لقد أصبحت المدرسة المغربية اليوم أكثر من أي وقت مضى تعيش صراعا مريرا بين ما يراود أخلاد المتعلمين وأحلامهم،وما يتغياه المدرسون باعتبارهم موصلي الرسالة التربوية،عبر البرامج والمقررات والمخططات التي سطرتها السياسة التعليمية في بلادنا،خاصة في ظل الإصلاحات المتتالية التي دعت إليها هذه السياسة،وقد كانت في صميم فلسفتها تهدف إلى تمتيع المتعلم بكل حقوقه،التي صارت الصيحات الداعية إلى تكريسها وجعلها في صميم العملية البيداغوجية – كشرط إيجابي لممارسة فعل التربية والتعليم عليه – عاملا من العوامل التي شغلت هذا المتعلم عن أداء واجباته، كما وهّمته بتجاوز مبدإ القيم والسلوكات الإيجابية التي ترصدها في كيانه المدرسة بكل أطقمها،حتى ولو كانت الأسرة قد قصرت في حق هذا الزاد الذي يعتبربدوره من الأولويات التي تزرعها فيه الأسرة والفعاليات التربوية أينما كانت وكيفما كانت،ومنها الشارع على سبيل التكملة،لتعمل المدرسة بدورها على تنميتها وتعهدها بالمتابعة والمراقبة والإصلاح . وهذا يعني أن القيم التي تنطوي عليها المقررات الوزارية تصبح أمام هذا الواقع بمثابة موضوع نظري تطبعه المثالية التي لا يقدر المتعلم أن يرقى إلى مستوى فقهها والوعي بها ثم تشرّبها من أجل قلبها إلى واقع عملي يتحلى به هذا المتعلم ويعمل على التخلي عما يحول دون تحققه في سلوكه ومعاملته،وذلك لأسباب متضافرة،قد لعبت دورها السلبي في نفسية المتعلم وعقليته مجتمعة أو متفرقة، نذكر منها ما يلي: 1*السياسة التربوية: إن الطابع التساهلي الطاغي على السياسة التربوية وفي جوانبها البيداغوجية،وهي تسلك مع المتعلم مسالك اللين في التعامل معه،جعل هذا الأخير يتوهم ذلك بمثابة تملق ،أو تحابِِ ، خاصة لمّا يعمل المدرس على الرفع من معنوياته والاقتراب منه أكثرلمعرفة مكنونه ورغباته ومواطن ضعفه،والتغاضي عن هفواته،وجعله من نفسه أرضية يطؤها هذا المتعلم بكل جرأة وثقة ،تحفه الحرية التي لابد منها ليتنفس في أجوائها الشعور بالذات المجردة عن أية عقدة،وذلك حسب ما تقتضيه التربية الحديثة وتنادي إليه نظرياتها…،وهوالعامل الذي أفرز نوعا من الجزم بلا نجاعة وسائل الزجر أو العقاب التربوي المعنوي،(وليس الماديّ)،سواء تعلق الأمر بالخصم في التنقيط، أو العقاب بمنح نقطة الصفر،أوفرض عقوبات على المتعلم، بكتابة قاعدة أو معطى معرفي لمرات عديدة،لأنه يحس برجاحة كفة الحق لديه على كفة الواجب،ويلمس أثر عدم ممارسة العقاب البدني عليه،فيمتنع عن أداء ما عليه من الواجبات،إلى درجة أن ما يمارس ضده من زجر تربوي لا أثر عنده عليه،فهو لايساهم في تعلمه ومصلحته التي هو موجود بين أحضان المدرسة وتحت إشراف مدرسه، من أجلها،سواء بإنجاز واجباته وحفظ ما يلزم حفظه منها،أو بالخضوع لأنواع العقاب التربوي المشروع،لأنه في آخر المطاف لا يشعر بنوع من الرهبة التي تحمسه من أجل الإقبال على عمله ،وهي الرهبة الناتجة عن تواجد شيء اسمه العقاب البدني بأشكاله الرادعة ،سواء داخل الفصل أو بدخْل من إدارة المدرسة،وهنا أؤيد الاعتقاد بإيجابية هذا الإجراء،لأن الميدان التربوي قد أثبت نجاعته منذ عهود ماضية،وكانت الحصيلة ،أن خرّجت المدرسة المغربية على ضوئه أفواجا من المواطنين المكونين عقليا ووجدانيا وسلوكيا،فصارت لهم من كل ذلك مؤهلات ولجوا بها أبواب المسؤوليات،وانخرطوا بها في الجهاد الأكبر داخل وطنهم ،فعملوا على تكريس تلك القيم في نفوس ناشئتهم كما أخذوها من مربيهم،فمنحهم ذلك أهلية وأحقية للإنتاج والعطاء. 2* طبيعة المجتمع: كلنا نعرف ونعلم علم اليقين أن نوعية التربية التي يتلقاها المتعلم في المدرسة،وما تقتضي من تعامل مع شخصه كعالم له خصوصياته المتعددة والمتنوعة،مرهونة بنوعية المجتمع الذي أنبت هذا المتعلم وانعكست عليه آثاره بشكل جلي لا محيد عنها،ذلك أن المجتمع المغربي له ما يميزه من العوامل العاملة في تكوين شخصية المتعلم المغربي،تناغما مع نظرية"كون الإنسان ابن بيئته"،وأعني بالنوعية في المجتمع،درجة وعي أبنائه ومعرفتهم وثقافتهم وحرياتهم وفهمهم لما حولهم، وما يتحكم في سلوكاتهم وشخصياتهم من اهتمامات بهذه الجوانب وغيرها مما تنعكس آثاره على الأبناء،بدءا بالأسرة ومرورا بالشارع،ثم وصولا إلى المدرسة،كمعمل للبناء والترميم والخلق والإبداع، والتوجيه والإصلاح، والتعبئة والتكوين، وغيرها من أشكال الفعل التربوي وأشكال نتائجه،لذلك فقلة النضج التي تطبع المجتمع خاصة لدى الكثير من ذوي الأولوية في تربية الأبناء، وهم الآباء والأمهات، كشريحة عريضة عرض الهرم،تجعل المتعلمين لا يقصدون المدرسة وهم مزودون بآليات مبدئية تعينهم على الاصطباغ بالرسالة الغائية التي تصبو المدرسة إلى تحقيقها في شخص المتعلم بكل واجهاتها،كما تجعل الهوة قائمة بين البيت والشارع والمدرسة،الشيء الذي يجعلنا نسلم بشقاء المدرسة ومكابدتها لعسر الأداء لفعلها التربوي،رغم الجهود التي ما فتئت هذه المدرسة تبذلها وتنكر ذاتها من أجل ذلك… وهنا لا أنكر ما كان عليه هذا المجتمع من ذي قبلُ من دونية وتدنّ في درجة النضج،ولكن أومن بالطاعة المطلقة المهيمنة على رغبة الآباء والأمهات في تربية أبنائهم وحرصهم القوي والجاد على ذلك،لذلك فوضوا الأمر للمدرسة ،وأيدوا دورها في التربية والجزاء ،بل كانوا يطالبون المربين ويسمحون لهم بأن يكونوا بالمرصاد لكل ما يخالف منتظراتهم من دور المدرسة في الأبناء،على خلاف ما صار عليه بعض الآباء والأمهات من تدليل للأبناء إلى درجة دفعت بهؤلاء وحسستهم بألا سلطة لأحد عليهم بعد رفعها عنهم من طرف أولياء أمورهم،فلم يقف الأمر عند هذا الحد،وإنما شجع الأبناء على التمادي في المخالفات والتملص من الواجبات،والتطاول على المدرسين،وعدم الرهبة من وسائل الزجر والعقاب المعمول بها في السياسة التربوية التي يطبعها شعار التربية الحديثة…ولهذا ،لا أرى عيبا في استعمال ما يسمح به الواقع من أشكال العقاب التربوي على المتعلم من أجل أن يشعر بصرامة الفعل الذي يمارس عليه من أجل مصلحته،ما دام مبدأ عدم الإكراه وبسط السلطة الإجبارية لا تُجدي مع مثل هذه الطينة من المتعلمين… 3* الإعلام : وهنا سأركز على المجال الذي يستقطب أعدادا من المتعلمين في البيت وفي الشارع،وهم في أعمار متفاوتة أدقها وأخطرها أعمار المراهقة،وسوف أعرج في البداية على جهاز" التفيزيون" في بلدنا،هذا المعلم المراهق الذي صارت رسالته تهدد وتهدم القيم في نفوس المتعلمين،وهم لم يتحصنوا بعد بمناعة ضد ذلك ،وليس لهم من ملكات النقد والغربلة والتمحيص ما يجعلهم يعلمون صالحهم من طالحهم،فقد ألهتهم كثرة الأفلام العاطفية عن جادّة الصواب،وغذت في نفوسهم نهما سرعان ما يدفعهم إلى البحث عن منفسات لنزواتهم ومفجرات لكبتهم،وقد كانوا قبل ذلك مأخوذين بما له الأولوية في جداول اهتماماتهم،رغم الرياح العابرة للأهواء ،على خلاف ما هم عليه من عهد بما تربوا عليه من حب الشهوات والاستجابة للنزوات،فإذا بهم يحضرون إلى أحضان مدارسهم بأجساد متأنقة في المظاهر لغاية غير نبيلة،ولغرض قليلا ما تؤطره الرغبة في الظهور الشريف بالسمت الحسن،(اعتبارا لكون ذلك جزءا لديهم من القيم المغروسة في نفوسهم،وهم مأمورون بالتحلي بها استجابة لعقيدتهم وما تكرسه في كياناتهم مدرستهم)،وتنافسوا في ذلك من أجل إثارة اهتمامات بعضهم ببعض،وقد استوى في ذلك ذكورهم بإناثهم،إلا من رحم ربه،وكثير منهم غائب عن الدرس وما يقدم له المدرس رغم حضوره الجسدي الذي لا يغنيه في شيء.ومثل ذلك حاصل وبنسبة أجلى وأبين،لمّا يتعلق الأمر بفضاء الانترنيت،وما قد لعب في فلكه علم وعالم السيبرنيطيقية،الذي اتخذه أبناء العصر قبلة لا ينافسهم فيها إلا من منهم أمهر سباحة وتوغلا في أسراره ،فازدادوا بسببه ما زاد الطين بلة،وصارت عقولهم أفرغ من فائدة من علم أو معرفة يكون الفضل فيها للكتاب والمطالعة،فقد أعد لهم ذلك العالم ما حمد وما سمج من المعرفة ،وفيها ما يتماشى مع القيم المحمودة وفيها ما يتنافى معها،حتى انعكس أثر ذلك ظاهرا على سلوكاتهم،إلى درجة أفقدتهم السيطرة على نزواتهم وشهواتهم وأنستهم رسالتهم،وشغلتهم عن ارتياد رياض الاستقامة والصلاح وروم السؤدد والتعالي بالنفس وبالعقل إلى مدارج الكمال والنزاهة، وغدوا جثثا تهيم على غير هدى،تقودها نفوس ذات رغبة جامحة في تحقيق نزوات الشر والرذيلة،ولعل من آثار ذلك ما تطلعنا به الأخبار كل يوم من اقتراف الجرائم وما إلى ذلك من شين السلوكات في المجتمع وأمام بوابات المدارس. *4 الشارع : إن الصورة الحالية للشباب في الشارع أصبح يثير الملاحظة،ويبعث على الأسف على التربية التي اتهمت فيها المدرسة قبل أن يتهم معها أو دونهاغيرها ،يزكي سوءَ المظهر والمخبرفي هذه الصورة ذلك التقليد الصارخ لقوم ليسوا منا ولعادات وتقاليد لا تمت إلى قيمنا بأية صلة،ولعل ذلك ينضاف إلى ما ذكر في لائحة الأسباب المنغصة،والعوامل المكدرة،فيصبح من دوافع الانحدار والتردي التربوي، الذي قد حال دون الشخصية الحقيقية للمتعلم الذي ما زالت المدرسة المغربية تبحث عنها،لتعمل على نفض ما قد عَلِق بها من أدران التقليد والتبعية ،وهو لعمري نوع من الاستعمار الذي يُلقي فيه المستعمَر بنفسه راضيا مطمئنا،غير قادر على التفطن لخطر المسخ الذي طاله، وطمس هويته، وجمد عقله، ووأد في نفسه مبادئ الاستقامة ومنابت الفضيلة،وشغله عن كل ذلك ببهرج العصرنة ،وفتنة التحضر المزيف…فلا نملك مع هذا الوضع إلا التأسف والتغني بقول الشاعر: متى يبلغ البنيان يوما تمامه ** إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم ؟