من يُتابع ما يجري في كلا العالمين العربي والإسلامي، وخصوصاً فيما يتعلق بالحياة السياسية و الدينية، ويعمد إلى التدقيق في حيثياتهما، سيخرج من خلال نظرة موضوعية حيادية مجردة من كل تزمت و تعصب، إلى أنّ الكثير من الكتّاب و المؤرخين يكتبون بما يناقض الواقع والحقيقة، ولو كانت هذه الحقيقة تُفقد البصر لشدة سطوعها. لقد بات كل كاتب يعزف وفقاً لنوتة مُعدّة سابقاً، ويُصدر ألحاناً متناسبة تماماً مع سيده الموسيقار الذي يعمل لديه، الذي بدوره كان قد أعدّها سلفاً لجمهور معين و غاية محددة تلبية لرغبة شخصية (مال – نفوذ – تعصب ديني)، أو نزولاً عند رغبة متسلطة متعجرفة لسيد ديني أو سياسي أو ... ولم تأتي هذه الألحان بتاتاً كصدى روحي، عفوي ولا إحساس بلذة الحياة عذبها و مرّها. فمنذ نشوء دويلات و مقاطعات ما بعد الاحتلال العثماني، والتي تعاني جميعها من خلع ولادي واضح، وأمراض جل ما تنتج عن الشذوذ الخلقي أثناء النشوء والتكوين، ظهر وكما هو مرئي لنا، والذي لا يحتاج لبحث وتدقيق، أو حتى اسناد واخراج، ظهر أنّ نسبة كبيرة ممن يخطّون، يُساهمون بشكل كبير في التلفيق و التدجيل ولأسباب كثيراً ما تكون دينية (طائفية و مذهبية) وشخصية (نفوذ – مال). والذي يزداد بالرغم من وضوح الصورة كاملة لما يجري في كلا العالمين العربي و الاسلامي، خاصة بعد التطور الهائل لتكنولوجيا الاتصالات. في أيامنا هذه و بناءً على مايُكتب في الكتب، ويُنشر في الصحف، ويُذاع في المذياع، ويًشاهد في التلفاز، أصبح الشجاع جباناً، والجبان شجاعاً، أصبح الصديق عدواً، والعدو صديقاً. أصبح الاستسلام أمام العدو سلاماً ورؤية حكيمة. أما الكفاح والمقاومة للعدو أصبحت مغامرة ومهاترة. وطبعاً نكرر أنّ هذا يحدث بالرغم من وسائل الإعلام المتطورة واقتراب الشخص من الحدث لدرجة لاتُقارن بالماضي. ففي كثير من الأحيان لا يسمع الشخص فقط، وإنما يسمع ويُشاهد الصورة، وحتى أنه في بعض الأحيان يكون في خضم الحدث. السؤال الآن والذي هو هدف مقالي هذا: مالذي سيمنع أن يكون تاريخنا مزوراً ومليئاً بالأكاذيب والأضاليل، وخاصة أنه كان يفتقد لأبسط وسائل الاتصال أو دعونا نقول صعوبة الاتصال ؟. وتأتي أهمية هذا الطرح من أنه ليس هناك اجماع على هذا التاريخ، كما أنه يُسبب لمجتمعاتنا التشتت والفرقة والتخلف، والذي نشاهده في حياتنا اليومية. حيث أنّ هناك، على سبيل المثال، الكثير من الحوادث و الشخصيات والأحاديث التي يكتنفها الغموض و الشك كونها غير منطقية وغير واقعية. إنّ التضليل في الماضي أيسر بكثير مما هو حالياً، فلا وسائل اتصال ولا متابعة مستمرة وقريبة للحياة السياسية والدينية. فما يُريده الوالي والحاكم ومن يدور في فلكه من رجال وعلماء الدين فقط هو الذي يُنشر ويُشاع. وغير ذلك فكان محرماً وغير جائز أبداً. وكما هو حالنا اليوم فكذلك في الماضي التسلّط والجبروت هو الحاكم والقائم. وكما لم تفترق في الماضي علاقة الشيخ والسيف، كذلك حاضرنا فهو استمرار لهذه العلاقة السيادينية (سياسية – دينية). طبعاً نتحدث مع عدم انكارنا بتاتاً للحالتين الدينية والسياسية، إلا أنه نرى أنهما بعيدتين كل البعد عن جوهرهما وغايتهما الأصلية. مازال الكثير من الناس متمسكين بفتاوى وأحاديث دينية كانت صدرت بالماضي، ومدعومة إلى الآن من قبل المؤلفين، الذين يجدّدونها باستمرار ويزيدون عليها. على الرغم من أنّ هذه الأحاديث والفتاوى كانت لغايات شخصية بحتة تخدم الحاكم والسلطان، أو تعزز موقع فئة دينية وزعامة مذهبية، والتي أنتجت الكثير من المجازر والحروب الأهلية، والتي أدرجت جميعها تحت اسم الدين، تحت شعار إعلاء كلمة الله، وحفظ النوع و ماشابه ذلك. إنّ الكثير من كتّاب هذه الأيام هم استمرار لأولئك الذين كتبوا بحق السلطان والأمير في حكمه، وحلمه، وزهده، وجهده على وقع رنين الذهب والفضة. هم نفسهم أولئك الذين زوّروا الحقائق والحوادث والشخصيات وفقاً لأهواء شخصية وتعصبية، وشوّهوا الدين وأبعدوه عن غايته. مخادع وجاهل كل من يؤكد أنّ ماضينا كان مزدهراً، ولا يمت لحاضرنا بأي صلة. على العكس تماماً فلا يوجد فرق بين حياتنا اليوم وماضينا. وما نحن عليه اليوم من سلبيات ما هو إلا إرث الماضي. لكن الغشاوة و التعتيم الذي فرضه المؤرخون والمؤلفون بإشارة من الحكّام ورجال الدين، وعدم الصدق والأمانة في كتابة التاريخ ونقل الحوادث هو الذي جعلنا ننظر على أنّ هناك اختلاف بين ماضينا وحاضرنا. حتى أنه يُريد البعض أن يُعزي تخلفنا وسلبياتنا إلى الانحراف الديني، حيث لا يملكون إلا هذه الجملة لتبرير تخلفهم وجهلهم ونزعاتهم العصبية الجاهلية، فصحيح أنّ هناك انحراف ديني ولكن الانحراف الديني ليس وليد هذه الفترة وإنما وقع هذا الانحراف بالنسبة للإسلام المسيحي بعد رحيل النبي عيسى (ع)، وكذلك بعد رحيل النبي محمد (ص) بالنسبة للإسلام المحمدي. فاالانقلاب والاغتيال السياسي، والعصبية العائلية والعشائرية والقبلية العمياء، والتمرد، والتوريث، وسلب الحقوق، وكتم الحريات، والأنفاس، والتفاوت الطبقي، والترف والبذخ، وووو ...... كله حصل بالنسبة للإسلام المحمدي بعد وفاة النبي الكريم (ص) والشواهد على ذلك كثيرة. ومازال الكثير على النهج سائرين، فلماذا يريدون التحريف وتزوير التاريخ ويضعون الناس في حفرة مظلمة، ويوهمونهم أنّ تعاستهم هي نتيجة لانحرافهم الديني ؟. ما يُميز تاريخ العصور القديمة عن تاريخ عصرنا الحالي، هو أنّ تاريخ تلك العصور هو تاريخ جامع و تاريخ باعث على الازدهار. فعلى سبيل المثال، لقد توارثت منطقة الهلال الخصيب تاريخ تموز وإنانا بكل إيمان. فأبطال تاريخهم كانوا أرباباً، وكانوا يعملون لخدمة البلاد دون أدنى شك، لذلك كان تاريخهم مقدس توارثوه بكل قناعة، وتأكيداً لذلك عمدوا على إجراء مراسم سنوية لإحياء هذا التاريخ الذي وجدوا فيه ازدهاراً لمجتمعهم واستمرار لحياتهم الرغيدة. لم يكن تاريخ هؤلاء الأبطال موضع تنازع واقتتال لأنّ ليس هناك أبداً ما يُشير إلى عمل سلبي لهم كما أشارت الملاحم، فهما بالنهاية أرباب الخصب والجنس، وبالتالي مصدر الرزق والازدهار واستمرار الحب والحياة. أما تاريخنا فليس مقدس، وكيف يكون مقدساً وهو مصدر تنازع وتناحر واقتتال. تاريخنا لم يُعطي لكل شخصية أو حادثة حقها. لقد امتنع تاريخنا عن ذكر السلبيات، ولم يرو غير الايجابيات (التي الكثير منها موضوع) ومن وجهة نظر واحدة. فأصبحت الكثير من الشخصيات بنظر الناس مقدسة ولا يجوز الحديث عنها ولا الطعن بها. والمصيبة هو التقيد التام بسلوك هذه الشخصيات. فصحيح أنّ بعض تلك الشخصيات (على سبيل المثال وليس الحصر) أبطال معارك، ولكن هل حياتهم كلها اختصرت في معركة؟ فأين الجانب الآخر من حياتهم، وهل كانوا متعصبين لفئة معينة أو مذهب معين، وهل ارتكبوا مجازر بحق من يعارضهم من أبناء مجتمعهم؟. هذا كله لا يذكره التاريخ إلا في كتب نادرة يمنع تداولها. بالتالي إنّ التقيد الأعمى بسلوك تلك الشخصيات، واعطائها القدسية، جعل النزاعات والاقتتال الأهلي والديني (الطائفي والمذهبي) مستمراً إلى أيامنا هذا، إذ كان يكفي أن ننعت هذه الشخصيات بالقادة العسكريين وفقط، إلا أنّ التعصب الأعمى أبى إلا وأن يضيف القدسية عليهم بنعتهم بالقادة الإسلاميين، فكان أن سمح ذلك بتبرير الكثير من السلبيات باسم الاسلام تحت فتاوى وأحاديث غريبة عجيبة، أساءت جداً.. وجداً للدين. لقد تبع المؤلفون والمؤرخون أهواءهم، فدونوا على صفحات كتابات استمدوا مدادها من الرحيق التعصبي (القبلي، المذهبي، الطائفي)، كتابات جاءت تلبية للحكّام وبمباركة من رجال وعلماء الدين، كتابات جاءت للمحافظة على تقاليد وموروث ديني غير صحيح، سلبي سيء، وأحاديث دينية موضوعة لغايات سياسية، وشخصية وتعصبية. هذه الكتابات مازلنا نتحمل نتائجها إلى الآن، من التفكك والتخلف والتناحر. واستمرت هذه الزمرة من المؤلفين إلى يومنا هذا مستمدة غذاءها من نهج الماضي المظلم والبعيد عن الواقع والحياة الاجتماعية. استمروا في نشر وكتابة الأضاليل والخرافات وبث سموم التفرقة مستعينين بشخصيات من الماضي تُرسم بجانبها أكثر من إشارة استفهام. لقد أرهقت هذه الكتابات والمؤلفات وهذا التاريخ الغامض كاهلنا، ولم نعد ندري كيف نستقيم ونقف على أقدامنا لمواجهة واقعنا المرير والمحزن. وما دمنا متمسكين بهذه التقاليد و الموروثات البالية، سوف لن نتمكن أبداً من النهوض بمجتمعنا و لن نتمكن من الوصول إلى حياة اجتماعية راقية مستقرة. ما يدفعك للسخرية أخي القارئ هو عندما يتحدث هؤلاء الكتّاب ويؤكدون في بداية و ختام وعرض كتاباتهم أنهم يكتبون حرصاً على الدين والمجتمع، في حين أنّ غايتهم، وكما يُستدل من كتاباتهم عكس ذلك تماماً. حيث تستمر المنازعات والتناحرات ويكيلون لهذا وذاك، لهذه الطائفة وتلك الملّة. ثم يأتي الكثيرون من السذّج والمُغرر بهم ليستندوا إلى هذا التأليف وذلك الكاتب في نزعتهم الدينية أوالسياسية المتطرفة. وتكون النتيجة في النهاية عكس ما ادّعى هؤلاء المؤلفون، وتكون الكارثة جداً فظيعة على الدين والمجتمع. وما يلفت الانتباه عزيزي القارئ هو الاستشهاد الأعمى والتدليل على كفر وزندقة مجموعات إسلامية (مسيحية ومحمدية) من خلال فتاوى وأحاديث، حيث لو أردنا أن نأخذها على محمل الجد لأصبح الناس جميعهم كفرة وزنادقة. كل هذا يحصل بالرغم من أنّ الواقع يُشير إلى غير ذلك ويدحض بقوة ما جاء على لسان المؤرخين وما أفتى به المفتون. ولمنع ترسيخ هذه الحقيقة بين الناس ومنع الوصول إلى حياة اجتماعية هادفة وراقية والتي هي جوهر الدين وغايته، يحرص زعماء الطوائف والمذاهب، ومن يدور في فلكهم من آباء روحيين إلى منع هذا الاجتماع، والعمل دائماُ على الانغلاق والانعزالية، بسياج مخيف من الفتاوى والأحاديث الشائكة. حيث يستشهد الأب الروحي غالباُ ومن يتبعه من المغرر بهم، ومن مسلوبي الحرية والفكر والمستولى على عقولهم وبعبارة أخرة (أسرى الإنغلاق) يستشهدون بكلام وروايات مخالفة للمنطق والواقع والعلم. كتابات واهية تحوم الشكوك حولها، إلا أنهم أبوا إلا وأن تكون روايات إلهية لا يأتيها الباطل لا من فوقها ولا من تحتها. فكم هم كثيرون أولئك المؤرخون والمؤلفون الذين ركضوا وراء عصبيتهم المذهبية دون تفكير و دون إمعان، وهم المحسوبين على أصحاب الفكر. كم هم كثيرون أولئك الذين تلقفوا هذه المؤلفات وهذا التاريخ الذي يشوبه الكثير، ولم يكلّفوا أنفسهم ولو القليل من البحث والمقارنة، ولم يجهدوا أنفسهم في البحث عن الحقيقة المتناسبة حقاً مع واقعنا، وإن راودهم في كثير من الأحيان الشك فيما كُتب وفيما يُقال. كم هم كثرة أولئك الذين أغمضوا أعينهم عن حقيقة الاجتماع، والذين حجبوا أعينهم عن الواقع المخالف للروايات والأحاديث، حرصاً على قدسيتها فقط، وعلى هالتها المزيفة. إنّ أكثر ما قام به المؤرخون وما يقوم به المؤلفون، عندما لا يتناسب عمل أحد ما مع تفكيرهم ومذهبهم، هو أنهم يطعنون ويسبون ويفعلون بمذهبه واعتقاده الكثير الكثير (وخاصة أنّ مذهبه غير مذهبهم)، في حين لا يُشاهد ذلك مع شخص يتفقون ومذهبهم الديني. هذا كله يحدث، مع العلم أنه ليس هناك لا ملّة، ولا طائفة، ولا مذهب يتحلى جميع أفراده بالأخلاق الحميدة، وهذا لا يمكنه أن يغيب عن تفكير أي انسان عاقل. فالشر لا ينتمي لطائفة ما، كما أنه لا ينتمي لمذهب ما بعينه. وهنا نشير بصراحة إلى افتراء حديث الفرقة الناجية والذي هو حديث تعصبي، تفرقي ولا أخلاقي حتى. والمستفيد من هكذا حديث هم زعماء الطوائف، والمذاهب، والسياسيين المنطويين تحت لوائهم. فعلى ماذا هذا التحامل المذهبي، وهذا الكلام الذي لا يهدف إلى توصيف صحيح وحقيقي للمشكلة، وإنما يزيد من التفسخ الاجتماعي والديني وتترسخ بذلك سلطة المذاهب والطوائف من خلال زعامات غيبية وهمية أخذت سلطتها وأحكمت قبضتها من خلال تزييف الحقائق والتشبث بالموروث الخاطئ، الذي يضمن مصالحهم الشخصية والمذهبية. ويدفنون بأيديهم المصلحة الوطنية، بالرغم من شعاراتهم الرنانة والكاذبة تحت مُسمى الوحدة الدينية، أو الوحدة الوطنية وغير ذلك من الاتحادات الكثيرة التي لكثرتها نجد أنفسنا في أوج مراحل التفرقة والتناحر. نأخذ الكيان اللبناني، والعراقي مثالاً واضحاً على ذلك. طبعاًُ هذه العُجالة عبارة عن مقدمة مقتضبة للتقديم لما سنكتبه لاحقاً عندما يتثنى لنا الوقت لذلك. للتعريف وإبراز صور مختلفة عن تدجيل وتلفيق وعدم أمانة المؤرخين والمؤلفين، حيث أصبح الناس اليوم أقرب إلى واقع كل مجتمع، وكل ملّة، وكل طائفة ومذهب. وهذا ما سيدحض كثير من التاريخ والموروث الواقعين في أسره، حيث أبى الكثير من المؤلفين والمؤرخين إلا وأن يكونوا غذاءً فاسداً لأجيال كثيرة، أصيبت بسم هذا الغذاء، الذي تطور إلى حالة مزمنة من التعصب المذهبي، والطائفي والعشائري ... وحالة مزمنة من التخدير الفكري، والانكباب على روايات وأحاديث الماضي دون أي محاكمة عقلية لها، ولماذا المحاكمة وقد اعتمدت وصدّق عليها دينياً من قبل الآباء الروحيين لهم، دون غيرها من المؤلفات المغايرة لها، والتي تظهر بها المحاكمة العقلية، والرؤية المنطقية للواقع. هذه الرؤية المحرّمة من قبل الكثير من رجالات وعلماء الدين . [email protected]