وأنا أتجول في أزقة مدينة فاس العريقة بحثا عن مسارات العلم والعمران استوقفني –كعادتي منذ سنوات- الكُتبي الواضع كتبه أرضا بجوار جامع القرويين المبارك، بينه وبين مدرسة العطارين؛ فعثرت على عدد من أعداد مجلة دعوة الحق الغراء التي لا أضيع عددا من أعدادها القديمة أصادفه في أسواق المغرب أينما حللت وارتحلت، فأنا أعرف قيمة هذه المجلة ومن كتب فيها، ودورها في تدعيم العلم الأصيل ببلادنا. يتعلق الأمر بالعدد الثامن من السنة السابعة عشرة "أكتوبر 1976"، ولقد أثار انتباهي مقال للأستاذ الفاضل عبد القادر العافية يعرف فيه بالعلامة المفتي "الفقيه أبي القاسم بن خجّو الحساني الخلوفي"، أحد كبار علماء عصره، وقد كان في طليعة العلماء الذين وجه إليهم السلطان محمد الشيخ السعدي دعوته للاجتماع بهم بفاس، بعد فتحه لها سنة 956ه. قلت في نفسي كيف يكون علم من أعلام المغرب الكبار مغمورا إلى هذا الحد، وهو الذي عاصر أحداثا مفصلية في تاريخ المغرب الفكري والسياسي، وشارك فيها مشاركة فاعلة، فعقدت العزم على التنقيب على هذه الشخصية الفذة من أجل الإسهام في تعريف القراء الكرام بها عبر منبر ميثاق الرابطة، وعرفت أنه مترجم في "دوحة الناشر" لابن عسكر الذي هو تلميذه وفي غيره من المصادر القليلة. فجاء هذا المقال المركز حول سيدي أبي القاسم خجو بتوفيق من الله.. عاش أبو القاسم بن خجو في فترة عصيبة من تاريخ المغرب، وهي فترة أواخر العهد الوطاسي، ومرحلة ضعف الحكم العسكري وتعرض السواحل المغربية للاحتلال البرتغالي، كما شهدت هذه الفترة تدفق المهاجرين الأندلسيين تاركين وراءهم تاريخا وديارا وأموالا.. يقول عبد القادر العافية في مقاله المذكور (ص: 73): "بهذا يكون مترجمنا قد فتح عينيه على كوارث وطنية جسيمة خاصة وأن موطنه الذي ولد به قريب من هذه الأحداث الأليمة (....) ومما أذكى نار هذا الألم وضاعفه، سقوط المدن الساحلية المغربية بيد العدو الأجنبي الذي لم يكتف بطرد المسلمين من بلادهم بالأندلس بل حاولوا أن يغزو كل بلاد المسلمين بشمال إفريقيا، ولا شك أن هذه الأحداث الأليمة كان لها وقع على نفس المترجم، خاصة وأن المقاومة الشعبية المغربية قد نظمت نفسها وأخذت تعمل على طرد المغيرين الأجانب من الأماكن التي استولوا عليها كسبتة، وطنجة، وأصيلا، والقصر الصغير... ينتسب الشيخ أبو القاسم بن علي بن خجو الحساني الخلوفي إلى أسرة عريقة من بني حسان بجبال غمارة قرب مدينة شفشاون حرسها الله. واشتهرت أسرة صاحبنا ابن خجو بالعلم والصلاح، فوالده علي كان فقيها، وأخوه الحسن كان نوازليا ذا شهرة واسعة، وأخته آمنة كانت عالمة فاضلة، ويخبرنا الأستاذ عبد القادر العافية في مقاله القيم أن أبا القاسم بن خجو نشأ في حومة سعادة من مدشر أسلاف من فرقة بني أمهارون بقبيلة بني حسان. وللإشارة فصاحبنا بن خجو كان معاصرا لإمارة بني راشد بشفشاون، وقد أدرك جزءا من حياة منظم حركة الجهاد بالمنطقة الشمالية ومؤسس مدينة شفشاون الفاضل سيدي علي بن موسى بن راشد دفين محروسة شفشاون، وقد عرف بعد وفاة علي بن راشد ولداه إبراهيم ومحمد. فهو إذن شاهد كبير على هذه الإمارة المجاهدة التي عاصرها من بدايتها إلى ما قبل نهايتها بثلاث سنوات.. تعلم بن خجو القرآن بمدشر القرية بجبال الريف، ثم انبرى لتحصيل الضروريات من العربية والفقه المالكي والمنطق والأصول والتصوف. بعد ذلك توجه علامتنا إلى محروسة فاس طلبا للعلم والأدب العالي، وقد أثر مقامه بفاس في نفسه طوال حياته، وحتى بعد عودته إلى موطنه الأصلي وتفرغه للفتيا وتلقين العلوم كان دائما يحن لفاس وعلماءها ودروسها، وكان كثيرا ما يذكرها في مجالسه. من كبار أساتذة أبي القاسم بن خجو بمدينة فاس العلامة الكبير "سيدي محمد بن غازي المكناسي"، "وأحمد زروق البرنصي"، "وابن المبارك المكناسي"، والأستاذ "أبي جمعة الهبطي الصماتي" صاحب "وقف القرآن". وأخذ ابن خجو التصوف عن إمام وقته في التصوف ببلاط الهبط "سيدي عبد الله الهبطي".. أما عن تلاميذ الإمام أبي القاسم بن خجو، فهم لاشك كثر لأننا نعلم أنه أسس مدرسة علمية مباركة بسعادة ببلاد الهبط، ومن أشهر تلامذته على الإطلاق القاضي "محمد بن عسكر" صاحب "دوحة الناشر" المتوفي في معركة وادي المخازن، وقد خص أستاذه ابن خجو بترجمة مفيدة في كتابه الشهير. ومن تلاميذه حفيداه من بنته "أحمد بن عرضون" و "محمد بن عرضون"، وقد نوه به كثيرا حفيده أحمد بن عرضون خاصة في كتابه "مقنع المحتاج في آداب الأزواج"، ومن تلاميذه نذكر ولده "علي بن خجو" الذي تصدر للإفتاء بعد وفاة والده؛ نذكر أيضا تلميذته أخته آمنة بن خجو حرم الإمام عبد الله الهبطي، وأبو عمران موسى الوزاني.. قال ابن عسكر في "دوحة الناشر لمحاسن من كان بالمغرب من مشايخ القرن العاشر" عن شيخه ابن خجو: "الفقيه العلامة الحافظ الفهامة العالم العامل ناصر السنة ومميت البدعة الشيخ أبو القاسم بن خجو الحساني، كان رحمه الله فقيها مطلعا حافظا متقنا ورعا شديد الشكيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عظيم الإنصاف لا يفتي إلا بما علم.."؛ وقال صاحب "السلوة" سيدي محمد بن جعفر الكتاني: "الفقيه العلامة الحافظ الحجة الفهامة العالم العامل المبارك الفاضل ناصر الدين ومميت البدعة". وترجمه ابن القاضي في "درة الحجال" فقال: الفقيه المفتي بالبلاد الهبطية، كان فقيها نوازليا يستظهر الفقه المالكي وقوالا بالحق لا يخاف في الله لومة لائم". وترجمه ابن القاضي في الجذوةفقال: "أبو القاسم بن علي بن خجو الحساني الفقيه المفتي بالبلاد الهبطية، أخذ بمدينة فاس عن جماعة من أهلها.."؛ وترجم لابن خجو أيضا "محمد مخلوف" في "شجرة النور الزكية"، وسيدي عبد الله كنون في "النبوغ". أما عن الإنتاج الفكري لسيدي بن خجو فيتمثل أساس في الفتيا والنوازل، وكان يعمل بفتاويه كبار علماء وقته، فقد ذكر تلميذه بن عسكر في "دوحة الناشر" أن الشيخ "عبد الله الهبطي" كان يعمل بفتاوي تلميذه "بن خجو" تقديرا لعلمه ومكانته. وقد امتلأت كتب النوازل بفتاوى أبي القاسم بن خجو نذكر منها "نوازل العلمي"، "ونوازل الزياتي"، "ونوازل الوزاني" (المعيار الجديد)؛ ولابن خجو مؤلفات مهمة نذكر منها: "غنيمة السلماني"، "ضياء النهار"، "شرح مسائل بيوع ابن جماعة"، و "النصايح فيما يحرم من الأنكحة والذبائح"، و "شرح أرجوزة الهبطي في أقسام العدة وأحكامها والحيض والرضاع".. ولا شك أن هذه المؤلفات تشهد على انصهار ابن خجو في البيئية المحلية وانشغاله بأحوال الناس الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية، وهذه زاوية نظر نرى منها هما إصلاحيا كبيرا عوضا عن تأليف جاف -معزول عن سياقه- في أحكام "البيوع" والعدة والرضاع... قال الأستاذ عبد القادر العافية في مقاله عن ابن خجو (ص: 75): "فهو بالرغم من شهرته كمفت لا يشق له غبار في جبال غمارة وبلاد الهبط؛ فإنه بالرغم من ذلك كانت ترد عليه الفتاوى من الأقاليم البعيدة، ويحدثنا صاحب "نوازل العلمي" من فتاويه التي كان قضاة فاس يحسبون حسابها". ومن الفتاوى التي أتبثها العلمي في نوازله: "نازلة صرح فيها صاحبنا ابن خجو بضرورة أن تصرف أموال المعتدين الظالمين في فداء أسرى المسلمين من يد النصارى، ونراه يؤكد أن أسرى المجاهدين لهم حق في جميع أموال المسلمين". لم يكن ابن خجو مفتيا فحسب، بل كان فقيها مقاصديا وعالما عاملا، ومصلحا اجتماعيا؛ وهذا ما أكده عبد القادر العافية حينما نقل شهادة لأحمد ابن عرضون في كتابه: "مقنع المحتاج" في حق جده لأمه أبي القاسم بن خجو مفادها أنه كان-عبر مدرسته في الهبط- وفتاويه التي تجاوزت الديار الهبطية رجلا ذا مشروع إصلاحي كبير، كان منطلقه الجبال الهبطية الغمارية الريفية وكان مرماه يصل إلى جل أرجاء المغرب وخارجه، لكننا لا نفهم رغم ذلك قلة مترجمي هذا العالم الفذ الذي أسس مدرسة علمية بالجبال الريفية في البادية المغربية في الوقت نفسه الذي كانت فيه فتاويه تذهل علماء فاس وحواضر المغرب الكبرى.. وينبهنا عبد القادر العافية (ص: 76) إلى أن المراجعة المتأنية لكتاب "مقنع المحتاج" لأحمد بن عرضون، "ضرورية لفهم حياة عالمنا أبي القاسم بن خجو، فمؤلف كتاب "مقنع المحتاج" أحمد بن عرضون هو حفيد الشيخ ابن خجو ولذلك فهو يعرف عنه أكثر من غيره وهو ينقل عنه في شتى المناسبات وكثيرا ما يقول : "قال جدنا للأم أبو القاسم بن خجو، أو "كان جدنا للأم يرى كذا أو يفتي بكذا".. ومن العلامات البارزة في السلوك التربوي والإصلاحي عند ابن خجو: ما ذكره حفيده ابن عرضون في كتابه عندما قال: "لقد كان رحمه الله تعالى شديد الحرص على هدى الخلق، ويتلطف غاية التلطف في إظهار الحق حتى أنه كان يعبر لأهل اللسان الغماري بلسانهم عند تقريره لهم قواعد الإيمان.." وهذا ما جعل عبد القادر العافية يستنتج في مقاله بدعوة الحق (ص:76) أن العربية لم تكن تفهم في كثير من مناطق غمارة، مما جعل العلماء يراعون هذا المعطى الاجتماعي بإعطائهم دروسا باللغة المحلية، وهذه ظاهرة صحية تحسب لهؤلاء الرواد.. وقد تبث أن الشيخ ابن خجو كان يقوم بجولات مع شيخه الصوفي الفاضل سيدي عبد الله الهبطي في القبائل الجبلية لنشر العلم والصلاح ودعوة الناس للخير، ولا شك أن هذه الجولات كانت لها أيضا مقاصد اجتماعية تمثلت في الإصلاح وحل النزاعات، والإسهام في تنظيم أحوال الريفيين وفق مقتضيات العمران كما فهمه هذا النوازلي الخطير الذي جمع بين العلم الفاسي والعبقرية الجبلية الهبطية الغمارية.. ويخبرنا أحمد بن عرضون في "مقنع المحتاج" برسالة كان الشيخ بن خجو كتبها لكبار علماء الجبل الهبطي يستحثهم على تشجيع الولاة على بذل الجهد من أجل الدفاع عن الثغور ضد المتربص الأجنبي، وقد خاطبهم ابن خجو بقوله: "سادتنا أعلام ديننا سيدي عبد الله بن محمد الهبطي، والخطيب سيدي الحسن بن عرضون، والفقيه سيدي سلام بن الحسن، والخطيب سيدي موسى الوزاني وسيدي علي الحاج المدرسني، وسيدي عبد الوارث اليلصوتي.." ومنه نفهم أن ابن خجو خاطب كبار علماء الجبل في وقته في رسالة إرشادية واضحة المعالم، وهي تبين عن هم فكري وسياسي واجتماعي يؤكد تفرد هذا العالم الفاضل المصلح في فترة عصيبة من تاريخ المغرب السياسي.. وقد كنت ذكرت في مقدمة هذه المقالة أن الشيخ ابن خجو كان ممن لبوا دعوة السلطان السعدي محمد الشيخ بالقدوم إلى فاس، وهذا إقرار سياسي منه رحمه الله بأحقية الشرفاء السعديين بالملك، وهو الذي ضاق ذرعا بالتخاذل الذي عاصره تحت حكم متأخري البلاط الوطاسي، وهو السياق الذي نفهم من خلاله رسالته لعلماء الجبل يدعوهم فيها إلى القيام بواجبهم في حث الأمراء على الجهاد.. لقد بدا لي في هذه العجالة أن أثير اهتمام الباحثين لعلم من علماء الجبل الغماري، عاش فترة صعبة، عاصر فيها أمراء بني راشد في شفشاون، وشاهد الثغور تسقط، وعاش أجواء الجهاد، وأسس مدرسة في البادية بعدما تشبع بالعلم في رحاب القرويين المبارك، وكان عارفا بأسرار الجبل ومسالكه وعاداته وتقاليده، وكان يعرف مسارات العلم والعلماء بالريف، وهو إلى ذلك تلميذ "ابن غازي، وزروق، والهبطي وأستاذ ابن عسكر، شهيد وادي المخازن..."؛ والقصد أيضا ماض إلى التذكير بأهمية غمارة وبلاد الهبط في تاريخنا الفكري لكي لا ننسى ما أنجبه هذا الجبل المبارك من أفذاذ وعلماء وصلحاء، ومجاهدين رفعوا رأس المغرب عاليا.. قال ابن عسكر في "الدوحة": ولما تغلب السلطان أبو عبد الله الشيخ الشريف على ملك المغرب، وبعث لسائر الفقهاء بالحضور، بعث إليه فوفد عليه.. ولما لقي السلطان أعجب به وقال: ما رأيت ممن رأيت أفضل من هذا الرجل علما وصلاحا، ثم رغب منه أن يقيم بفاس أياما ينتفع به، فأقام أياما ثم أناخ به أجله، فتوفي رحمه الله سنة 956ه الموافق ل1549م، وحضر السلطان والكافة جنازته، وكسر الناس نعشه وكسروه أطراف للتبرك، ودفن بجوار روضة الشيخ ابن عباد داخل باب الفتوح من مدينة فاس". رحم الله العلامة أبي القاسم بن خجو وجازاه عن المغرب خيرا، والله الموفق للخير والمعين عليه..