بقلم : عبد الحليم زوبير ( إمام مرشد باحث في سلك الدكتوراة كلية الآداب شعبة الدراسات الإسلامية. مراكش) يعتبر مبدأ "التوحيد" أهم مرتكزات الدعوة السلفية، وترتبط كل السلوكات السلفية، والتصورات بمبدأ التوحيد. ويشكل العمود الفقري للخطاب التداولي عند السلفيين، دعاة وأتباعا. ويرجع الجزء الأكبر من الاهتمام الذي تحظى به الدعوة السلفية إلى هذا المرتكز. إذ يسهل عل المتلقي أن يربط الدعوة كلها بعنوان التوحيد الذي يعني توحيد الله عز وجل ذاتا وصفة، وتنزيهه عن كل ناقصة. وهذا محل إجماع جل الفرق الاسلامية، فضلا عن طوائف أهل السنة، من الأثرية، والأشاعرة، والماتريدية. وإذا كان الأمر كذلك فمن يستطيع أن يجادل في وجاهة المرتكز العقدي عند السلفيين؟ إلا أن يكون ملحدا في دين الله تعالى. لكن إذا تذكرنا أننا نختلف مع المعتزلة في أصل "التوحيد" عندهم، بسبب الفهم والاسقاط، لا من حيث المبدأ، سيكون مقبولا أن نناقش هذا المرتكز عند السلفيين، لا من حيث المبدأ، ولكن من حيث فهمه، وتمثلاته، ولوازمه، ونتائجه. إن مبدأ التوحيد لو فهم فهما بسيطا خاليا من التأويل الكلامي، والجدال التاريخي، يمكن أن يوحد الأمة كلها، سنة وشيعة، فضلا عن أهل السنة والجماعة، فأحرى التوجهات السلفية المختلفة حد التكفير والتقتيل. فما هي المؤاخذات التي يمكن أن نسجلها على الفهم السلفي للتوحيد؟ أولا: التوحيد عند السلفيين ليس وسيلة لتوحيد الأمة: إذا كان التوحيد هو أن تعتقد بأن الله واحد أحد لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا احد. وهذا ما يدين به السواد الأعظم من الأمة. فإن التوحيد عند السلفيين لن ينضوي تحته إلا من أجاب عن أسئلة فرعية، تولدت في أتون الخلاف العقدي. فهم يرون بأن التوحيد تشوبه شوائب الشرك الذي يحبط العمل، ويخرج صاحبه من السنة والجماعة، ثم يرمي به خارج السياج الإسلامي. وهناك أمور فرعية تضخمت -بتضخم الجدل- في التصور السلفي فأصبحت فيصلا في صحة التوحيد وعدمه. ومن هذه الفرعيات –والسلفييون يرفضون اعتبارها كذلك- التوسل بالأنبياء والصالحين، الذي يراه السلفيوون خلافا في الاعتقاد بينما يراه آخرون خلافا في فقه المسألة، ما دام أن المتوسل يعتقد أن الذي بيده الأمر والنهي هو الله تعالى. والتوسل بعباد الله الصالحين، شريعة شرعها الله تعالى نصا، تكريما لأهله وخاصته حكمة. فالأمر أوضح في نظر المتوسلين، وحين دمغت الأدلة التي ورد فيها توسل الصحابة برسول الله صلى الله عليه وسلم منكري التوسل، -وهي في جميع الأحوال لا تقتضيها أصول السلفية- قال السلفيون: -تبعا لمدارسهم القديمة- إن ذلك خاص بالأحياء. وهذا يطرح إشكالين: الأول: سواء توسل المتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم حيا أوميتا، فإن الفاعل الحقيقي في كلا الحالين هو الله تعالى. ولو اعتقد السلفي أن لحياة النبي صلى الله عليه وسلم أثرا في أمر لا يريد الله لأورده ذلك المهالك. ولكنه قطعا لا يعتقد ذلك. فما الفرق إذا بين التوسل به حيا وميتا ما دام المسؤول حقيقة هو الله سبحانه؟. الثاني: أن الأحياء عادة قل ما يوجد بينهم مجمع على فضله، كما أجمع الصحابة على فضل العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، في عهد عمر رضي الله عنه فاستسقوا به فأمطروا. كيف وسهام السلفيين لا تغادر صغيرا ولا كبيرا من علماء الأمة وصالحيها إلا أحصته ضمن دائرة الكفر، أو الترفض، أو القبورية والبدعة.. فيبقى التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم المجمع على فضله أولى، من التوسل بالأحياء. إن ما أسلفته ليس المقصود به إبداء الرأي في مسألة التوسل، ولكنه انموذج للمسائل الفرعية، التي طعن بها السلفيون في أجيال من الموحدين، فأخرجوهم تحت مظلة التوحيد. فليس العيب إذا أن يختلف السلفيون مع من شاؤوا في صحة أمر أو بطلانه، لكن أن يركبوا على الخطإ في التصور الفقهي، انحرافا في التصور العقدي، فهذا أمر جر -ولا يزال- تشتتا في صفوف أمة يشهد أصغرها، وأجهلها، وأفسقها، أن الله واحد لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. ثانيا: التوحيد عند السلفيين علم لا ينبني تحته عمل: يلح السلفيون على متلقي دعوتهم أن يستظهر محفوظات ومصطلحات عقدية، تخرجه من حالة الانحراف العقدي إلى صحة الاعتقاد. وتشجع الدعوة السلفية أتباعها على إغراق المجالس بالحديث عن "العقيدة الصحيحة" و"نواقضها" ، تلك المجالس التي ما تلبث أن تتحول إلى منصات لقصف الأمة الإسلامية حصرا. تارة توجه المدافع للشيعة، وقل من يحدث الناس أن الشيعة طوائف كما أهل السنة. وتارة نحو الصوفية، دون أن يجرأ أحد على التحدث عن تصوف ابن تيمية وابن القيم، ناهيك عن الهروي. وموقف شيخ السلفية حقيقة، ابن تيمية الحراني، من شيخ التصوف حقيقة عبد القادر الجيلاني، وغيرهم. وتمضي أيام وليال، والقوم في سكرة الخلافات، يتقاذفونها لهوا، ولا من يسأل نفسه مالي وللناس؟ وماذا أفادتني الجدالات والمعارك الوهمية، اللاهية عن معركة الأمة مع الصهيونية، والنموذج الغربي في الفلسفة، والسلوك والأزياء، الذي يعصف بالأمة؟ ذلك ومشايخنا في لذة غامرة بالانتصارات الصالونية المؤزرة. فوا أمتاه.. وواإسلاماه.. وواعلماآه.. يعلم السلفية قبل غيرهم أن مصطلح العقيدة والتوحيد لم يكونا معروفين في القرون الثلاثة الأولى، وإنما كان الإسلام والإيمان والإحسان الدين الذي جاء جبريل ليعلمه الصحابة، ولو استعمل السلفيون الإيمان عنوانا لدعوتهم –بدل التوحيد والعقيدة- لتمسكوا بمصطلح قرآني، نبوي، سلفي حقا. ولكانت السلفية دعوة عملية، لا ظاهرة صوتية، تنجز بالخطاب ما عجز عنه عمر بن عبد العزيز بالفعل. لكنها في الواقع لا تنجز إلا القليل جدا -بالمقارنة مع عمر هذه الدعوة الأطول في تاريخ التوجهات الدعوبة المعاصرة، كتخريج بعض القراء وحفاظ الحديث، الذين لا يلبث معظمهم أن يقتحم مجالات بعيدة عنهم، خدمة لمبدإ التوحيد، الذي يعلم أن علمه لا يؤبه به، إلا بقدر ما ينصر مذهبه في التوحيد والاعتقاد، فإذا بالسلفية تصبح سلفيات، وإذا بالبنادق تحول إلى ظهور المسلمين، وإذا بالسلفيين ما بين قاتل لا يشبع من الدم الحرام، إلى السائر في ركاب الجنرالات والمخابرات، يكنس دم الأبرياء بفتاوى تحت الطلب، لإخفاء أثر الجريمة، ناهيك عن أجزاء متناثرة ما بين الؤسسات الرسمية، والأعمال الخيرية، تتقلب مواقفهم بتقلب الطقس السياسي، يفقدون كل يوم ثقة الأتباع دون أن يكسبوا ثقة الأنظمة السياسية، التي تداهنهم ويداهنونها. لو اشتغل السلفيون بالإيمان الذي هو بضع وسبعون شعبة، بعضها يهذب التصور ويجدد الإيمان ككلمة الإخلاص، وبعضها يحلي النفس ويزين السلوك كالحياء، وبعضها يخدم الأمة والمجتمع كإماطة الأذى عن الطريق، ووجهوا المشايخ الصغار وعامة الاتباع لاشغال الأمة بدرجات الايمان الذي يزيد وينقص، لوجدنا انفسنا في مجتمع يتسابق أبناؤه نحو الكمال الايماني، ويلقن طالب السير على سنن السلف أن لقب السلفية ليس عمل ليلة وضحاها، ولكن حظك الحقيقي منه على قدر نصيبك من شعب الايمان . فأما وقد اختارت الدعوة السلفية مرتكز التوحيد بدل الإيمان، فقد سهلت لهواة الجدل، والألسن السليطة، الانتماء إليها، وأوصدت أبوابها على الكثير من الأتقياء الأخفياء، الهينون اللينون، الذين لا يتكلمون فيما لا يعنيهم ولو كان حقا، فكيف بما لا ينبني تحته عمل رأسا. وهكذا رفع المشايخ شعار " التوحيد أولا لو كانوا يعلمون" وإذا عرفت بأن التوحيد عند السلفيين ليس هو الايمان وشعبه، فهذا الشعار يعني تماما "الجدال والخلاف أولا لو كانوا يعلمون". إذا وضح هذا الأمر سهل التعرف على الكثير من أعطاب النهضة المنشودة للأمة، فقد حبس السلفيون المعتدلون الملايين من الاتباع –حين سار الآخرون- في انتظار الحسم في أمور غير قابلة للحسم. لأنها قضايا كلامية، طبيعتها الجدل، الذي يثريها ولا ينهيها. أما المتشددون فتناولوا الشأن العام للأمة بمضايق الخلاف فكان مانراه، من مشاهد الإجرام المنظم باسم الإسلام. والله أعلم. يتبع.. -------------- 1 ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، فأعلاها اماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" رواه البخاري ومسلم وغيرهما بألفاظ مختلفة. [1] من المفيد في هذا المعنى كلمة الدكتور أحمد التوفيق في ندوة " السلفية تحقيق المفهوم وبيان المضمون" ومما جاء فيها: "كل المغاربة اليوم كأمس سلفيون على قدر أرزاقهم في الاقتداء والالتزام". موقع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: www.habous.gov.ma