كما الزلزال الذي تتوالى ارتداداته بعد حدوثه فتثير الرعب في قلوب أهل المنطقة المنكوبة الذين للتوّ خرجوا من صدمة زلزلة الأرض تحت أقدامهم، فإنّ القرصنة الصهيونية الهمجية التي وقعت أحداثها على متن سفينة "مرمرة" التركية لازالت تُرسل ارتداداتها وأصداءها شرقاً وغرباً لتقلق المجرمين الذين صمتوا دهراً على حصار غزّة خوفاً من أن تزلزلهم عن مواقعهم أو تحدث شرخاً في بنيانهم القائم على الظلم والعدوان. ارتدادات حادثة "أسطول الحرية" أحدثت وستحدث تغييرات جذرية في تضاريس المنطقة السياسية بلا شكّ، وقد بدأت بعض آثارها تتجلّى في ردود الأفعال العالمية والإقليمية .. فجأة ودون سابق إنذار تعاقبت التصريحات المندّدة لهذا الحصار الآثم من الأمين العام للأمم المتّحدة، ثم تصريحات من معظم رؤساء العالم ومن أتباعهم الحكّام العرب وكأن جريمة الحصار بالأمس بدأت، فتنبه أوباما دفعة واحدة بأن "الوضع في قطاع غزّة المحاصرة لا يمكن أن يستمر"، ليكّرر محمود عباس (بعده) نفس جملته بلا زيادة أو نقصان، ثم ليقول مثلها كوشنير، وبلير، وجوقتهم، وليفكّر بعد ذلك الأمين العام للجامعة العربية أن يزور غزّة!! آلآن؟ وأين كانت هذه المشاعر النبيلة (!) قبل أربع سنوات حين فُرض الموت البطيء على أكثر من مليون ونصف فلسطيني؟! هزّة ارتدادية أخرى من زلزال أسطول الحرية وصلت أصداؤها إلى أبعد مدى؛ ما جأرت به عميدة المراسلين الصحافيين في البيت الأبيض "هيلين توماس"، حين عبّرت عن رأيها الحرّ و(المنطقي) بكل بساطة حول الصراع العربي الإسرائيلي بقولها: "على الإسرائيليين أن يعودوا إلى ديارهم من حيث أتوا .. إلى ألمانيا، بولندا، أمريكا"، فوضعت كلمة الحق تلك نهاية لستة عقود من العمل الصحافي الدؤوب والملتزم. هيلين؛ الصحافية التسعينية، الحيوية، المتزينة بأبهى زينتها رغم كبر سنها، كانت ترى أن الصحافة أفضل مهنة في العالم لأنه بحسب قولها: "عليك أن تواصل التعلّم باستمرار، وعليك أن تكون حارساً أميناً على الحقيقة، تطرح الأسئلة التي لا يحبّها المسئولون، وتبقى مشكّكاً إلى أبعد الحدود، حتى لو كان ذلك يزعج الذين يقبضون على قرارات السلم والحرب، أو بالأحرى على الحياة والموت"، وكانت تكرّر دائماً: "أنا صحافية أولاً، وامرأة ثانياً". قال عنها كينيدي يوماً "إنها فتاة جيدة لو ابتعدت عن الورقة والقلم"، وقال بشأنها وزير الخارجية الأمريكية الأسبق كولن باول مازحاً: "أليست هناك حرب في مكان ما حتى نرسلها إليها؟" في إشارة تهكّميّة إلى الرغبة في التخلّص منها لما كانت تسبّبه لهم من إزعاج بأسئلتها المحرجة، بينما وصفها جنرال فورد ب"إنها مزيج من الصحافة ووخز الإبر"، وأطلق عليها مبغضوها العنصريّون تسمية: "العرافة العجوز القادمة من الشرق"! ولقد ضاق بوش ذرعاً بأسئلتها الجريئة فمنُعت في فترة رئاسته من الجلوس على المقعد الذي يحمل اسمها في الصف الأمامي، وحظر عليها طرح الأسئلة في حين كانت تحظى دائماً بفرصة طرح السؤال الأول على الرئيس، كما رُفع اسمها من قائمة الصحافيين المتميّزين، وقد تأججت أزمتها مع بوش عندما أسرّت إلى زميلها مرّة قولها: "إنني أغطّي أسوأ رئيس على الإطلاق"، وعندما ترشّح ديك تشيني للرئاسة قالت إنها (ستنتحر!)، لاعتقادها بأنه (شرّير) وجزء من المخططات الشيطانية، وكان ردّها على أحد المتحدّثين الرسميين في الإدارة الأمريكية عندما أبدى أسفه على موت المدنيين في العراق: "إنّ الأسف لا يعيد الأموات إلى الحياة"، وكان أوّل سؤال سألته أوباما في أول مؤتمر صحفي له بعد انتخابه رئيساً: "هل تعرف أيّ دولة في الشرق الأوسط تمتلك أسلحة نووية؟"، ثمّ طالبته بفتح تحقيق في النتائج السلبية لقرارات الإدارة السابقة، وما فتئت تسأل عن دوافع غزو العراق. لم تكن هيلين شديدة على الرؤساء فحسب، بل كانت كذلك مع زملاء المهنة حيث كانت تقول عنهم "إنهم تحوّلوا إلى آلات طابعة لتصريحات المسئولين بدلا من أن يطرحوا أسئلة لا يستطيع الآخرون طرحها"، بل كانت تقول "إنهم يتسلّون ولا يغطّون الأخبار"، كما تساءلت عن السبب الذي جعل وسائل الإعلام الأمريكية تتحوّل من كلاب (يقِظة) تُراقب الممارسة الديمقراطية وتحميها، إلى كلاب (أليفة) تجلس على حجر البيت الأبيض وتراعي مصالح الشركات الأمريكية الكبرى، فأجابت على هذا التساؤل بإسهاب وبكل صراحة في كتابها "كلاب حراسة الديمقراطية" وضمّنته خلاصة تجربتها الصحفية مع عشر رؤساء تغيرت فيها ملامح التغطية الإخبارية من الاتصال المباشر إلى المؤتمرات الصحفية المنسقة مسبقاً إلى التلاعب بالأخبار ثم إلى السريّة والتعتيم الإعلامي، فتناست وسائل الإعلام دورها في تقديم الحقيقة كاملة للناس، وحرمتهم من الإلمام بحقيقة ما يحدث حولهم، ففضحت في هذا الكتاب التضليل الإعلامي الممارس في أمريكا، وكيف فقد الصحفيّون دورهم الفاعل في المجتمع. عبّرت هيلين توماس الصحافية عن آرائها الحرّة بصراحة، وتحمّلت الكثير لأجل قول كلمة الحق، فأزعجت الرؤساء والزملاء على حدّ سواء، ولكن لم يكن شيئا من ذلك ليفقدها كرسيها أو وظيفتها إلا ذنبها الذي لا يُغتفر حين تجاوزت الخطوط الحمراء وأدانت الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين فأُخرجت من البيت الأبيض ومن المهنة كلها .. فيحيا العدل وتحيا الديمقراطية! ..