لقد باتت حقيقة ٌمرة ٌبادية ًللعيان من قبل كل من يمارس مهنة التعليم،في غضون هذه الآونة الراهنة،خاصة وأن استفحالها يتجاوز أسوار المدارس ليصبح مثار الملاحظة لدى العوام،الذين لا يخفون امتعاضهم من الظاهرة،فيلومون على ضوئها اليافعين المراهقين من المتعلمين،ليطال كذلك من يسهر على تربيتهم وتعليمهم. مفاد القول أن الحمولة التربوية بمقرراتها ومناهجها وبيداغوجياتها ،كل ذلك مِزْودٌ ثقيل وصلب قد ضُرب به المدرسون، حين يحرقون من دمائهم وأعصابهم ويذيبون طاقاتهم من أجل أن يقدموا لتلاميذهم من كل ذلك ما يزودهم بكمّ غير قليل من المهارات المعرفية ومثل ذلك من القيم الأدبية ،لكنهم سرعان ما يصدمهم ذلك العزوف الصارخ الذي يغشى أفئدة المتعلمين ويشغلها ، ليتأكد لديهم أن هؤلاء جثت تملأ أماكنها فحسب،أما عقولهم فهي خارج فلك الدرس إلا من رحم ربه،فلم يعد يجديهم الصراخ في وجوههم،ولا تنفع محاولات التأنيب والردع المعنوي والمادي ضدهم،ولم يعد يحس الواحد منهم بما يصيبه من الحرج أمام زملائه،بل لا يحرك فيه حتى إبعادُه عن حجرة الدرس ساكنا،وكم من أحد منهم يود لو أُخرج من القاعة وتمنى عدم محاسبته على غيابه بعد ذلك،فيتضح أنه – وهو نموذج حي لفئة عريضة من أمثاله- إنما هو قادم إلى المدرسة مُكرَهاً،ثم ترتسم الصورة الصادمة عريضة أمام نظر المدرس وفي مخيلته،فيكون هو ،وما هو عاكف على تبليغه ،أشبه بقصة الأطفال الذين يعبثون في تضاحك ولامبالاة بعصيفير حتى بعد مفارقته الحياة.ثم لا يجد المدرسون بُدّا من أن يتساءلوا عن مكامن الخلل،وينقبوا عن مصادر الخطإ،فلا يلبث أن تتعدد الأسباب التي وجب على المدرسة بكل مكوناتها المسؤولة أن تضعها نصب عينيها،لتجد للظاهرة المرضية حلولا قبل الاستشراء المهول،وقبل أن تصير داءً مُعديا يتفشى في الوسط، لتحرق ناره اليابس والأخضر على السواء. وقبل الوقوف على أهم هذه الأسباب،لا بأس من رسم الصورة وإبراز معالمها أكثر وضوحا،وأدق تصريحا ،ذلك أن الأغلب الأعمّ من المتعلمين، يأتون مدرستهم وهم يعدمون ما يجب أن يكون لديهم من مواصفات التعلم والحضور،من قيم الحياء والجد والانشغال بالدرس وتقديس المكان والزمان اللذين يحيطان بهم،بل تراهم في شغل تافه يشغل كل بالهم،ويجعل عقولهم مركزة كل التركيزعلى نزواتهم وشهواتهم التي تأسرهم،فلا قلوبهم تفقه،ولا أعينهم تبصر،ولا آذانهم تسمع،فيجد المدرس نفسه وحيدا يحمل بضاعته ولا من يساوم، ومع كل لفتة يجد الكثير من عُبّاد النزوة، وضحايا المراهقة ،وشياطين الطيش والنزق، يحومون بأعينهم الغادرة ويحطونها على أجساد المتعلمات،وربما يتواصلون بعضهم مع البعض بالإيماء والغمز،وأنت تومئ لهم أنك ترصد حركاتهم وسكناتهم،حتى إذا فرضت على أحدهم أن يؤوب إليك ،وتشركه في درسه،ثم تسأله عما تقول،أو عما فهم،أو عن رأيه فيما يقتضي ذلك،رفع إليك عينين جاحظتين، يرتسم على جبينه أثر شروده،وعدم رغبته فيما رددته إليه،وتشي علامة شبيهة بالاستغراب على محياه،بفضولك على انتشاله مما هو فيه، وأخْذِه على حين غرة،ثم تجده لا يقوى على الكلام، فيظل ساكتا وقد أبيح له الكلام،لأنه كان يسترق لحظات الهمس والخفوت حين يحظر هذا الكلام،وقد يبدي بعض التبسم الأصفر بدل التحلي بالخجل عن سوء موقفه،والشعور بوخز الضمير عن عدم انتباهه،حتى إذا ملكك القنوط من حاله، ازددت حنقا على حنق،وتعصبت أيما تعصب بسببه،ورأيت جهودك تنتحر مجانا على صخور لامبالاته، فتضطر لمواصلة مشوار درسك،وتخضع لحقه من ذلك الغلاف الزمني المرصود،وكأنه يستعجل النهاية… وفي الأخير،لاترى إلا تنهيدة ذات نفس عميق تُسرّي بها عما يخالجك من امتعاض وغيظ،فتستاء من المدرسة ومن برامج المنظومة،ومن طينة المتعلمين الذين لا يشعرون بما هم فيه ولا ما أنت فيه. أما إذا تقصينا الحقيقة،وسبرنا أغوارالداء والمعضلة،آمنا بالتقصيرفي الدور الذي لم يعد فيه للأسرة دخل،وفي العون المطلوب تقديمه للمدرسة في غير ما فتور ولا قطيعة،مثل إيماننا بالخلل الكامن في البرامج والمناهج المنفرة التي لا تغري المتعلمين ولا تشوقهم إلى الدرس، فينقلبون ضد ذلك بهذا التمرد وهذه التصرفات،فيظلون في استسلام لأوامر نزواتهم وشهواتهم، ما داموا لم يجدوا أنفسهم في بحبوحة المنظومة بسبب جفافية حمولتها،بالإضافة إلى الفراغ الإجرائي التربوي والأسري الذي لا يتعقبهم ليحسسهم بالمتابعة سواء من قِبَل البيت أومن قِبل المدرسة أثناء أوقات العمل وأوقات الفراغ،هذه التي يستغلون أكبر عدد منها في الشارع والتسكع والبحث عما ليس من الأهداف النبيلة،وكم من أحد منهم يداهمه وقت الدرس فيأتيك بشكله تاركا وراءه مضمونه،خاوي الوفاض من رغبة في المعرفة،أو استعداد للتعلم،وخاوي الوفاض أحيانا من لوازمه الدراسية،ثم إذا تواصلت معه عبر نشاط من أنشطة الدرس،علمت علم اليقين أنك تنادي من لاحياة له.فلا عجب إذاً، أن تجد كثيرا من المتعلمين متعثرين في درجة تحصيل المعارف والمفاهيم،بل منهم من بان عجزه حين يقرأ أو يكتب ،ولا عجب أن تقل رغبتهم أو تنعدم في الحصول على مكافأة أو جزاء حسن، أو نتيجة إيجابية كافية في نهاية المشوار.