إن المقصود بالمواضيع الرمزية بعض المقولات النظرية التي تبثها الطوائف الدينية إلى إتباعها، والتي لها وظيفة تزويدهم بمرتكزات رمزية ينظرون من خلالها إلى العالم المحيط بهم، وبالتالي إلى إصدار أحكام على واقعهم المعيش، فالمقصود، إذن، ليست المقولة النظرية بحد ذاتها، ولكن تحليل الصياغة الرمزية للمواقف الأخلاقية المستندة إلى مذهبية المجموعة، ودراستها من زاوية تأثيرها على الدلالات الموجودة عند الأتباع وانعكاسات تأثيرها على علاقاتهم الاجتماعية وسلوكياتهم الأخلاقية. بذلك، لا تتوقف مهمة الباحث في التحليل الانتروبولوجي للخطاب عند حدود الاستعراض الموضوعاتي لمذهبية الحركات الدينية التي يدرسها ، وإنما يتجاوزه إلى تحليل نظام المعنى المتجسد في الرموز،ليس بغرض الخوض فيما تثيره تلك الرموز من نقاش ديني أو فلسفي، بل للتعرف على صلة هذه المعاني بالعمليات الاجتماعية، البنائية والنفسية التي تهدف إلى بناء رؤيا للعالم تكون مفصلة على مقاس تلك المذهبية. إن دراسة الرموز تستتبع بالضرورة دراسة الأنساق الرمزية، وهذه الأخيرة تقتضي دراسة الكيفية التي تستعمل فيها الرموز من طرف أتباع الحركات السلفية في سياق حياتهم اليومية، بحيث لا يعبر هؤلاء بكيفية واضحة ومنظمة عن اعتقادهم بيد أن الدلالات المحمولة في سلوكياتهم وأقوالهم -على علاتها- تندرج بالضرورة ضمن منطق اجتماعي فاعل وإن كان مسكوتا عنه، ومهمة الباحث الأنتروبولوجي هي إدراك وفهم هذا المنطق الاجتماعي الخفي وإبراز أسسه ومرتكزاته. إذن ما هي المعاني الظاهرة والرمزية لفكرة التوحيد عند الحركات السلفية الجديدة؟ و إلى أي حد ساهمت هذه الفكرة في بناء باقي الأفكار السائدة داخل هذا النسق الاعتقادي؟ انطلق محمد ابن عبد الوهاب في صياغته لمفهوم التوحيد من اعتبار فقهي وهو أن التوحيد أساس الديانة الإسلامية، وقد عنى به إفراد الله بالعبادة دون سواه، فالمجتمع انعكاس، أو ينبغي أن يكون انعكاسا لهذا التوحيد الإلهي، فإذا كان التوحيد صفة أساسية للذات الإلهية، فإنه في المجتمع تحتاج إلى تحقق وبناء، وترجمة التوحيد على مستوى المجتمع لا يتم إلا عن طريق تحقيق مجموعة من مشاريع الوحدة: وحدة العقيدة، وحدة الفقه، وحدة الأمة، وحدة الشعائر... ويزيد ابن عبد الوهاب في تفصيل ما يعنيه بمبدأ التوحيد وأثره على المعتقدات المتصلة بالإلهيات ككل، من خلال فكرتي "توحيد الأولوهية" و"توحيد الربوبية"، فعند تطبيق المبدأ في فهم الاعتقاد بالله، فإن التوحيد يعني " توحيد الربوبية"، وعند تطبيقه على المؤمن فإنه يعبر عن الالتزام " بتوحيد الألوهية" نحو الله وحده، كما تقرر الوهابية ترابط هذين المعنيين للتوحيد، فتوحيد الربوبية يترتب عليه توحيد الألوهية، والتسليم بتعدد الآلهة هو إدخال التعدد والشرك في الحياة الدينية. وبالعكس، لا يمكن التسليم بتوحيد الربوبية وفي نفس الوقت الإيمان بغير الله، مما يعني أن توجيه جزء من العقيدة التي يدان بها لله وحده نحو نبي أو ولي أو حاكم سياسي..هو بمثابة وقوع بغير وعي في الشرك لأنه تسليم بغير ألوهية الله وبغير ربوبيته، إذن فلا يمكن بدون تحقق المبدأين (توحيد الربوبية و توحيد الألوهية) تجسيد الإيمان الحقيقي بالله، فعبرهما فقط يجد الإنسان في فكرة الله نشاطه ومضمون مثله الأعلى . بهذا تنآى الإيديولوجيا الوهابية في هذا الموضوع عن تصورات أخرى مثل ذلك الموجود عند الصوفية، ذلك ان المثل الأعلى للمؤمن الحقيقي لا يتحقق إلا من خلال صحة الاعتقاد بالله وليس عن طريق الاشتغال بالزهد وإماتة الجسد، الذي يؤدي حسب الصوفية على إلغاء التمايز بين الذات والموضوع، وإلى السمو بالروح على حالة من النشوة التي تشعر فيها باتصالها بالله. ويمكن القول ، بشكل اقل تجريدا، أن الحقل الدلالي الذي يفتح عليه مفهوم التوحيد لا يقف عند هذا الموقف الأصولي في الاعتقاد والذي مضمونه:" الاعتقاد بالله كما وصف به نفسه من غير تعطيل أو تأويل"، وإنما يمتد ليشمل ضوابط للممارسة الدينية، فإذا كان الإسلام يقيم العقيدة على مقولة التوحيد، فإن السلوك والممارسة ينضبطان بهذا المبدأ انضباطا مطلقا لا مجال فيه لإشراك غير الله في العبادة بأي طريقة سواء كانت صلاة أو تقربا أو دعاء. كما يقول الشيخ زحل من كون أن السلفية مذهب حق يتلخص في أمرين: «صفاء التوحيد وخلوه من شوائب الشرك في الربوبية والعبودية والأسماء والصفات والتزام ما كان عليه الرسول وأصحابه رضوان الله عليهم والتابعون لهم بإحسان». يؤدي بناء فكرة التوحيد على هذا المنوال، إلى إعادة صياغة الإشكاليات التي تطرحها مسألة التوحيد بشكل أكثر حدة ، بحيث تكاد تكون المقولات المركزية الأخرى في الفكر الوهابي متمحورة حول هذا التوحيد باعتباره أهم مكونات التدين، والعنصر ذا الدلالة بالنسبة إلى الإشكاليات المتفرعة عنه كمسائل الممارسة الانتماء والهوية والولاء والبراء. مما يجعله حجر الزاوية في العقيدة الإسلامية، بحيث لا تتحقق الثقافة الإسلامية إلا عبر عقيدة التوحيد. ومثال ذلك أن التفقه في الدين، تقول السلفية، لا يتم إلا بمعرفة أصول الاعتقاد تاما وشاملا بما يتصل به من صفات وشروط ولوازم ونواقض، ثم يأتي بعد ذلك وجوب العلم الصحيح بأحكام الصلاة وخصالها ومبطلاتها وغير ذلك من الأحكام التي تخص بقية طقوس الإسلام. يقول الزمزمي:« إن من المسلمين من يحرصون على طلب العلم والتفقه في الدين، ولكنهم يحسبون أن تفقههم في الدين ينحصر في العلم بأحكام الصلاة والصيام وفي الإلمام ببعض جوانب الحلال والحرام، فإذا استوعب العلم بهذه الأمور، ظن أنه انتهى إلى غايته من العلم الشرعي ونال حظه من التفقه في الدين، مع انه قد يكون غافلا عن أصل دينه وحقيقة إيمانه، فلا يدري من أصل الاعتقاد وتوابعه ولوازمه إلا نطقه بكلمة التوحيد التي لا يدرك منها مفهومها الصحيح ولا دلالتها الشرعية". إن السلفيين يرفضون التعبير عن مشروعهم بعبارات مأخوذة من قاموس الحركات الإسلامية أو المثقفين الإسلاميين كتعبير"المشروع الحضاري الإسلامي" الأكثر انتشارا في توصيف الإسلاميين لمشاريعهم ، على خلفية أن هذا التعبير وغيره لا يعبر عن المكانة التي ينبغي أن يحتلها التوحيد كأولوية في كل عمل دعوي، بل يجعل هذا المحور موازيا إن لم يكن مواليا من حيث الأهمية للجبهات الأخرى للعمل الدعوي ( العمل الثقافي، الاجتماعي، الخيري، السياسي)، وبالتالي فإن تلك التعابير لا تترجم ما يجب أن يحظى به التوحيد من أولوية، وهذا ما يجعل من السلفية نوعا من البروتستانتية الإسلامية بتأكيدها على انه لا حكم لغير الله، ورفض لكل تهاون في مسالة الوحدانية وما يرتبط بها من أخلاقيات. إن انتقال في الكلام عن التوحيد من مجال المعتقدات إلى مجال الممارسة، جعلت السلفيين ليسوا فقط أصحاب رؤية عقدية بالمعنى الحصري للكلمة، وإنما أصحاب مواقف وردود على واقع الممارسة التعبدية التي شهدتها عصورهم. فإذا أخذنا بعين الاعتبار المعنى الاجتماعي للممارسة التعبدية، الذي لا يحصرها في مجرد الوسيلة يعبر بها الأفراد والجماعات عن علاقتهم بما يعتبرونه مقدسا، ولكن في الأساس إظهارا للمشاعر وتعبيرا جماعيا عن الموقف من الكون والحياة والعلاقات الاجتماعية، لأدركنا أن السلفية تتعدى كونها مجرد منهج في الاعتقاد، لتنطوي على مذهب اجتماعي يحاول من خلال عقيدته رسم صورة مجتمع آخر أساسه التضامن العقدي الذي يجعل من الأمة جسدا واحد يتضامن كل جزء فيه مع الكل، ويدين فيه الكل للجيل المؤسس ( الصحابة والتابعين)، ويرتبط به برابط معنوي وسلوكي ساعيا إلى تحقيق مجتمع "أهل السنة والجماعة". ويرجع تزويد مبدأ التوحيد بهذا العمق إلى ابن تيمية، فقد كانت فكرة التوحيد عنده مندرجة في إطار فكرة أخرى متسمة بنوع من التعقيد وهي فكرة الحقوق، والتي تأتي في مقدمتها حقوق الله التي يختص بها وحده، وتتلخص في أن يكون وحده المعبود، وهو وحده صاحب هذا الحق، كما أن تأدية المسلم لهذا الحق لا تكون بإفراده بالعبادة فقط، بل باحترام لكل الحقوق الأخرى، لأن احترامها هو في النهاية احترام لحقوق الله. لكن الاستحضارات المعاصرة التي تقوم بها السلفية لفكرة التوحد تخلو من هذا العمق، بحيث يغيب مفهوم الحق الإلهي في صياغته، ليعني مبدأ آخر أقل انبناء وهو صحة الاعتقاد بالله الذي يترجم عمليا بخلو مختلف مظاهر العبادة من الشبهات التي تنتقص من هذه الصحة، ولعل ذلك هو ما يتسبب لهذه الاستحضارات في العجز عن إنتاج معاني خارج حدود العقيدة، في حين كانت فكرة التوحيد عند ابن تيمية منطلقا على تجديد الإسلام كمبدأ للتنظيم الاجتماعي والسياسي. لقد كان ابن تيمية يهدف من خلال فكرة التوحيد مواجهة الأفكار الكلامية والفلسفية التي سادت في عصره، ولذلك احتاج في التعبير عنها إلى قنوات هامشية (canaux périphérique) تأخذ بعين الاعتبار ما وصل إليه النظر الكلامي والفلسفي من رزانة وقوة ، أما اليوم فيعبر عن الفكرة بشكل مباشر وبسيط مفتقر إلى التقعيد والتنظير، إذ يكاد السلفيون الفاعلون الوحيدون الذين ينطلقون من مبدأ التوحيد في مشروعهم الإصلاحي، ولذلك يسلكون في التعبير عنه قنوات مباشرة (canaux directe)، بدون أن تلقى مقولا تهم معارضة تضطرهم إلى تعميق النظر في المفهوم كما اضطر إلى ذلك ابن تيمية. فالسلفي عند الاتجاهات المعاصرة هو كل مسلم سلم من الشبهات في العقيدة، خاصة في مسائل الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكذلك في مسائل القدر وفضائل الصحابة. ولعل هذا العامل هو الذي يفسر افتقار النزعة السلفية المعاصرة إلى سند فكري محرر على شروط المناهج العلمية المستجدة، فلا نكاد نظفر عند أهلها لا بتأطير منهجي محكم، ولا بتنظير علمي منتج، ولا ببناء فلسفي مؤسس . لكنها تعمل، في المقابل، على إعادة صياغة تعاليمها في شاكلة أكثر تبسيطا، ولذلك فهي مركز جاذبية كبيرة. فهي مذهب موجه لا إلى النخبة المتمكنة من وسائل التنظير و الحجاج في مجال "الفقه العالي"، وإنما إلى أناس في حاجة إلى فهم لما يعتقدون، إلى عقيدة بسيطة بإمكانهم إدراكها حسب إمكانياتهم الذاتية والتحدث عليها مع الآخرين من أمثالهم، بدون أن يتيهوا في الكثير من المتاهات الإيديولوجية. من هذه الوجهة يمكن القول انه من خلال مسالة التوحيد، فإن السلفية تستبطن إعادة تشريع العلاقة بالأشياء المقدسة من خلال ربط المؤمنين بمفاهيم بسيطة، فالأيمان عندها لا يتطلب سوى الاعتقاد بالله كما وصف به نفسه في الكتاب والسنة من تأويل ولا تعطيل . و من خلال مفهوم التوحيد يصبح الإيمان عند السلفية وحدة كمية قابلة للقياس، بحيث يمكن في كل وقت وحين اختبار سلوكيات المؤِمن وممارساته التعبدية والنظر فيما إذا كانت موافقة ومجسدة لمبدأ التوحيد، وفي ذلك مسافة كبيرة من المفهوم الصوفي للإيمان الذي يفسر بمنطق عاطفي روحاني وليس باعتباره مكونا فيزيائيا تعتمد على المعطيات الحسية. ولذلك، تسلك الصوفية في التعبير عن مبدأ التوحيد قنوات غير مباشرة تتطلب من المؤمن قدرا من التحليل والتخيل من أجل فك معنى المفهوم أولا ثم استيعابه ثانيا. وعلى سبيل المثال، كثيرا ما يعارض السلفيون التوظيف الإشاري لظواهر الطبيعة أي النظر إليها كإمارات دالة على وجود خالق أو صانع، فمعرفة الله عندهم لا تتأتى سوى من خلال ما أخبر عن نفسه. وهكذا يعارض السلفيون مقولة الله في كل مكان أو في وجدان كل شخص كما تقول بذلك المتصوفة، لصالح الانتصار لمقولة تواجده في السماء كما جاء بذلك صريح القرآن من دون تأويل. وقد رأى هنري ولاووست في ذلك تحديدا ذا مغزى لمفهوم الله، إذ أنه يساعد الإنسان على فهم ما يعتقده، على عكس التراث الكلامي الفلسفي الذي يتطلب من متلقيه الاعتقاد بالله بعد أن أفرغ الفكرة من كل تحديد إيجابي. هكذا فإن أن قوة المذهبية السلفية تكمن في انه تختصر الطريق في الوصول إلى نفس النتيجة التي يؤيد أن تصل إليها جميع المدارس الإسلامية، خصوصا التي تتبع مناهج المتكلمين، وهي تقرير التوحيد، في حين لا يصل إليه تلك المدارس إلا بعد عمليات معقدة ومتتالية من البرهان المنطقي والعقلي. ومن الناحية الواقعية، فإن التصورات الدينية التقليدية السائدة في المجتمع الإسلامي ما فتئت تضع الأبعاد الميتافيزقية في مصاف البداهات التقليدية التي لا تحتاج إلى توضيح، ومنها مبدأ التوحيد، ولا تصير هذه التصورات موضوع اشتغال خاص إلا كلاميا، أي إلى ما يشبه الرياضة الذهنية التي يخاض فيها برغبة التعضيد الفلسفي والكلامي. ولذلك يبقى ذلك النوع المجرد من الإسلام الذي تدعو إليه الإيديولوجيا السلفية غريبا بالنسبة لتصورات دينية المعاشة، ومنها الإسلام المغربي الذي قام على دعامة أخرى على نفس القدر من التقديس، ذلك فالهداية عنده لا تتحقق عند بعض معتنقيه سوى بواسطة بعض الأفراد المشفوعين بالعناية الربانية، بشكل يجعل من اللجوء إليهم و ارتجاء بركتهم شرطا لنيل النجاة والبركة. وفي ظل هذا الرؤيا يظل مبدأ التوحيد وما يقيمه من إسلام موضوعي مجردا غريبا نمط المعتقدات التي كانت سائدة في المغرب والتي تضع تصورا هرميا تراتبيا لعلاقة الإنسان بالغيب مع وجود وسطاء كما هو الحال في إيديولوجية الزوايا والصلحاء .