بسم الله الرحمن الرحيم قراءة في كتاب جديد يؤرخ لتاريخ مجتمع البيضان في موريتانيا والصحراء الكبرى، بعنوان: "الدعوات الإصلاحية، في البلاد البيضانية، الإمام أبو يعلى أحمد أبييري نموذجا" بقلم: محمد الإبراهيمي رئيس مركز الدراسات الصوفية بالداخلة المغرب. بدأ المؤلف: "المرابط بن محمد محمود بن عبد الرحمن الأبييري"، كتابه هذا الذي سماه: "الدعوات الإصلاحية، في البلاد البيضانية، الإمام أبو يعلى أحمد أبييري نموذجا"، بمقدمة جامعة تطرق فيها لأهم وأبرز الدعوات والحركات الإصلاحية، التي ظهرت في هذه البلاد التي تسمى "بلاد البيضان"، بلاد الإمام أبييري موضوع الدراسة، وكانت هذه التسمية أعني "بلاد البيضان" قد ظهرت عند أكثر من مؤرخ وكاتب، مثل الرحالة العربي المغربي ابن بطوطة، فعندما زار هذه المنطقة سنة: 753ه ذكر هذه التسمية، حيث قال: "أخبرني مزبغا أن منسى موسى لما وصل إلى هذا الخليج [نهر السنغال] كان معه قاض من "البيضان" يكنى بأبي العباس، ويعرف بالدكالي الخ"؛ وقد بيَن المؤلف في مقدمته، أن هذه المنطقة الصحراوية النائية عن المدنية والحضارة، ظلت لفترات تاريخية طويلة تسودها السيبة والفوضى، وعدم الهدوء والاستقرار، بسبب طابعها البدوي القبلي الفوضوي، وهذه الحالة السلبية، والوضعية المزرية، هي التي دعت "الإمام اباه أبييري" إلى تأسيس دعوته الإصلاحية هذه التي انفتحت على جميع الشرائح، ومختلف المكونات الشعبية، وقد كانت ساكنة هذه البلاد منقسمة إجمالا لا تفصيلا إلى اتجاهين رئيسيين: أ) اتجاه يهتم فقط بحمل السلاح، وفرض المغارم، وإخضاع الغير أو الآخر، وهو مجموعة "بني حسان" ومن سلك مسلكهم. ب) اتجاه يهتم بحمل اللوح والقلم، ويسمى ب"الزوايا" و"الطلبة"، ولا يقتصر على المجموعة الصنهاجية دون غيرها، وإنما يضم مجموعة قبائل صنهاجية، وأخرى قرشية، تخصصت في الجانب الديني، مع تخلي معظمها عن مهمة الدفاع العسكري. وقد كانت كل مجموعة تحتقر الأخرى، وترميها بالنقائص، فأبناء حسان يزدرون بالزوايا، ويرمونهم بالضعف والمسكنة والخمول والجمود، والزوايا يرمون بني حسان بالفسق والإلحاد والزندقة والكفر. ومن هذا المنطلق أسس "أبييري" - من خلال هذه الدعوة الإصلاحية - التي طبقها على نفسه وذويه - لبناء مجتمع إسلامي متكامل، يجمع بين الاهتمام بالعلم والدين، دون نزع السلاح أو التخلي عن مهمة الدفاع عن النفس والمال والعرض، فصحح المفاهيم والتصورات، وجمع الناس وأمّنها وأطعمها وشجعها على الحياة الإسلامية السليمة القويمة. وبذلك كانت دعوته الدينية الاجتماعية دعوة شمولية متكاملة، حفَزت مختلف الشرائح والمكونات إلى الانضمام إليها شيئا فشيئا، باعتبارها تلبي طموحات الجميع. وذكر في المقدمة أيضا أن هذه المنطقة عرفت لاحقا أنواعا مختلفة من الدعوات المماثلة، مثل دعوة الولي الصالح ناصر الدين الديماني، التي تعتبر حركته الصوفية السنية امتدادا لحركة أبي حسون السملالي الذي قامت له إمارة بإقليم تازروالت بالمغرب؛ وقد أوشكت حركة ناصر الدين ببلاد البيضان أن تقيم بدورها إمارة إسلامية، لولا اصطدامها بصخرة المغافرة من بني حسان، أصحاب الشوكة والقوة العسكرية في البلاد البيضانية، فقامت بسبب ذلك الحرب الضارية بين الكتلتين الشمشوية والمغفرية، وهي الحرب المعروفة بحرب: "الزوايا والعرب"، التي انهزم فيها الزوايا أمام العرب، وخضعوا لهم خضوعا كليا ونهائيا. وأتى المؤلف كذلك بنموذج آخر عرفته هذه المنطقة، ألا وهو نموذج دعوة العلامة المجدد، والصوفي الشهير، الشيخ محمد المامي بن البخاري، الذي نشأ نشأة أهل الصحراء، وفاق أقرانه في جميع العلوم والفنون، التي تتداولها مدارس المنطقة يومئذ، فطرق مواضع علمية لم تُطرق من قبل في الثقافة البيضانية، مثل: "الإمامة" ومسائلها، فكانت كتاباته إرهاصات الدولة في بلاد البيضان؛ كما أتى بنموذج آخر لا يقل أهمية عن سابقه، أعني نموذج أو تجربة "الحركة المعينية" الرائدة في بلاد البيضان خصوصا، والمغرب الأقصى عموما، وذكر أن صاحبها الشيخ ماء العينين رحمه الله تعالى نال مكانة مكينة عند الملوك العلويين، لم تنلها أي شخصية بيضانية أخرى، لا في القديم ولا في الحديث. وقبل ظهور كل هذه الدعوات المذكورة وما في مضمارها، برزت في الساحة البيضانية في وقت مبكر من تاريخها، شخصية لا ككل الشخصيات، إنها شخصية "اباه أبييري" بن محمد بن عبد الجبار، هذا الإمام المصلح، والعالم الصالح، والبطل الشهم الشجاع، الذي كانت لدعوته البنَاءة، ومشروعه المجتمعي، ما بعده من العمل الإصلاحي في الساحة البيضانية، والذي قصَرت بل جنت في حقه جلَ الكتابات الزاوية التي كتبت عن تاريخ هذه البلاد بطريقتها الخاصة، وهذا أحد أبرز الدوافع للكتابة عنه، وهذه الدراسة التي بين أيدينا لم تتناول بشكل إحاطي جميع مراحل حياته، وكل أطوار تجربته، وذلك بالنظر إلى ندرة المصادر والمراجع، وشح المعلومات الواردة عن تاريخ مجتمع الصحراء، الذي لم يعرف التدوين والتوثيق إلا في القرون المتأخرة. وقد قسم الكاتب دراسته هذه إلى مقدمة، ومحورين كبيرين، تحت كل محور منهما عدة مباحث فرعية، ثم خاتمة، وذلك وفق المنهجية التالية : أ)_ المحور الأول: * الحالة العامة للأوضاع العرقية والدينية في المنطقة قبل ظهور الدعوة الأبييرية الإصلاحية. وهذا المحور الأول يعتبر إطلالة عامة حول الموضوع الأساسي، وذلك من زاوية علاقته بالمجال الترابي البيضاني، وخلفية ساكنته من الناحيتين الدينية والعرقية، وقد استطرد فيه نماذج عديدة، من الحضارات العربية القديمة، وبرهن بشكل لا يدع مجالا للشك على أن الأمازيغ والعرب أمة واحدة، يجمعها النسب والدين والتاريخ المشترك، وأن الأمازيغ يمثلون الهجرات العربية القحطانية الحميرية اليمنية القديمة، في حين اصطُلح على أصحاب الهجرات العدنانية المضرية المتأخرة عن سابقتها بقرون كثيرة بالعرب، ولهذا تناول الكاتب أبرز الهجرات العربية من المشرق إلى المغرب، والتي قسمها على النحو التالي: أولا: الهجرة العربية من المشرق إلى المغرب، وهي هجرة القبائل العربية القيسية المضرية العدنانية، التي لم تكن الهجرة العربية الأولى ولا الوحيدة إلى هذه البلاد، وإنما كانت هي أشهرها، وأبلغها تأثيرا منذ ظهور الإسلام، وكانت هذه القبائل العربية تشكل معارضة مسلحة لسلطة الخلافة الإسلامية العباسية في بغداد، التي سيطر الموالي والأعاجم آنذاك على أجهزة الحكم وإدارة السلطة بها، وقد أخذت معارضتها منحا سياسيا، خاليا تماما من الخلفيات الدينية الإيديولوجية، وإن كانوا قد انضموا فعلا إلى بعض التنظيمات الدينية، والفصائل الثورية المعارضة، خلال مواجهاتهم مع الدولة العباسية، غير أن ذلك كان مسألة طبيعية، اقتضتها المصالح المشتركة، فعندما صارت هذه المجموعات العربية عرضة للغبن والتهميش، من لدن السلطة الحاكمة، تمردت عليها من أجل تحسين وضعيتها المالية، وظروفها المعيشية، فكانت معارضتها إذاً معارضة قومية ضد الظلم والطغيان، وردة فعل على السلطة العباسية، التي كانت في تلك الفترة تعزز مكانتها، وتردع أعداءها، باستخدام المماليك من الأتراك وغيرهم من العجم، لذلك كانت هذه القبائل تقوم بأعمال الشغب والترويع، وتؤلب الناس على الثورة والتمرد، وتدعم كل توجه مخالف للسلطة المركزية مهما كانت خلفيته، وقد جرها ذلك إلى النزوح عن مواطنها الأصلية بالحجاز، إلى الشام، ثم إلى مصر، ثم إلى إفريقية [تونس] ثم إلى مراكش، ثم إلى جنوب الصحراء الكبرى وتحديدا بلاد الملثمين المرابطين [البيضان]. ثانيا: كيف ومتى انضم الجعافرة لبني هلال وبني سُليم، وقد أوضح المؤلف في هذا المبحث أن هؤلاء الأشراف الجعافرة، هم الذين كانت لهم الرئاسة بأرض الحجاز، خصوصا في المدينةالمنورة، ولما وقعت الحرب بينهم وبين أبناء عمومتهم الحسنيين والحسينيين، رحلوا عنهم حرصا على السلم الأهلي، وانتقلوا إلى بوادي الحجاز، فتحولوا من أمراء في المدن والمراكز الحجازية، بالنيابة عن الخليفة العام، إلى حالة من البداوة والنجعة، وقد تم نزوحهم عن بلادهم ومواطنهم الأصلية، في نهاية المائة الثالثة للهجرة في مائتي فارس، وكانوا إذ ذاك تحت إمرة جعفر بن إبراهيم الأعرابي، قبل أن ينضموا إلى مجموعة القبائل العربية العدنانية المختلطة، التي كان أغلبها من بني هلال وبني سُليم، وذلك بالصعيد المصري، قبل أن تنتقل تلك التشكيلة إلى منطقة المغرب الغربي أو الغرب الإسلامي. ثالثا: بلاد البيضان وأزمة السلطة السياسية، وفي هذا المطلب تكلم عن الوضع السياسي الذي عاشته المنطقة في فترات معينة من تاريخها، وعن التقسيمات القطرية التي افتعلها الغرب الاستعماري، وناقش الموضوع مناقشة أكاديمية جميلة، بعيدة كل البعد عن الحزازات والحساسيات القطرية الضيقة، وقدَم مقاربة تاريخية هامة، عن أهم الهجرات الجماعية، التي كان لها تأثير فاعل في الساحة البيضانية، والتي حصرها في الموجات أو الهجرات التالية: أ)- الهجرة الصنهاجية القديمة، التي مصدرها الأصلي اليمن منبع العرب والعروبة الأول. ب)- تجمع الأمير أبي بكر بن عمر بن تيلوكاكين، الذي عاد به من الشمال إلى الجنوب. ج)- شتات الدولة المرابطية بعد سقوطها مباشرة في الشمال على يد الموحدين. د)- محلّة بني غانية أو الدولة المرابطية الثانية في الصحراء الكبرى (ابدوكل). ه)- مجتمع بني حسان أو مجموعة عرب المعقل. رابعا: بطون المعقل وانتشارهم في الصحراء الكبرى، وفي هذا المطلب تكلم الباحث عن بطون المعقل، الذين يشكلون الأصول العرقية لمجموعة بني حسان، من مجتمع "البيضان"، في منطقة الصحراء الكبرى، وذكر أن المعقل أصبح أمة كبيرة، منتشرة في كل نواحي الصحراء الكبرى، وفي جميع دول المغرب العربي الكبير، وبما أنه لا تمكن الإحاطة بهم بشكل حقيقي ودقيق، إلا أنه تكلم عما هو معروف ومشهور عندنا في المغرب العربي الكبير، من هذا الشعب العظيم، وعلى وجه الخصوص ما هو متواجد بشكل مكثف في الدولتين الجارتين الشقيقتين: المغرب وموريتانيا. خامسا: ميلاد الإمارات البيضانية، ثم تكلم في المطلب الخامس عن ميلاد الإمارات البيضانية، باعتبارها زعامات وطنية محلية، أوجدت بشكل أو بآخر نوعا من السلطة المركزية في بلاد البيضان، وحصرها في الإمارات التالية: 1 إمارة البراكنة نسبة إلى بركنّي بن هداج بن عمران بن عثمان بن مغفر، وقد تأسست في منتصف القرن الحادي عشر الهجري، السابع عشر الميلادي في شمال بلاد القبلة، ومن أشهر أمرائها: بكّار بن اعلي بن عبد اللّ [ت 1092ه/1681م] الملقب ب"الغول"، والد الأميرة اخناثه [ت 1159ه/1746م] زوجة المولى إسماعيل العلوي [ت1139ه/1726م] التي أنجبت له المولى عبد الله [ت 1204ه] جد الأشراف العلويين الحاليين ملوك المملكة المغربية الشريفة. 2 إمارة الترارزة: وهي نسبة إلى تروز بن هداج بن عمران بن عثمان بن مغفر، تأسست هي الأخرى في منتصف القرن الحادي عشر الهجري بجنوب بلاد القبلة، وقد ازدهرت على يد الأمير اعلي شنظوره [ت 1139ه/ 1726م] بن هدي بن أحمد بن دامان، الذي وفد على السدة العلوية الشريفة بالمغرب، فأمدته بجيش "لمْحلة" المعروف. 3 إمارة أولاد امبارك: نسبة لمبارك بن امْحمد بن عثمان، بن مغفر، تأسست إمارتهم في منطقة الحوضين بالشرق الموريتاني والشمال المالي، وقد قامت إمارتهم في حدود سنة: [1091ه/1680م]. 4 إمارة آدرار، أو إمارة أولاد يحي بن عثمان ابن مغفر، التي تأسست في الشمال الغربي لموريتانيا الحالية، وقد أسس هذه الإمارة عثمان بن لفظيل سنة: [1158ه/1745م]. 5 إمارة إدوعيش اللمتونية العربية الحميرية الأصيلة، التي انقسمت إلى قسمين: قسم "اشراتيت"، برئاسة المختار بن امحمد شين وبعض إخوته، في اركيبة بالعصابة، وعن هذا الفرع انشق أهل سيدي محمود، وأسسوا إمارة خاصة بهم؛ وقسم:"أبكاك" في تكانت، بزعامة الأمير اسويد احمد بن امحمد شين، وهو الذي انفصلت عنه مجموعة مشظوف، وأسست بدورها إمارة خاصة بها. 6 إمارة البرابيش الحسانية: التي تأسست في منطقة "أزواد" بالشمال الغربي من مالي الحالية، في نهاية القرن العاشر الهجري، ولها امتدادات ونفوذ كبير في جميع دول القارة السمراء، سواء تعلق الأمر بالجانب الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي. سادسا: التراتبية الاجتماعية في البلاد البيضانية، وهذا المطلب الأخير من الفصل الأول تكلم فيه المؤلف عن البُعد التنظيمي الاجتماعي في الساحة البيضانية، وقد أبدع فيه وأجاد وأفاد، حيث تكلم عن الطبقية أو التراتبية الاجتماعية، التي تضاربت فيها الأقاويل على مستوى هذه البلاد، وأتى بشيء لم يسبق إليه في هذا الإطار، مبينا أن هذا التقسيم التراتبي سنة إلهية كونية قدرية، عرفتها مختلف الأمم والشعوب البشرية على وجه الأرض. ب)_ المحور الثاني: * ظهور الدعوة الأبييرية الإصلاحية، وطبيعة بنية المجتمع الذي ظهرت فيه؛ وهذا المحور يشتمل على المباحث التالية: 1. الإمام أبو يعلى أحمد أبييري، مؤسس الدعوة، أصله ونسبه، وأقوال النسابة في النسب الحساني المعقلي بشكل عام، وقد أورد الأقوال، والأقوال المضادة في ذلك، وناقشها مناقشة موضوعية، مثبتًا بالأدلة والبراهين والسرد التاريخي هاشمية صاحب هذه الدعوة، وكل من على شاكلته من قومه وبني جلدته، من بني حسان المعاقلة الجعافرة . 2. نشأة وتكوّن الدعوة الأبييرية، وانطلاقتها الأولى، فقد تطرق المؤلف في هذا القسم الثاني، من المحور الثاني، إلى ظروف وأجواء النشأة والانطلاقة الأولى، لدعوة الإمام أبي يعلى أحمد أبييري الإصلاحية الشمولية، التي هي موضوع هذا الكتاب، هذه الدعوة التي وإن لم تصل إلى مستوى الحركة والدولة، إلا أنها آتت أكلها كل حين بإذن ربها، عندما ثارت ثورة سلمية شمولية، على الأوضاع السائدة آنذاك في المحيط الذي ظهرت فيه، ذلك أن أبناء عمومة "الإمام أبييري" من بني حسان، وأمثالهم من ذوي الشوكة، عاشوا حقبة مظلمة مضطربة من الزمن، على هذه الرقعة الأرضية، حتى انقلبت الموازين والقيم في المجتمع وقتذاك، بحيث أصبح معيار القيمة الاعتبارية لحامل السلاح أكثر من حامل العلم، ولحامل السيف أكثر من حامل القلم، واكتفى أهل العلم والدين بجمع فُتات الهدايا والبركات، فباعوا الدين والشرف بالدنيا، لذا جاءت هذه الدعوة الإصلاحية تلبية لحاجة المجتمع الماسة للتوعية الدينية، والنهوض بهمم الناس من مختلف الطبقات الاجتماعية، في ظل تراجع القيم الإسلامية، وسيادة ما يشبه "قانون الغاب"، في الساحة البيضانية بشكل عام. 3. منطلقات وأهداف منهج الدعوة الأبييرية الإصلاحية، وفي القسم الثالث من أقسام هذا المحور، تكلم المؤلف عن الأبعاد الرئيسية، التي شكلت أهم منطلقات وأهداف هذه الدعوة الإصلاحية، ملخصا إياها في النقاط التالية: • البُعد الديني، ويتمثل في التخلي طواعية عن حياة السلب والنهب التي كانت تنتهجها شريحة بني حسان ومن سلك سبيلها في تلك الفترة المظلمة من تاريخ المنطقة. • البعد الاجتماعي، ويتمثل أساسا في تكوين مجتمع إسلامي مستقر، يضمن تكافؤ الفرص لجميع أفراده، من جميع الأعراق ومختلف الطبقات المجتمعية. • البعد السياسي، ويتمثل بالأساس في إقامة منطقة آمنة، يلجأ إليها الخائفون والعاجزون، من جميع الناس خدمةً للصالح العام. 4. البعد الاقتصادي، ويتمثل في ملكية الأرض من أجل العيش والاستثمار والحياة الكريمة الهادئة الهادفة، وتوطين كل الشرائح فيها، وخصوصا شريحة الزوايا، وتأمينهم من الظلمة ورد الاعتبار لهم، وإعطائهم القيمة والمكانة التي تليق بهم. 5. مرحلة ازدهار الدعوة الأبييرية وقوتها وانتشارها: وفي القسم الرابع من الكتاب تناول المؤلف الدعوة في طور توسعها وانتشارها، حيث اعتبر عهد "محمد امرابط مكة" [940/1045ه] خليفة مطلقا ووارثا كاملا عن والده المؤسس "اباه أبييري"، ففي ظل هذا الأخير شهدت الدعوة نقطة تحول عميق وكبير في مسارها، وقد امتدت آفاق وعطاآت هذا التحول الجذري والتطور الكبير الذي عرفه عهده في العديد من المجالات والجوانب التي كان لها الأثر البالغ، والتأثير الكبير، في حياة وتاريخ هذه الدعوة بشكل عام، وكيانها الاجتماعي بشكل خاص، حيث أعطى الدعوة شحنة جديدة، وقوة دفع ملحوظة في كل الميادين، فوسع دائرتها وخارطتها الحدودية، وانضمت له إلى جانب ذلك دفعات كثيرة من التلاميذ والأتباع، ومجموعات بشرية هائلة تحتمي بحماه وتأتمر بأوامره، مع اتحاد تام، وانسجام كلي حقيقي، فشكل ذلك بالجملة إضافة نوعية يحسب لها حسابها. 6. تحول مجتمع الدعوة الأبييرية إلى كونفيدرالية قبلية، وفي هذا القسم الخامس من هذا المحور ذكر المؤلف أن الدعوة بعد الشيخين أبييري، وابنه امرابط مكة، عرفت انقساما داخليا على مستوى الهيكلة أو البنية التنظيمية، إذ كانت المرجعية في فترتهما مرجعية فردية واحدة، ثم تحولت بعدهما المرجعية إلى مرجعية جماعية، أو مرجعيات مختلفة التنظير والتفكير، متمثلة فيما يعرف بجماعة الشورى، أو أصحاب الحل والعقد، الذين أصبحوا يديرون مهام وشؤون المجتمع خلال المراحل اللاحقة المتواصلة، انطلاقا من الخلفيات العشائرية، حيث صار كلٌّ منهم يتمتع بزعامة خاصة به، على مستوى فصيلته، بحكم اعتماد كل مجموعة على حدة لشخص من شخصياتها الوازنة لزعامتها، يمتلك مؤهلات قيادية معينة، وذلك حسب معايير وضوابط معروفة، من دون أن يكون هناك أي تفويض كلّي ومطلق لشخص بعينه، فتراجعت القيادة الفردية بشكل نهائي، وبذلك تفككت الدعوة من حيث القيادة والتنظيم، وأصبحت مجتمعا قبليا متوزعا بحسب الولاآت والمصالح. 7. حالة مجتمع الدعوة الأبييرية في ظل الدولة الحديثة، دخل المستعمر الفرنسي بلاد البيضان، بعد دراسة معمقة لطبيعة ساكنتها، وتجلى ذلك في سياسته التي تركزت مند البداية على السيطرة على "قبيلة أولاد أبييري" باعتبارها تشكل نقطة التقاءٍ بين طرفي الزوايا، أصحاب المقاومة الثقافية، أو السلطة المعنوية، وحسان أصحاب المقاومة العسكرية، أو السلطة المادية، فوجد فيها الخيار الاستراتيجي الذي يمكن أن يجتمع ويلتئم حوله الجميع، وكان من نتائج ذلك أن كان أول رئيس موريتاني من هذه القبيلة، إلا أن هذه الأسبقية في الريادة على الصعيد المحلي، خلقت عقدة معينة منذ انقلاب 1978م ضد هذه القبيلة المسالمة بطبيعتها، فصارت منذ ذلك الوقت تُعامل من لدن السُلط الموريتانية المتعاقبة بازدواجية المعايير والكيل بمكيالين، وإن كان الرئيس الحالي محمد بن عبد العزيز إلى حدَ ما استثناء من تلك القاعدة، إذ لكل قاعدة استثناء. 8. أبرز مراكز وتجمعات مجتمع الدعوة الأبييرية الإصلاحية، وفي القسم السابع استعرض المؤلف محطات جد هامة من تاريخ قبيلة أو مجتمع مؤسس هذه الدعوة الإمام أبييري، وذكر أن لها تواجدا في دول المنطقة المغاربية بنسب معتبرة، خصوصا المغرب والجزائر، ففي جنوبالجزائر مثلا، وتيندوف تحديدا، تشكل نسبة معتبرة من الساكنة، ولها نفوذ قوي وتأثير كبير في الدولة الجزائرية، حتى أنها ممثلة في البرلمان الجزائري، وفي كثير من دوائر السلطة بهذه الدولة، ويقال لها في تلك الناحية: "أهل أبييري"، وفي المغرب وخاصة الأقاليم الجنوبية، تُصنّف ضمن دائرة "مجموعة قبائل الجنوب"، التي صنَفتها اسبانيا إحدى المجموعات الصحراوية الرئيسية، ورئيسها الآن بالوكالة من أولاد أبييري، ومنها شخصيات قوية عديدة في الدولة المغربية، مثل: الدكتور حرمة الله موسى الذي كان من أبرز رجالات الداخلية المغربية طيلة عهد الملك الراحل الحسن الثاني طيب الله ثراه، ومثله سفير المملكة خلال العهد الحالي في أكثر من دولة إفريقية عبد الله بن ابوه الملقب: "البرزاني"، وكذلك محفوظ بن التراد مكلف بمهمة لدى القصر الملكي بالرباط، وأحمد بن ابينْ ضابط سامي في الشرطة، والأستاذ إبراهيم بن محمد زينِ مدير في التعليم، ومجموعة كبيرة من رجال الأعمال، من أمثال: محمد بن بُكّاه، ومحمد يحي بن العاقل، وأحمد بن محمد جدو، وسيدي محمد بن أبي المعالي .. وغيرهم كثير، ناهيك عن مجموعة الأطر السامية الوازنة المنتمية لأسرة: "أهل ابّحاج" الأبييرية القديمة في المنطقة، والتي منها على سبيل المثال في الوقت الراهن وكيل صاحب الجلالة على مستوى طنجة، وغيره كثير؛ إلا أن أكبر وأكثر كمَ من هذه القبيلة يتواجد بموريتانيا المعروفة تاريخيا ب"بلاد شنقيط"، التي تضم مراكز وقُرى وحواضر كثيرة جدا لهذه القبيلة المعقلية الكبيرة المحترمة، غير أن أبرز مراكز هذا المجتمع هو مدينة "بُتلميت" التي توسطت المجال الجغرافي الأبييري الذي أطلق عليه في الاصطلاح القديم اسم "ازريبة" أو الحظيرة، فقد ظلت هذه المدينة التاريخية الحاضرة العلمية، والمركز التجاري والسياسي الأكبر، للدعوة الأبييرية، وكيانها الاجتماعي العظيم، وإن كانت مدينتهم الرئيسية، ما زالت تعاني من ويلات المحاصرة والتهميش، لدرجة أنها في العهد الماضي أقبلت عليها أميرة قطر السيدة "موزه" بمكرمة جليلة، حيث أرادت أن تغير البنية التحتية لهذه المدينة التاريخية، فوقفت السلطة حينذاك دون إنجاز هذا المشروع، حتى لا تتقدم هذه المدينة التي يراد لها فيما يبدو أن تندثر لا قدر الله. 9. الخاتمة، أما الخاتمة فإنه لخص فيها المؤلف رؤية ومنهج هذه الدعوة الإصلاحية المباركة، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.