من جهة الجنوب، تأتي رياح التغيير باتجاه الشمال. ومن نفس الجنوب، ينحدر المختار السوسي: الشاعر، والمؤرخ، والعالم/ المُعلِّم الوطني. وإن كان من يوازيه، غزارة أدب وعلم، فليس هناك غير شريكه، في الأصل الأمازيغي، العلامة أبو علي الحسن اليوسي. لقد احترف الرجل قرض الشعر بشكل واسع، مثلما احترف كتابة التاريخ، ومنه التاريخ الثقافي لجهة سوس. ومن ثم، ما من شك في أن موسوعية الرجل، التي ينم عنها أكثر من عنوان من مؤلفاته، كانت نتيجة تفرغه لتحصيل العلم والمعرفة. فلم يكن، هناك، شيء يملأ عليه حياته سرورا وحبورا، غير الاعتكاف على مطالعة الكتب والتأمل فيها. فقد كان يجد في ذلك جنة النعيم، حتى وهو منفي بعيد عن أهله وبيته، مثلما يقول بمناسبة إبعاده إلى "تنجداد" ومن بعد إلى "أغبالو نكردوس": " فكان وعنده كتبه وصحته وفراغه في جنة النعيم، فأقبل على شأنه إقبال من يعرف أن هذه فلتة العمر وقلما يتكرر مثلها".[1] وقد جرّ عليه ذلك، أي طمأننيته البادية وانكبابه على التحصيل، لوم أصدقائه في المعتقل.[2] إن المختار السوسي، بحكم تفرغه العلمي ذاك، يُحسب على مجال العلم أكثر مما يحسب على أي مجال آخر، وبالضبط مجال العمل السياسي "كنت أنا أيضا المختار المدرس في المساجد، المندغم في التعليم، أنا الذي لا أكون في السياسيين إلا تابعا منقادا".[3] هنا، تكمن السمة المميزة للمختار السوسي، بالمقارنة مع سلفيه علال الفاسي والمهدي بنبركة. فلم يكن يعنيه من السياسة غير الموقف في حد ذاته، أي الموقف الوطني، الذي ظل يصدر عنه، ضدا على الاستعمار وأعوانه. وإن شئنا الاقتراب من طبيعة العمل السياسي للسوسي، فلا مندوحة غير ربطه بالأدب/ الشعر الوطني من جهة، وبالتعليم الذي باشره، سواء من خلال إلقاء الدروس، أو بناء المدارس الحرة الوطنية من جهة ثانية. بعد ولادته بقرية دوكادير، من بسيط إلغ جنوبتزنيت، شهر يونيو من سنة 1900 سينكبّ المختار السوسي على تحصيل القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم، في سنوات صباه الأولى. ولعل أهم ما طبع هذه المرحلة، هو لقاؤه بالشيخ الطاهر الإفراني في تانكرت. فعلى يد الشيخ، سينفتح المختار على الأدب الأندلسي مثل كافة الإلغيين" إذ كانوا يستحضرون ما جاء في نفح الطيب، الكتاب الذي امتزج بلحمهم ودمهم لكثرة إدمانهم عليه".[4] وإن شئنا تلخيص آثار هذه المرحلة، أمكننا الوقوف على أثر جليل، تجسد في تمثل البعد الصوفي، بما يعنيه من سلوك وأخلاق وطريقة عيش وأسلوب تفكير. وقد جاء ذلك نتيجة انتساب والده إلى الطريقة الدرقاوية، وهو الحاج علي بن محمد الدرقاوي. والملاحظ أن الحضور الصوفي، لدى الإلغي، ظل مستمرا في أثناء إقامته بمدينة مراكش. ومن مؤشرات ذلك، استمرار اتصاله بمريدي الزاوية الدرقاوية في المدينة الحمراء من جهة، وقيامه بزيارة إلى القطب الدرقاوي ببني زروال من جهة ثانية. غير أن الشاب السوسي أخذ، شيئا فشيئا، في الابتعاد عن الجو الصوفي، مُحوِّلا وجهته صوب التعليم وبناء المدارس. وهنا، تبدأ المرحلة الثانية في مراكش، حيث الاتصال كثيف بقواد المنطقة من أجل المساهمة في بناء المدارس. ويأتي في مقدمة أولئك، الباشا الكلاوي والقائد العيادي والقائد الكنتافي "فقد تأسست مدرسة ابن كرير بيد القائد العيادي، وكذلك اخرى بناها إزاء داره في مراكش (...) كما أسس القائد الحسين الكنتافي أخرى في وادي نفيس وحبس عليها (...) وكذلك وجدت من الباشا الكلاوي إصاخة في الميدان".[5] وإن لم يكن للسوسي انخراط سياسي قوي ومباشر، فإن ديناميكيته الملحوظة في بناء المدارس، جعلته أكثر اتصالا بالحركة الوطنية في بعدها التعليمي- التثقيفي "لم تكن مدارس ابن دغوغ إلا واحدة مما أحنق علي الفرنسيين".[6] ولذلك، كثيرا ما عانى من جراء ديناميكيته تلك، سواء على مستوى إلقاء الدروس أو مستوى بناء المدارس، حتى كان نفيه إلى بلدته في إلغ أولا، وإلى معتقل الصحراء ثانيا. في الدارالبيضاء، حيث تبدأ المرحلة الثالثة، سيزداد نشاط السوسي التثقيفي، في إطار الوعي المتصل بخدمة القضية الوطنية. وقد لاقت الدروس التي كان يلقيها في المسجد صدى كبيرا، إلى درجة أن بدأت الاستعلامات تضيق عليه الخناق بالاستدعاء كل مرة وحين. والملاحظ أن السوسي كان يُوطِّن نفسه على حتمية الاعتقال في أية لحظة، صادرا في ذلك عن رضى وطيب خاطر، بفعل تدينه القوي من جهة، وإيمانه العميق بالقضية الوطنية من جهة أخرى. وهكذا، لم يكد يمضي على الإضراب، من أجل اغتيال فرحات حشاد، وقت كثير حتى شمله الاعتقال ضمن من شملهم من رجالات الوطنية آنذاك. وعن ثبات الوعي الوطني، لدى المختار السوسي، ما جاء في قوله تعبيرا عن قدر النفي والاعتقال: " أنعم الله على هذا العبد الضعيف المذنب بأن جعله من بين الموسومين بالغيرة على دينه ووطنه حتى ناله في ذلك ما ينال كل الغير حقيقة من سجن ونفي".[7]
حين تم ترحيله من تنجداد إلى أغبالو نكردوس، سيكون للمختار موعد آخر مع رواد الوطنية المغربية، أمثال محمد الفاسي، إدريس المحمدي، محمد الحمداوي، عبد الهادي لحلو الرباطي، أبو المزايا إبراهيم الكتاني، أحمد بن قاسم الفكيكي، والنابغة الشاب المهدي بنبركة، وغيرهم. في هذا السياق العام، ستتعش وطنية السوسي، من خلال ما كان يثار من نقاش حول موضوع استقلال المغرب، أو من خلال النضال الذي كان يستوجبه أمل تحسين ظروف الاعتقال. وقد جاء كتابه " معتقل الصحراء" حافلا بمواد غزيرة عن ظروف الاعتقال، إضافة إلى النقاشات التي كانت تدور داخله، وكذا دروس التحصيل العلمي التي كان يشرف عليها المعتقلون، مساعدة منهم لبعضهم البعض على الرقي بمداركهم المعرفية، خصوصا في المجالات التي كانوا يلمسون خصاصا فيها. في ظل هذا الواقع الجديد، أيضا، سيجد السوسي نفسه، وجها لوجه، أمام المهمة التي نذر نفسه لها، ألا وهي التعليم. وبالفعل، فقد أشرف على كثير من دروس العربية، من أدب ونحو وصرف، لفائدة رواد الوطنية المغربية. إن طبيعة المثقف، لدى السوسي، ظلت تدفعه إلى اتخاذ مواقف إيجابية من كل ما يجري حوله، حتى وهو في الصحراء معتقلا، مؤمنا بالأدوار التي ينبغي الاضطلاع بها في ظل أعتى الظروف وأقساها. هذا، في سياق من الروح الوطنية لا تخفى، تلك الروح التي تجعله يتسقّط الأخبار الوطنية من المهدي بنبركة، أو من جريدة " السعادة" التي كانت أقرب إلى نفسه " لأنها تترفع أحيانا عن التهجم على القصر الملكي".[8] تطرقنا، في ما سبق، إلى أهم المراحل التي تبدت فيها وطنية السوسي قوية، من خلال الوقوف على بعض أدواره الوطنية، وهي أدوار لا يمكن اختزالها بأي حال في هذه الصفحات. غير أننا إذا سعينا إلى ترجمة تلك المراحل على مستوى التطور الفكري والثقافي لابن إلِّغ، فإنه ليس بين أيدينا إلا الحديث عن مرحلتين اثنتين، هما: - مرحلة التشبع الصوفي، وهي مرحلة رافقته منذ صباه إلى حين إقامته بمراكش. وقد تجسدت ذروتها في القيام برحلة إلى مقام القطب الدرقاوي ببني زروال. وجدير بالإشارة إلى أن هذه المرحلة تأتي انسجاما مع التربية الصوفية، التي تربى عليه المختار في بيت أسرته، بتأثير من والده الذي كان أحد أقطاب الزاوية ببلدته. ولم يخرج عن هذا الإطار إلا ما كان يتلقاه من معارف على يد شيوخه ومعلميه في مختلف فنون المعرفة، ومنها المعرفة الأدبية التي تفتحت قريحة السوسي عليها مبكرا، وأثمرت نصوصا شعرية قل نظيرها من حيث الغزارة في الإنتاج. - مرحلة التشبع السلفي، وهي مرحلة تجسدت تاريخيا من خلال اللقاء بالشيخ أبي شعيب الدكالي في مراكش. وبدون مبالغة، فقد حول ذلك اللقاء السوسي " من صوفي بدوي ذي طبع جاف مطبوع بالحياء والحذر، وابن زاوية منزو عن الناس، منقطع إلى العبادة، إلى سلفي مؤمن بالعقل، ويجادل وفق قوانينه مقبل على الحياة والناس".[9] إن ما سميناه تشبعا سلفيا، سيتأكد خلال إقامة السوسي في فاس، وبالأخص عن طريق شيخ الإسلام محمد بلعربي العلوي، الذي لم تلن له قناة في الرد على الصوفية.. تحت غيرة من الفكر الوطني العام على حد تعبيره.[10] هكذا، تفتحت دنيا المعرفة الجديدة، التي قوامها نظرة سلفية/ حداثية، أمام المختار السوسي "وإنما تفتحت لدي الدنيا بجرائدها وجغرافيتها وكتبها الحديثة، والحركة المصرية والتركية والسورية والعراقية والهندية والأفغانية والإيرانية والتونسية وحركة العلماء في الجزائر".[11] والملاحظ أنها نظرة سلفية جديدة، لم تن في حثها على الأخذ بأسباب التحديث، إلى جانب استعمال العقل في تحليل الأمور وتقييمها.[12] ومثل مُجايِله علال الفاسي، فقد كانت سلفية ابن سوس قائمة على عمودين رئيسين، هما: أ- الإسلام السني السمح، في منابعه الصافية البعيدة عن الفكر الخرافي والطرقي؛ ب- الوطنية الصادقة، التي ترى في استخدام العقل والاستفادة من منجزات الحداثة وسائل للخلاص من الحماية إلى الحرية والاستقلال. ولأن سلطات الحماية الفرنسية، قامت في جزء من سياستها على التفريق بين المواطنين، اعتمادا على الاختلاف في اللسان، فقد ثبت لدى جميع الوطنيين أمر استثمار ما سمي الظهير البربري، لاستنهاض وحدة المغاربة العضوية بين جميع فئاته. ويحكى أن السوسي تأثر كثيرا لذلك، لدرجة أنه " كان يبكي وهو يتعرض للظهير البربري في حلقات دروسه".[13] أما من ناحية إبداعه الشعري، فقلّما نصادف شاعرا توسع في نظم الشعر مثل ما عليه حال السوسي. فقد ظل الشعر العربي جزءا من حياته اليومية، لا يكاد يفارقه في كل المواقف الإنسانية والاجتماعية، مهما كبر شأنها أو صغر. فالشعر ظل على " طرف لسانه" كما يحكى بالعامية، لا يهم إن أجاد فيه أو لم يجد. وحسب السوسي اعترافا بشاعريته، ما قاله عنه صديقه محمد بن العباس القباج في كتابه الشهير " الأدب العربي في المغرب الأقصى": " شاب لا يزال في ريعان شبابه، متضلع من اللغة العربية تضلعا كبيرا يعجز عنه من هو أكبر منه سنا، وقد أوتي براعة نادرة في قرض الشعر وارتجاله وشعره مجلي للعواطف الحية والشعور الدقيق".[14] ومن قصائده العروبية، نقرأ هذه الأبيات التي يعارض فيها السوسي المختار حافظ إبراهيم: بأي خطاب أم بأي عظات أوجه وجه الشعب شطر لغاتي بأي فعال أم بأية حكمة أنشرها من أعظم نخرات وكيف وأنى يا إلهي؟ وإنني عييت وعيت حيلتي وأداتي[15]
[1] - السوسي (محمد المختار) ، معتقل الصحراء، الجزء الأول، مطبعة الساحل، الطبعة الأولى، الرباط، 1982، ص. 31. [2] - يحكي السوسي، في الكتاب نفسه، أن نزيل معتقله الشريف مولاي الحسن من أدزر كان كثيرا ما يتعجب من تحمله واستهانته بالحوادث، لما يراه عليه من الهدوء والاشتغال بالمطالعة أو الكتابة، فيقول له: هل من تركتهم بدارك فيران أو أولاد؟ فيجيبه السوسي بقصيدة، هذه بعض من أبياتها: أفيرانا تركت أم البنينا فإنا لا نحس لك الحنينا فكل مجاوريك يثور فيهم حنين للأقارب والبنينا ألست تراهم يلظون شجوا كما سجرت بالنار الأتونا؟ وتبدي بينهم وجها بشوشا وهم من حول بشرك يطرقونا أفولاذ فؤادك أنت حتى نراك الدهر ممن يضحكونا [3] - نفسه، ص.20. [4] - السليماني (أحمد)، محمد المختار السوسي، الإصلاح السني، نشر منتدى ابن تاشفين، مركش، 2010، ص. 36. [5] - السوسي (محمد المختار)، معتقل الصحراء، ص.12. [6] - نفسه، ص. 11. [7] - نفسه، ص.31. [8] - نفسه، ص. 60. [9] - السليماني (أحمد)، المرجع المذكور، ص.41. [10] -نقلا عن المرجع نفسه، ص.42. [11] - نقلا عن المرجع نفسه، الصفحة نفسها. [12] - هذه السلفية هي التي جعلت السوسي يقبل على قراءة كتاب داروين في النشوء والارتقاء مثل إقباله على قراءة " دلائل الخيرات". وعن هذا الأمر، يقول السوسي في مذكرات اعتقاله: " كنت ذكرت أن الكتاب الذي صاحبني يدور حول النشوء والارتقاء، فأكببت عليه، أتفهم مغازيه(...) فأفادني فوائد، ولكن بعد نحو أربعة أيام دخل علي أحد ذينك العونين اللذين صاحباني من (قص السوق ) فمد إلي كتابا فإذا به ( دلائل الخيرات) ففرحت به غاية الفرح"، ص29. [13] - السليماني(أحمد)، المرجع السابق، ص.45. [14] - محمد بن العباس القباج، الأدب العربي في المغرب الأقصى، الجزء الثاني، مطابع فضالة، الطبعة الثانية، المحمدية، 1979، ص. 60. [15] - القصيدة طويلة نسبيا، وهي موجودة في المرجع السابق.