الاتحاد الأوروبي يمنح المغرب 190 مليون أورو لإعادة بناء المناطق المتضررة من زلزال الحوز    الوالي التازي يترأس لجنة تتبع إنجاز مشروع مدينة محمد السادس "طنجة تيك"    السكوري يلتقي الفرق البرلمانية بخصوص تعديلات مشروع قانون الإضراب    تعزيز وتقوية التعاون الأمني يجمع الحموشي بالمديرة العامة لأمن الدولة البلجيكية    الرجاء والجيش يلتقيان تحت الضغط    في سابقة له.. طواف المسيرة الخضراء للدراجات النارية يعبر صحراء الربع الخالي        الإنترنت.. معدل انتشار قياسي بلغ 112,7 في المائة عند متم شتنبر    المدعو ولد الشنوية يعجز عن إيجاد محامي يترافع عنه.. تفاصيل مثيرة عن أولى جلسات المحاكمة    ارتفاع كمية مفرغات الصيد البحري بميناء الحسيمة    لاعبتان من الجيش في تشكيل العصبة    "الهاكا" تواكب مناهضة تعنيف النساء    لفتيت: مخطط مكافحة آثار البرد يهم 872 ألف نسمة في حوالي 2014 دوارا    تكريم منظمة مغربية في مؤتمر دولي    المغرب يفقد 12 مركزاً في مؤشر السياحة.. هل يحتاج إلى خارطة طريق جديدة؟    ليبيا: مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي يجدد التأكيد على أهمية مسلسلي الصخيرات وبوزنيقة    غرق مركب سياحي في مصر يحمل 45 شخصاً مع استمرار البحث عن المفقودين    حموشي يستقبل المديرة العامة لأمن الدولة البلجيكية بالرباط    "البيجيدي": الشرعي تجاوز الخطوط الحمراء بمقاله المتماهي مع الصهاينة وينبغي متابعته قانونيا    ريال مدريد يعلن غياب فينسيوس بسبب الإصابة    «الأيام الرمادية» يفوز بالجائزة الكبرى للمسابقة الوطنية بالدورة 13 لمهرجان طنجة للفيلم    في لقاء عرف تفاعلا كبيرا .. «المجتمع» محور لقاء استضافت خلاله ثانوية بدر التأهيلية بأكادير الكاتب والروائي عبد القادر الشاوي    تكريم الكاتب والاعلامي عبد الرحيم عاشر بالمهرجان الدولي للفيلم القصير بطنجة    انعقاد مجلس للحكومة يوم الخميس المقبل    بعد رفض المحامين الدفاع عنه.. تأجيل محاكمة "ولد الشينوية"    الشرطة توقف مسؤولة مزورة بوزارة العدل نصبت على ضحايا بالناظور    استئنافية فاس تؤجل محاكمة حامي الدين إلى يناير المقبل    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    العالم يخلد اليوم الأممي لمناهضة العنف ضد النساء 25 نونبر    بورصة البيضاء تفتتح تداولات بالأخضر    صنصال يمثل أمام النيابة العامة بالجزائر    أرملة محمد رحيم: وفاة زوجي طبيعية والبعض استغل الخبر من أجل "التريند"    منظمة الصحة: التعرض للضوضاء يصيب الإنسان بأمراض مزمنة    تدابير للتخلص من الرطوبة في السيارة خلال فصل الشتاء    "الكاف" يقرر معاقبة مولودية الجزائر باللعب بدون جمهور لأربع مباريات على خلفية أحداث مباراتها ضد الاتحاد المنستيري التونسي        إيرادات فيلمي "ويكد" و"غلادييتور 2″ تفوق 270 مليون دولار في دور العرض العالمية    أسعار الذهب تقترب من أعلى مستوى في ثلاثة أسابيع    تقرير: جرائم العنف الأسري تحصد امرأة كل عشر دقائق في العالم    مدرب مانشيستر يونايتد يشيد بأداء نصير مزراوي بعد التعادل أمام إيبسويتش تاون        استيراد الأبقار والأغنام في المغرب يتجاوز 1.5 مليون رأس خلال عامين    تقرير : على دول إفريقيا أن تعزز أمنها السيبراني لصد التحكم الخارجي    مهرجان الزربية الواوزكيتية يختتم دورته السابعة بتوافد قياسي بلغ 60 ألف زائر    6 قتلى في هجوم مسلح على حانة في المكسيك    أونسا يوضح إجراءات استيراد الأبقار والأغنام    تحالف دول الساحل يقرر توحيد جواز السفر والهوية..    تصريحات حول حكيم زياش تضع محللة هولندية في مرمى الانتقادات والتهديدات    الإمارات تلقي القبض على 3 مشتبه بهم في مقتل "حاخام" إسرائيلي    جدعون ليفي: نتنياهو وغالانت يمثلان أمام محاكمة الشعوب لأن العالم رأى مافعلوه في غزة ولم يكن بإمكانه الصمت    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة        كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من أئمة الاصلاح بشمال المغرب : الإمام أبو القاسم ابن خجو
نشر في تطوان نيوز يوم 02 - 01 - 2013

إن الأسئلة المتعلقة بالإصلاح الاجتماعي و مقاومة بؤر الفساد و الدعوة إلى اقتحام دوائره في المجتمع المغربي ليست قضية حديثة مرتبطة باللحظة الراهنة ، و إنما كان لها امتداد عميق لدى النخب المثقفة المغربية سواء في الماضي القريب أم البعيد ، فتراثنا الاجتماعي غني بالحديث عن أقطاب الفكر و التشريع الذين كانوا يحملون هموم الإصلاح ، و يعيدون في فترات مختلفة
طرح الأسئلة القديمة الحديثة عن ضرورة محاربة الفساد الاجتماعي و التعبئة لمواجهة اختلالات في اطار آلية الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، و ممارسة وظيفة الحسبة على المجتمع التي تم إرساؤها من خلال نصوص الشريعة و الفقه . و من جملة هؤلاء الأعلام المصلحين الذين نعتبرهم بصفة نوعية روادا في هذا المجال ، مفتي البلاد الغمارية و الهبطية كما تصفه كتابات القرن العاشر الهجري الإمام المصلح أبو القاسم بن علي بن خجو المتوفى بفاس سنة 956ه الموافق 1549م .
لقد نشأ أبو القاسم و عاش ببلدة قريبة من مدينة شفشاون من شمال المغرب ، و تحديدا بموطنه المسمى مدشر السعادة من قبيلة بني حسان إحدى قبائل بلاد غمارة ، تثقف في البدء على يد النخبة العلمية بموطنه ثم انتقل بعدها إلى فاس ليستكمل تكوينه على يد مشايخها الكبار ، لكن شخصيته الإصلاحية التي كانت قد تشكلت في اطار اختيار المغاربة القائم على ثلاثية الفقه المالكي و عقيدة الأشعري و تصوف الجنيد ، جعلت منه نموذجا حيا للمثقف المغربي و الناقد الاجتماعي التي شغلت قضايا الإصلاح حيزا كبيرا من اهتمامه ، فعمت شهرته الآفاق لأجل ذلك ، و اشتهر عنه شدة شكيمته في الحق و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر مما حدا بالسلطان السعدي محمد المهدي دعوته إلى فاس عقب انتصاره على الوطاسيين قصد التعرف عليه و تمكين الناس و المجتمع العلمي من الانتفاع به ، ثم قال في حقه قولته الشهيرة : ما رأيت ممن رأيت أفضل من هذا الرجل علما و صلاحا (1). لقد استطاع أبو القاسم بعزيمته الإصلاحية أن يبلور مع رفيق دربه شيخ المتصوفين و إمام وقته سيدي عبد الله الهبطي (ت963ه/1556م) ثنائيا إصلاحيا تكاملت من خلاله أدوار الفقه و التصوف و كون في فترة وجيزة تيارا قويا ضد الفساد و المفسدين ، و مشروعا إصلاحيا عميق التأثير بمنطقة غمارة و الهبط ، كانت من نتائجه تحول الأوضاع الاجتماعية رأسا على عقب، و هي أوضاع كانت تعاني الكثير من مظاهر الفساد و انحلال القيم الاجتماعية لتردي أحوال الناس بسبب تكالب القوى الخارجية و الداخلية عليهم وغلبة الجهل كما يصف ذلك بإيجاز ابن عسكر في كتابه دوحة الناشر(2) . و يهمنا أن نتطرق للمشروع الإصلاحي الذي تحمل أعباءه هذا الرجل ، و كيف كانت تدخلاته على مستوى مقاومة أشكال الفساد المستشرية في مجتمعه بشمال المغرب ؟ و نود في الورقة الراهنة ان نقتصر فقط على الجانب المتعلق من هذا المشروع بموقف ابن خجو من الخطر الاجنبي في عصره و الذي كان يهدد بالاستيلاء على المغرب و باقي دول شمال افريقيا و القضاء عل الوجود الاسلامي بها .
و في أفق إعطاء إجابة مقاربة حول الموضوع ، يبدو من الأنسب أن نقدم صورة عن الإطار العام الذي يرسم لنا ملامح ما يمكن ان نسميه بالأساس المنهجي المؤطر لمشروع الإصلاح لدى أبي القاسم.
أولا الاساس المنهجي
لمشروع ابن خجو في مجال الإصلاح
نعم، و نحن نتعرف على الاساس المنهجي الذي انبنى عليه مشروع الإصلاح لدى الإمام ابن خجو و استجلاء المرجعية العامة لتوجهه الإصلاحي ، لابد من تأكيد أن الأمر يتطلب منا الكشف عن أهداف هذا المشروع مرتبطة براهنيتها أولا ، ثم بالتالي عن أداته الإجرائية التي توسل بها في تحقيق تلك الأهداف . ففيما يتعلق بالشق الأول أي الأهداف ، فإن مختلف الفتاوى الموزعة في بطون كتب النوازل و الأعمال الفكرية التي تمثل تراث الرجل (3) ، وتدون جانبا من تفاصيل مشروعه المتحدث عنه ، تؤكد لنا تركيزه على أهم القضايا ذات الأولية التي كانت تشغل بال النخب المغربية في القرن العاشر الهجري أي السادس العشر الميلادي ، في مقدمتها قضيتان محوريتان : مسألة مقاومة الأطماع الخارجية و ما نشأ عنها من تداعيات و تحديات ثم مسألة مقاومة المفاسد المجتمعية الناشئة عن انحلال السلوك الاجتماعي .
أما عن الأداة الإجرائية ، فقد كانت تنطلق من موقع العالم التي تحتم عليه مسؤوليته الاجتماعية ممارسة دور الحسبة في صيانة قيم المجتمع ، و مراقبة سلوكه و التصدي لكل ما يمكن أن ينشأ عنه من انحرافات و مفاسد. كل هذا كان يمارس في ظل وجود نزعة السنية شديدة لدى الرجل رافضة لكل أشكال البدع التي من المفروض أن تحيد بأحوال الناس عن المثال الاجتماعي الذي تم إرساؤه من خلال نصوص الشرع. الشيء الذي كرس لدى الإمام حسا نقديا بامتياز ، و جعل منه امتدادا للحركة الإصلاحية النقدية التي بدأت مع الإمام الشاطبي و الإمام سيدي احمد زروق و أئمة آخرين كابي العباس أحمد الونشريسي و غيره .
يضاف إلى هذا ، أن ابن خجو جعل من ممارسة الاجتهاد المقيد بأصول المذهب عدته في مواصلة مشروعه من اجل التقويم و الإصلاح ، و بالتحديد الاجتهاد المقيد بالعمل بما استقر عليه الرأي عند من تقدمه من أعلام المذهب سواء الأندلسيين منهم أو المغاربة الذين توسعوا في الأخذ بما جرى به العمل في ضوء ما يتحقق من المصالح ، و بخاصة بالعرف المحلي في المسائل التي وقع فيها الخلاف درءا لمفسدة أو جلبا لمصلحة ، و كل ذلك في اطار عقلية دينامية تجعل من هذا الاجتهاد عملية تراعي تطور الأوضاع الاجتماعية، بناء على قاعدة "تغير الأحكام بتغير الأزمان "، و هي قاعدة مرنة مكنت فقهاء التشريع المغربي المتمثل في فقه النوازل من مواكبة التحولات الاجتماعية ، واستنباط ما يتناسب من الأحكام لما استجد من قضايا متأثرة بظروف زمنها. فابن خجو المصلح لم يخرج عن هذه الإجرائية في إطلاق الفتاوى و تنزيل الحلول التي تعتمد الأخذ بالعرف بل و التوسع في تحكيمه طبقا لما يحقق من مصلحة ، تلك المصلحة التي كانت تعتبر عنده هي جوهر الشريعة ، و إعمالا للسنة و حماية لها . إذن ، فهذه المنهجية أو الخطة في العمل هي التي سنجدها تؤطر مشروعه في الإصلاح مفعلا إياه عبر الفتاوى و الاختيارات التي مال إليها في سياق الترجيح بين أقوال الأئمة و مشاهير علماء المذهب في مواجهة النوازل الذي افرزها الوضع الاجتماعي المتأزم بمنطقته سواء أكانت تلك النوازل من النوع العادي أم الإستراتيجي ذي الطابع العام التي يروم حماية أمن المجتمع و تثبيت استقامته و صلاح أحوله .
و لننظر الآن كيف تعامل إمام البلاد الغمارية و مفتيها المصلح المتصوف أبو القاسم ابن خجو مع قضايا الإصلاح الكبرى التي كانت تفرض نفسها بقوة على النخب العلمية و الروحية خلال فترة القرن العاشر التي اعتبرت في التاريخ السياسي و الاجتماعي للمغرب من اشد الفترات حرجا و خطورة . و لنبدأ بالحديث عن موقفه من مسألة مقاومة الأطماع الأجنبية و ما تولد عنها من تداعيات سلبية على حياة الناس .
ثانيا الإمام ابن خجو
و مسألة مقاومة الأطماع الأجنبية
عاش ابن خجو في فترة عصيبة جدا من تاريخ المغرب عامة و تاريخ شماله بصفة خاصة الذي فرضت عليه جغرافيته المجاورة لبلاد الأندلس و شبه الجزيرة الإبيرية الكثير من الحذر و التعبئة و يقظة الدائمة وسط نخبه الفكرية و السياسية و ذلك لمواجهة المؤامرات و المشاعر الدينية التي كانت تتأجج هناك ضد الإسلام ، بل و تخطط من اجل الاستيلاء على أرضه و القضاء على الوجود الإسلامي به بعد سقوط الأندلس ، و لا شك أنه واكب في هذه الفترة كغيره من أعلام المغرب ضعف الدولة المرينية و تأزم الوضع السياسي و الاجتماعي بانتقال السلطة إلى الوطاسيين من وزراء بني مرين الذين كانوا من الضعف بحيث لم يستطيعوا الوقوف أمام أطماع قوة البرتغال ثم الإسبان الذين شرعوا بالتدريج في الاستيلاء على الثغور و السواحل المغربية بمباركة من باباوات الفاتيكان (4) و لقد خلف هذا الوضع الخطير الناجم عن ضعف السلطة المركزية أمام القوات الغازية التي كانت تحمل مشروعا توسعيا و عقائديا من اجل تمسيح المغرب ، مضافا إليه انتشار حالات الجهل و قلة التعليم بين القبائل أن تفشت العديد من مظاهر الفساد و الانحلال لدى ضعاف النفوس من أخطرها ظهور الردة بين الناس بتحولهم عن الإسلام ، من بين هؤلاء المرتدين الذين ذكرهم ابن خجو في فتاويه من كان يسمى بالتركي و الدهداه و مصباح و عبد النور (5)، و اتساع دائرة الاختلاط مع الأجنبي عبر الأنشطة التجارية لدرجة أن بعض الأهالي بالقبائل المجاورة للمدن المحتلة مثل سبتة و طنجة أصبح عميلا للأجانب يقدم لهم المعلومات الاستخبارتية و يتجسس ضد حركة الجهاد التي كان يقودها بعض الزعماء المحليين (6) مثل بني راشد أمراء الجهاد في شفشاون ، كما انتشرت أيضا الأعمال غير المشروعة للقرصنة البحرية و البرية ضد التجار الأجانب ، و لا شك أن هذه الأحداث و غيرها شكلت بالنسبة للإمام ابن خجو تحديا قويا كي يتحرك من موقع مسؤوليته الدينية و الوطنية لمحاربة هذه المفاسد و التحريض ضد الخطر الخارجي الداهم ، و قمع دابر الفتنة التي اشتدت مع توغل البرتغاليين داخل البلاد و الشروع في تثبيت نفوذهم و نسج علاقات لهم مشبوهة مع القبائل بالمنطقة . و هو ما سنلاحظه بالذات حينما حوّل الإمام أبو القاسم نشاطاته في مجال العمل الاجتماعي و الفكري إلى حركة قوية تدعو إلى تصحيح الأوضاع ، و نقد السلوكات المنحرفة التي بدأت تستشري في أوصال مجتمع البادية (7) ، بل سنلاحظ كيف أنه سيحول كل منظومة التواصل الاجتماعي عنده بأدواتها المختلفة إلى أداة لخدمة مشروعه الإصلاحي المتحدث عنه . تلك المنظومة التي كانت تتشكل من نشاطات مختلفة تتوزع بين التدريس و الوعظ و الإرشاد ، و بين حملات التوعية و الرفع من مستوى اليقظة من خلال الجولات التي كان يقوم بها بين القبائل ، و عبر العديد من المراسلات التي كان يبعث بها إلى أعيان القبائل و علمائها يستنهض فيها عزائمهم و يذكرهم بمسؤوليتهم الدينية و الوطنية التي تمليها المرحلة . فضلا عن الفتاوى العلمية و أعمال التأليف التي كان يصدرها من كتب و منظومات و قصائد شعرية في وصف البدع و التحذير من مغبتها (8) . بل ، سنجد أن ابن خجو جعل من نشاطه الإصلاحي عملية واسعة للتنسيق مع أهم الرموز الشهيرة للنخبة الروحية و العلمية بمنطقة غمارة ، من بينها أسماء لامعة تردد ذكرها في بعض مراسلاته التاريخية التي كان يشرف على تحريرها في سياق بعث الهمم و الرفع من مشاعر اليقظة و التعبئة ، نذكر منها على وجه الخصوص الإمام العارف بالله سيدي عبد الله بن محمد الهبطي، و العلامة الخطيب سيدي الحسن بن عرضون، والفقيه سيدي سلام بن الحسن، والعلامة النوازلي سيدي ابا عمران موسى الأغصاوي الوزاني و الولي الصالح العلامة سيدي علي الحاج البقال المدرسني و العلامة الولي الصالح سيدي عبد الوارث اليالصوتي ، فقد كان هؤلاء و غيرهم من اعلام الزاوية الريسونية و شرفاء العلم هم طليعة البلاد الغمارية الذين تحملوا مع إمامنا ابن خجو أعباء هذه الفترة من تاريخ المنطقة بكل أهوالها و تحدياتها ، فإلى هؤلاء من سادات الدين و التقوى و رواد الصلاح كان يبعث بخاطباته فيما يذكره عنه حفيده من ابنته العلامة أبو العباس أحمد بن عرضون مؤكدا عليهم أن ينفقوا مما رزقهم (( الله من نعم الحياة في تحريض ولاة المسلمين على إعانة أهل الثغور بالرجال من كل قبيلة ، ومن حومات الحواضر بزادهم و أسلحتهم ، بالنوبة التي لا ضرر معها ليحصنوا الأطراف ويكثروا سواد أهلها بالرماة وأنواع الرجال ، إذ لا مشقة على الولاة في ذلك )) (9) .
و يبدو انه كان رافضا لكل اشكال الفساد الاداري و السياسي على مستوى ادارة شؤون البلاد خاصة فيما يتعلق بالقضية الوطنية الكبرى المتصلة بمصير البلاد امام الغزو الاجنبي و التعبئة للجهاد والمقاومة ، فقد كان ناقما عى تقاعس الولاة في هذه الفترة من حكم الوطاسيين عن القيام بواجبهم الوطني الذي كانت تمليه المخاطر المحدقة بالأمة . لذلك كان لا يتوقف عن معاتبتهم لهذا السبب ، و يسجل بأسلوب فيه كثير من النقد و الانكار امتعاضه بمثل قوله : إذ لا مشقة على الولاة في ذلك ، ولا يفتقرون فيه سوى إلى تحريك اللحية و اللسان، لكنهم بخلوا على أنفسهم و على المسلمين بالمصالح التي فيها عز الدين ، و تمذهبوا بمذهب الغافلين السامدين، فاجتهدوا وفقكم الله والسلام عائد عليكم ورحمة الله والبركة )) (10) . و بالرغم من هذه المعاتبات و الانتقادات التي مافتئ يوجهها لاستنهاض عزيمة الجهات التي بيدها صلاحية القرار في شأن قيادة عملية التحرير لاسترجاع الثغور المسلوبة ، إلا انه أيضا لم يكن ليبخل في القيام بواجب النصح و الإرشاد تجاه السلطان الذي كان في معتقده يمثل أعلى سلطة شرعية و سياسية في البلاد مذكرا إياه بالمسؤوليات الجسيمة الملقاة على عاتقه في مقدمتها توسيع دائرة التعليم بين حاشيته ، و النهوض بالأوضاع العلمية لما فيه مصلحة الامة ، و كذلك تقوية الجانب الاقتصادي عن طريق تكثير الحرث و أنواع الفلاحات و التجارات فضلا عن العدة العسكرية و تكثير الجيوش على اعتبار ان ذلك هو الاداة الحاسمة في مغالبة العدو مهما اختلفت طبيعته . و لاشك ان العدو في نظر ابن خجو لم يكن ينحصر فقط في الخطر الاجنبي او العدو الخارجي و لكن الاخطر من ذلك العدو الداخلي أو الذاتي الذي يشمل ايضا جشع النفس و نزواتها و طغيانها و غفلتها التي تزيغ في كثير من الاحيان بصاحبها كي يصبح من لوبيات الفساد و اكابريها ، و هناك ايضا ضلالات الشيطان و أنواع الخوارج و المبتدعين المخالفين . و على السلطان ان يكون حذا من كل هؤلاء الاعداء و القوى المناوئة ، و يعد العدة لمواجهتها عملا بقوله تعالى : (( و اعدوا لهم ما استطعتم من قوة و من رباط الخيل ترهبون به عدو الله و عدوكم و اخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم )) (11) .
لذلك نجده يوصي اعلى سلطة في البلاد بقوله : (( و للسلطان وفقه الله و نصره أعداء . و أحد الأعداء الجهل ... حيث يجب عليه ان يرفع الجهل عن نفسه و عن رعيته بسيف العلم . أما العدو الثاني : فهو الشيطان الذي يجب مجاهدته أيضا بسيف العلم و أنفاظ اليقين و بارود المخالفة . و العدو الثالث : هوى النفس ، بل هو في الحقيقة العدو الثاني فيجب محاصرته بالعلم و تكثير الحرث و أنواع الفلاحات و التجارات ... اذن ، يجب على الأمير وفقه الله و نصره و كل من ولاه الله عليه من نفسه و رعيته ان يوقظ نفسه و يوقظ رعيته و يسقيهم كؤوسا من العلم ليصحوا من شدة الغفلة . و يلزم كل قادر مؤهل لركوب الفرس باقتنائه ،و من لا يقدر على شراء الفرس و اقتنائه يجبر على اقتناء ما يستطيع من العدة لتكثير جيوش المسلمين لعزة الدين و إهانة الكافرين و أنواع المجرمين ، و الله سبحانه هو الموفق إلى الصواب (12).
و من ناحية ثانية ، فان الإمام ابن خجو في هذه الفترة التي ازداد فيها الضغط العسكري الخارجي على المغرب ، كان قد أصبح من دعاة المقاومة الشعبية و المحرضين عليها ، و هي مقاومة كان قد اتسع نطاقها بين القبائل بفضل مواقفه القوية في الدعوة إلى وجوب حماية الثغور ، كما حظيت بتأييد الشرفاء و العلماء و أهل الصلاح بالمنطقة بعد ما تبين تقاعس السلطة المركزية للوطاسيين عن قيادة الجهاد ضد الأطماع الأجنبية ، و من كلام ابن خجو يتضح لنا كيف كانت تلك المقاومة تعتمد على نظام التناوب بين أفراد القبائل و توزيع الأدوار و تقاسم المسؤولية بين المدن و البوادي ، إذ كان على أهل البوادي أن ينتدبوا الرجال القادرين على تحمل أعباء الجهاد ، بينا كان على أهل المدن أن يوفروا الدعم اللوجيستي بتوفير الطعام و الزاد و الأسلحة. و هذا التوزيع في الأدوار بين البادية و المدينة الذي ترسخ مع الأيام لمواجهه أعباء الجهاد و حماية الوطن هو ما كان الإمام يلح عليه من خلال مراسلاته و فتاويه و نشاطه العلمي ، بل و يدعو الى إعطائه كامل العناية حتى تتحصن أطراف البلاد ويكثر سواد أهل الثغور بالرماة وأنواع المجاهدين و الرجال .
و من القضايا الهامة التي ظلت عل ارتباط قوي بحركة الجهاد و مقاومة الاجنبي مسالة اسرى المسلمين الذين كانوا يقعون بين ايدي القوات الغازية ، خصوصا بعد ان قويت شوكة العدو و تمكن من التغلغل داخل التراب الوطني و الاستيلاء على الكثير من المواقع الاستراتيجية بالبلاد . كذلك المتاجرة معه عن طريق بيع السلاح او المواد التي قد تستخدم في صناعة السلاح ، فإن مثل هذه القضايا ظلت تشكل محور اهتمام ابن خجو و تستبد بانشغاله كباقي النخبة العملية و الاصلاحية بمغرب القرن السادس عشر ، يتضح ذلك بالرجوع الى رسم الفتوى التي كتبها بمؤازرة رفيقه في الاصلاح الشيخ المجدد و غزالي زمانه سيدي ابي محمد عبد الله الهبطي ومما اشتمل عليه هذا الرسم: أن من ارتكب معصية يؤخذ منه مقدار من المال ويصرف في فداء الأسرى وسد الثغور. وكانا يطوفان على القبائل صحبة بعض الفقهاء، كالفقيه موسى الوزاني، والفقيه أبي علي الحسن بن عرضون، يأمرون رؤساء القبائل بأخذ المغرم لصرفه في الغاية المذكورة (13) . وقد كتبا في شأن ذلك إلى السلطان محمد السعدي وهو نازل بوادي سبو قبل دخوله فاس، فأقرهما ورضي بفتواهما ، و قد كانت اجتهادا من ابي القاسم اعتمادا على فتوى الفقيه النوازلي التونسي الامام ابي القاسم البرزلي (ت841ه/1438م) التي كان قد انتشر العمل بفتاويه (( جامع مسائل الاحكام )) على صعيد المغرب العربي خلال القرن السادس عشر .
ثالثا الإمام ابن خجو
و حملته ضد تفشي ظاهرة الردة
ظاهرة الردة و خلع ربقة العقيدة اعتبرت في تلك الفترة من الظواهر الخطيرة التي أفرزتها الظروف الاجتماعية و الاقتصادية و الأخلاقية البئيسة التي رافقت تغلغل القوات الأجنبية بالمناطق المجاورة للمدن المحتلة في عصر ابن خجو ، و لعلها تعود إلى أسباب منها انتشار الفقر الناشئ عن الركود الاقتصادي ، و الإحساس بالهزيمة نتيجة سقوط الاندلس و ضعف الدولة المغربية و تراجعاتها في الميادين المختلفة مقارنة مع ازدياد قوة البرتغال و الإسبان و التطور النوعي في المجال الاقتصادي و الاجتماعي الذي حصل في العالم المسيحي و بشبه الجزيرة الإبيرية على الاخص . و مع أن هذه الظاهرة ظلت محدودة و غير مؤثرة في عقيدة المجتمع إلا أنها كانت تفجر أحيانا أسئلة الرأي العام و سرايا المجاهدين خصوصا أن بعض المرتدين تحول إلى عبء إضافي في مجال الصراع العسكري ، كما أصبحوا قوة ضاربة بدأ العدو يستعين بها في تنفيذ خططه للاستيلاء على المغرب ، و هذا النوع من الأسئلة أو الانشغالات هو ما يمكن ان نلمسه من خلال بعض الفتاوى الصادرة عن الإمام في سياق حملته ضد هذه الآفة ، و التي جاء فيها : (( و سئل الشيخ الصالح أبو القاسم بن خجو رضي الله عنه عن أناس ارتدوا و العياذ بالله و صارت منهم إذاية على المسلمين ، ما حكم الله تعالى إن ظفر بهم . فأجاب : من ارتد من المسلمين و صار إذاية ... فالصواب في حق من ظفر بهم ، و تمكن من أسرهم أن يرفعهم إلى السلطان وفقه الله و نصره ليجعل في شأنهم ما توجبه الشريعة المحمدية التي عليها قتالنا مع النصارى الذين هم إخواننا من أبينا آدم و أمنا حواء عليهما السلام . و من رجع منهم إلى الإسلام و اقر لله سبحانه بالوحدانية و للرسول محمد صلى الله عليه و سلم بالرسالة و لجأ إلى حرمة الإسلام فلا يقتل ... )) (14).
لقد كان المشروع الإصلاحي عند ابن خجو يقوم على أن السلطة العليا في البلاد هي التي من شانها البت في قضايا الردة و غيرها من القضايا الشائكة ذات الطابع الأمني و السياسي ، و ذلك حتى لا ينزلق الوضع إلى نوع من الفوضى ، و يخرج المجتمع عن حد الانضباط و النظام ، لذلك نجده من جهة أخرى يجعل من مهام السلطان الذي إليه الحل و العقد : (( أن يطلق البريح ببادس و تطوان و القصر و العرائش وسلا و كافة الثغور : أن من يغنم مرتدا كالدهداه و مصباح و عبد النور و غيرهم من المتنصرين فلا يقتله و ليرفعه إلى السلطان . و إن رجع إلى الإسلام فليس عليه إلا الأمان ، و ليشهر ذلك عند الكل ممن يباشر الجهاد، و يبلغ خبر ذلك إلى المتنصرين عسى ان يكون ذلك لهم سبيلا للرجوع إلى دار المسلمين و يصيروا من جملة الموحدين () .
تلك كانت بعض رهانات المشروع الاصلاحي في محاربة الفساد الاجتماعي للإمام ابي القاسم ابن خجو مصلح البلاد الغمارية و الهبطية كما وصفته وثائق القرن العاشر الهجري . و هو في حاجة الى دراسات جادة من اجل الكشف عن تفاصيله المختلفة ، و كملاحظة اولية فهو مشروع رام من خلاله صاحبه المساهمة الى جانب نخب زمانه في اعادة ترتيب الاوضاع المتداعية بمنطقة شمال المغرب و ما تميزت به تلك الاوضاع من ظروف عصيبة . و قد حاولنا بكيفية مختصرة العمل على انارة بعض من ملامحه في اتجاه التأكيد على انه مشروع اندرج بالدرجة الاولى ضمن اولية الصراع من اجل بقاء المغرب داخل منظومة الحضارة و الهوية الاسلامية ، كما يكشف من جهة ثانية ما كان للعلماء و رجال الفكر من دور في استنهاض الهمم و حماية المكتسبات الوطنية في زمن كانت احوال المغرب قد تردت بشكل خطير ، و اشتدت فيه الاطماع السياسية للجوار المسيحي للحد الذي لم يعد فيه للأمة و نخبها من مصلحين و علماء و اشراف و ساسة إلا خيار المقاومة و التعبئة لمضاعفة الجهاد و الرفع من مستوى اليقظة و الاستعداد للتضحية من اجل مقدسات البلاد ..
انظر دوحة الناشر لمحاسن من كان بالمغرب من مشايخ القرن العاشر لابن عسكر ص 13 .
2 انظر المصدر السابق .
3 الكثير من هذه الفتاوى يمكن الوقوف عليها منقولة في نوازل العلمي الشفشاوني ، و نوازل عبد العزيز الزياتي ، و نوازل المهدي الوزاني المسمى المعيار الجديد، و كتاب الأجوبة و مقنع المحتاج لابن عرضون و غيرهما . كما خلف الرجل تراثا علميا قيما أهمه على الإطلاق كتابه المسمى ضياء النهار المجلي لغمام الأبصار، ما يزال مخطوطا بالخزانة العامة تحت رقم 1845 د ضمن مجموع . ثم شرحه لمسائل بيوع ابن جماعة ذكر فيه جملة من البدع الشائعة في عصره . انظر الحركة السياسية و الاجتماعية و الفكرية و بشفشاون و احوازها . للأستاذ عبد القادر العافية . ص 357 .
4 انظر محمد ابن عزوز حكيم في كتابه : سبتة : متى و كيف اغتصبتا اسبانيا .
5 انظر الجواهر المختارة فيما وقفت عليه من نوازل بجبال غمارة للزياتي ، ص40،41
6 انظر الجواهر المختارة ، ص 57 .
7 انظر في هذا الشأن فتاوى الإمام المنصوص عليها في الجواهر المختارة في القسم المتعلق بالجهاد .
8 انظر الحركة السياسية و الاجتماعية و الفكرية و بشفشاون و احوازها .
9 المرجع السابق .
10 الجواهر المختارة ، ص 41
11 سورة الانفال الآية 06
12 الجواهر المختارة ، ص 41
13 نوازل يحي بن عيسى العلمي ج3، ص 154 ، و انظر ايضا اجوبة التسولي . و المعيار الجديد للوزاني .
14 انظر المصدر السابق ، ص 41 .
ذ/ السعيد ريان ابو خير الدين
من علماء خريجي دار الحديث الحسنية
باحث في قضايا الشأن التربوي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.