى تعطش فئات اجتماعية و لا سيما الشباب للتغيير، لأنها سئمت من الوضع القائم و من السياسة التي لم تعد قادرة على استباق الأزمات السوسيواقتصادية و بلورة استراتيجيات تعيد هيكلة العلاقة بين الدولة و المجتمع حسب منطق يعيد الثقة للمواطن في مؤسساتها. لذا تُسائل أزمة السياسة بالمغرب الفاعل و مؤسسات النظام السياسي الذي لازال رصيده التاريخي/ المخزني يشكل حاجزا أمام تغلل الإصلاحات الدستورية و السياسية في عمق بنياته و التسريع بدمقرطته. بَيْد أنه من غير الممكن تحليل و فهم أسباب ''رداءة '' الزمن و الأداء السياسيين على كونهما إشكالا ظرفيا. بل العكس من ذلك، يتعلق الأمر بإشكالية بنيوية ترمز أبعادها المختلفة إلى مفارقات الإصلاحات المعتمدة، و محدودية انعكاساتها الإيجابية على المواطن و أيضا دورها في إعادة تشكل مفهوم السياسة وفق منظور يقطع مع ذلك التصور المختزل للفعل السياسي في بعده النفعي/الإرتزاقي. و هذا ما يعني بأن ضرورة التمييز الفيبري بين العيش من السياسة أو من أجلها، تحتل مكانة محورية في كل محاولة تصبو إلى تحديد معنى الممارسة السياسية داخل نسق ثقافي، يغذي هذه الأخيرة بمجموعة من القيم المحلية التي لازالت تؤثر على بناء التمثلات الذهنية و الاجتماعية للفاعل السياسي بالمغرب. وتجدر الإشارة هنا إلى أهمية المقاربة الأنثروبولوجية التي اعتمدت عليها دراسات كليفوركيرتزClifford Geertz للثقافة و مقاربة برنار لاكروا Bernard Lacroix المتعلقة بالبناء الاجتماعي للسياسة. فلا يمكن دراسة واقع الممارسة السياسية بالمغرب دون الأخذ بعين الاعتبار لهذه المعطيات النظرية القادرة على تحديد شكل و طبيعة الفعل و الفاعلين السياسيين. إن استحضار التمثلات الذهنية و الاجتماعية، ثم ربطها جدليا بأزمة الممارسة السياسية نفسره بكون هذه الأخيرة ظلت رهينة تصورات ''انتهازية '' تختزل الفعل السياسي في كونه عبارة عن مورد يساعد الفاعل السياسي على الاغتناء المادي، و هو ما أشارت إليه جل الدراسات السوسيولوجية التي اهتمت بها هذا الموضوع ليس فقط بالمغرب ولكن أيضا بالدول النامية التي تعتبر بنياتها الاجتماعية حاضنة و مشرعنة '' للفساد'' و في نفس الوقت لسياسة البطن حسب تعبير جون فرانسوا بيار Jean-François Bayart. لقد وَجَّهت هذه التمثلات ''الإنتهازية'' سلوكات الفاعل على مستوى الممارسة كما شكلت مرجعية قيمية حددت تأويل هذا الأخير للفعل السياسي و أسباب اهتمامه بالسياسة. و هذا ما يفسر في نظرنا أن السباق المحموم نحو الترشح في الانتخابات أو قبول مناصب سياسية، لا يكون دائما بهدف خدمة الشأن العام بل بغية التموقع في المؤسسات السياسية و الإدارية وبالتالي خدمة أهداف سياسوية واقتصادية. ولعل ذلك ما يميز الفعل السياسي بالمغرب و يفقده المصداقية عبر إفراغه من حمولته الأخلاقية التي تعتبر أساس مشروعيته.
تتمخض اذا، في إطار العلاقة بين الأخلاق و السياسة، عدة تساؤلات لا تخص فقط ماهية الفعل السياسي و لكن أيضا الغاية الضمنية التي تبرر استثمار الفاعل في المجال السياسي. لذلك فالباحث في علم السياسة مطالب بإعادة الاهتمام بهذه التساؤلات، لأن الإجابة عنها ستشكل فرصة لإعادة فهم أزمتي الدولة و المجتمع. فلقد أضحى جليا،ان أزمة الفاعل و الفعل السياسيين بالمغرب هي أزمة مركبة لا يمكن فصلها عن صعوبة الارتقاء بالممارسة إلى مستوى احترافي داخل نسق سلطوي و نيوباتريمونيالي، يرتكز في اشتغاله على أليات الزبونية، ومن تم وجب ربط خصائص الفعل السياسي بطبيعة البنية المؤسساتية المتحكمة في إنتاج شروطه المادية و القيمية، التي لازالت ترتهن إلى موروث مخزني ظل وفيا لمفهوم الولاءات السياسية مقابل الامتيازات المادية. و هذا ما نشهده مثلا في الأقاليم الصحراوية حيث تضطلع العائلات '' المخزنية '' و الأعيان الانتخابيون بدور محوري في استمرارية العلاقات العمودية التي تربط المجتمع بالدولة. إذ استفاد هؤلاء الفاعلون من مجموعة من الامتيازات المادية التي منحت لهم في إطار استراتيجية ''ريعية'' لازالت قائمة، و الهدف منها ضمان الولاءات القبلية و الإثنية في مجال جغرافي تعتبر الممارسة السياسية فيه مقترنة بالريع.
تتغذى مفارقة الممارسة السياسية من عدة تناقضات بنيوية، تأتي في مقدمتها طبيعة الفاعل السياسي، و نعني بذلك، المؤهلات و القدرات الشخصية المحددة لممارسته للفعل السياسي. فإذا تمعنا جيدا في مسار بعض الفاعلين نجد ان السياسة أصبحت مهنة من لا مهنة له ، بفعل تناقض ممارستهم للسياسة مع الأهداف التي بررت وجود الفعل السياسي في الأصل، فالأهداف التي عرفها الفكر السياسي اليوناني بكونها تهدف الى خدمة الصالح العام و تحقيق السعادة لأفراد المجتمع. لكن تمثل هؤلاء الفاعلين للممارسة السياسية يستمد تفسيره من تلك القيم الاجتماعية و الثقافية التي بنيت عليها فكرة السلطة بما هي شأن خاص،لا يعدو ان يكون المواطن الا اداة في خدمتها وليس العكس. فلقد ظلت الممارسة السياسية وفية لهذا المنطق الذي أسهم في شيطنتها إن صح التعبير و ابعدها عن هموم المواطن الذي اصبح اليوم يرفض البقاء ضحية لهذا المنطق الذي يعطل مسلسل الإصلاح،في بلد لازالت تنخر جسمه السياسي تناقضات عديدة بين الخطاب والممارسة، و لازال أيضا غير قادر على تحمل أعباء الإصلاح و الدمقرطة، لأنها ستمس المصالح السياسية و الاقتصادية للنخب الريعية و أشباه الفاعلين الذين جعلوا من الفعل السياسي فعلا ارتزاقيا. إن التركيز على السمات و المحددات السلبية لواقع الممارسة السياسية هو في حد ذاته منطلق لفهم أسباب الرداءة التي يمر منها المشهد السياسي المغربي،الذي لم يعد قادرا على التجديد و لا حتى مواكبة الدينامية الاجتماعية، و التجاوب معها بشكل إيجابي، يعيد من خلاله للفعل السياسي مصداقيته، ويؤهل الفاعلين للعب أدوارهم الطلائعية في مجال تأطير المواطنين و البحث عن حلول سياسية فعالة لمشاكلهم الاقتصادية و الاجتماعية. لذا فإن الإشارة إلى أزمة المشهد السياسي هي في نفس الوقت تفسير لأزمة الفاعل و الأحزاب السياسية التي أصبحت مجرد مقاولات انتخابية تمنح التزكية لمرشحين لا يربطهم بالسياسة سوى التوظيف السياسي/الانتخابي للمال من أجل الوصول إلى المناصب المؤسساتية، و التمكن من استغلال فرصة تسيير الشأن العام و المحلي لمراكمة الثروات و بناء شبكات زبونية تضمن لهم الارتقاء و الاستمرار في المسؤولية. فما دامت الأحزاب السياسية تعتمد في فوزها الانتخابي على أشباه الفاعلين و النخب الريعية التي اغتنت على حساب المهمشين اقتصاديا و اجتماعيا، من الصعب القول بأنها تشكل تجسيدا فعليا لفكرة الحزب السياسي. لأن هذا الأخير من المفترض فيه أن يكون مدرسة للتأطير و التكوين السياسي و رافعة للدفع بإصلاح النظام السياسي و دمقرطته. إن احتضار السياسة كفن و كطريقة للتسيير،هو في حد ذاته أكبر مؤشر على طبيعة الأزمة التي تمس آليات و طرق تنفيذ برامج السياسات العمومية، فهذه الأخيرة تفتقد إلى الفعالية بسبب قلة خبرة الفاعل السياسي و بالأخص بعض المنتخبين الذين تنقصهم الكفاءة اللازمة لفهم و استيعاب طبيعة البرامج الاقتصادية و الاجتماعية المكلفين بصياغتها و السهر على الالتزام بها. فالركود الذي يواكب مثلا تنزيل مشروع الجهوية يُفَسَّر هنا بعدم أهلية بعض المنتخبين و محدودية قدراتهم السياسية في لعب دور مفصلي يساهم بشكل سلس في تطبيق مقتضيات هذا المشروع. فلقد أظهرت تجربة التسيير ببعض الجهات و المجالس المنتخبة على أن الفاعل المنتخب هو فاعل ارتزاقي لا تهمه مشاكل الساكنة بقدر ما يهمه افتراس ونهب المال العام. و هذا ما جعل الشأن المحلي يشكل موردا ريعيا و موضوعا لمزايدات سياسوية بين منتخبين يؤمنون فقط بالعيش من السياسة، لأنها تعتبر اداة و في نفس الوقت مصدرا خصبا للاغتناء السريع. و في الختام، أود أن أشير إلى أن رسم القطيعة مع الممارسة الإرتزاقية للسياسة و الانتقال إلى الممارسة الاحترافية يتطلب إعادة النظر في الشروط المحددة لممارسة السياسة و أيضا تأهيل البنيات الحزبية ، ثم بلورة ميثاق أخلاقي ملزم للفاعلين السياسيين، وتكريس مبدا ربط المسؤولية بالمحاسبة.