"لقد منينا أنفسنا الأماني بمحاكمة عادلة، وخاصة مع تواتر الخطابات الرسمية وتنامي المطالبات الشعبية حول توفير شروطها وضماناتها، ولكن توالت علينا من بعد الخيبات. حملنا خيباتنا في أحشائنا ولم نقاطعها على الرغم من أن كل المؤشرات المتنامية كانت تدل على افتقادها لضماناتها القانونية". بهذه العبارات افتتحت كلمتي الأخيرة في الجلسة الأخيرة لهذه المحاكمة السياسية في مرحلتها الابتدائية في 27 يونيو 2009. لقد قررنا، يومها، المواصلة والاستمرارية فيها بوعي تام برغم إدراكنا العميق بما طال هذه المحاكمة من انتهاكات جسيمة لمقتضيات وضمانات المحاكمة العادلة وذلك حتى نبسط حججنا وأدلتنا وببناتنا وندحض المستندات المرجعية والواقعية التي انبنت عليها أطروحة الإدانة المسبقة. لم يكن الهدف، إذن، من استمرارنا ومتابعتنا لهذه المحاكمة في مرحلتها الابتدائية، أن نشارك في مهزلة الاستهتار بالقانون أو أن نزكي العبثية القضائية. لقد كان الرهان، حينها، أن نقيم الحجة ونزيل القناع عن الانتهاك والخداع ونفضح الجوهر الانتقامي لهذه المحاكمة وبعدها السياسي المتمثل في تصفية حسابات سياسية ضيقة بسيناريو بئيس وإخراج رديء، وحتى يعلم الناس حقيقة هذه القضية وخلفياتها وبواعثها بالنتيجة. وهكذا إذن، وبرغم الجهد المميز الذي قام به دفاعنا بنقبائه الأعلام وأساتذته الأفذاذ في دحض أطروحة الإدانة والتعرية عن جوهرها السياسي الانتقامي وفي بيان هشاشة المستندات التي تأسست عليها، وبرغم ما أبرزه الأضناء من حقائق تكشف زيف روايات المحاضر فضلا عما تعرضوا له من اختطاف وتعذيب مادي ومعنوي أو ما واجهوه من خداع وتدليس، فقد جاء الحكم الابتدائي ليؤكد تخوفاتنا المشروعة بخصوص هذه المحاكمة السياسية الظالمة. وقد جاء ذلك الحكم بإدانته السياسية خاليا من أي تعليل يفيد الجزم واليقين وذلك في وفاء تام لأطروحة الإدانة المسبقة التي أعلنها وزير الداخلية في ندوة 20 فبراير 2008 على مسافة يومين من اعتقالنا(!)، والتي لم تمثل مجرد انتهاك جسيم لقرينة البراءة ولسرية التحقيق فقط بل كانت توجيها صريحا للشرطة القضائية أولا ولقضاء التحقيق ثانيا ولقضاء الموضوع ثالثا وأخيرا. ومع كل ذلك وبرغم كل ذلك لم نضق ذرعا وقررنا الاستئناف أملا في صحوة ضمير سياسية وقضائية تعيد الأمور إلى نصابها وتصحح الاختلالات والانتهاكات وتحتكم إلى مقتضيات القانون – ولا شيء غير القانون – وإلى ضمانات المحاكمة العادلة. نعم لقد انخرطنا في المرحلة الاستئنافية لهذه المحاكمة السياسية على خلفية اختبارية: اختبار صدقية النوايا والإرادة وبخاصة مع الإعلان الرسمي عن إرادة إصلاح القضاء وتصويب اختلالاته الهيكلية والبنيوية، لأن الإرادة السياسية بنظرنا أقوال تصدقها الأفعال. وللأسف، ظل النهج القضائي هو هو لم يتغير: رفض كل ما يأتي من هيئة الدفاع. وأقولها وبكل حزن وحسرة لقد عشنا لحظات قضائية بئيسة تؤكد نهج الاستمرارية بل وتجعلنا نتشكك حتى في توافر شرط الأهلية من حيث الاستقلالية والكفاءة للبث في مثل هذه القضايا فكيف بوجود إرادة العدالة وتطبيق مقتضيات القانون(!). وهكذا، وبعد انكشاف الصورة، لم يعد لنا من خيار إلا أن نحاصر حصار العبثية والإدانة، فأعلنا وبصوت عال: لا للعبث ولا للمشاركة في العبثية. واتخذنا القرار بعد انعقاد شروطه، والقرار مسؤولية واختيار. وكان القرار هو الانسحاب من متابعة باقي أطوار هذه المحاكمة السياسية في مرحلتها الاستئنافية وذلك بعد أن أعطينا الفرصة الكافية (وقتا ومرونة) لهيئة الحكم الاستئنافي لإثبات الأهلية وحسن النية وتقديم العربون على أن هناك إرادة صادقة في تصحيح مسار هذه المحاكمة بما يحترم مقتضيات القانون وضماناته الأساسية. وتأكيدا على عزمنا الأكيد في مواجهة الاستهتار بالقانون وتبييض الانتهاكات الجسيمة لضمانات ومقتضيات المحاكمة العادلة، أردفنا لقرار الانسحاب من متابعة أطوار المحاكمة قرارا آخر هو: الإضراب المفتوح عن الطعام. إذن، انسحاب مع خوض إضراب مفتوح عن الطعام. أما الانسحاب، فلأنه لا يمكننا أن نكون شركاء في العبث والعبثية. أما حكم اللجوء إلى الإضراب المفتوح عن الطعام فهو حكم المضطر: لقد جردونا من كل وسائل الدفاع لإثبات براءتنا (لا شهود، لا خبرة، لا وسائل إثبات...)، ولا يمكن أن نبقى مكتوفي الأيدي. وسيلتنا اليوم للدفاع عن أنفسنا هي الدفاع بأجسادنا وأرواحنا من أجل إحقاق الحق متوكلين على الله تعالى ولي المؤمنين وناصر المستضعفين ومهلك الجبارين والمستكبرين، وهو نعم المولى ونعم الوكيل ونعم النصير. لقد تأكد اليوم أن القضاء عاجز تماما على إبراز الحقيقة في هذه القضية، وبالتالي فإنه لا حل لها إلا باتخاذ قرار سياسي تاريخي وشجاع يعلن وقف العبثية وإنهاء نهج الاستهتار بالقانون والانتهاك الجسيم لضمانات ومقتضيات المحاكمة العادلة. إن الاقرار بالخطأ لا يضعف هيبة الدولة كما يروج لذلك مهندسو إعاقة الديمقراطية ورجال الأجندة الأمنية، بل إن الإقرار بالخطأ فضيلة. واسمعوا ما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي موسى الاشعري رضي الله عنه لنعلم ولنتعلم معنى تحري العدالة والحرص عليها: " ولا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل".. نعم إن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. و لا بد من التنويه هنا أننا لا ندعو إلى الإفلات من العقاب، ولكن إذا كان العقاب فليكن بالحق والقانون أم التلفيق والصناعة الأمنية فلا يمكن أن تنتج عدالة. لقد عانت هذه القضية من ثلاث علل جارحة وناقضة لما ترتب عليها من متابعة سياسية ظالمة: الأولى، علة في المنشأ (الاختطاف والتعذيب، انتهاك قرينة البراءة وسرية التحقيق، انتهاك حقل السلطة القضائية من قبل السلطة التنفيذية..)، والثانية علة في التدبير(إجراءات معيبة فيما يتعلق بمساطر الإيقاف والتفتيش والحجز، تزوير محاضر الضابطة القضائية، حرمان من التحقيق التفصيلي...). أما الثالثة فهي علة في ترتيب الجزاء، بحيث جاءت الإدانة سياسية وخالية من أي تعليل يفيد الجزم واليقين (لا وسائل إثبات) وهو ما ينافي مقاصد المشرع الذي خص وسائل الإثبات بعشر مواد كاملة من قانون المسطرة الجنائية (المواد 286 إلى 296 منه) في إشارة منه إلى أهميتها الأساسية الحاسمة في بناء قناعة المحكمة على الجزم واليقين. إن القضاء هو الأدلة والبينات والحجج، فلا قضاء بلا أدلة ولا بينات ولا حجج. ولو كان القضاء عامة والقضاء الجنائي خاصة بمجرد الادعاء لكانت الفتنة لأن الفتنة في أحد وجوهها هي ضياع الحقوق واستباحتها. وعلى مستوى آخر، فقد عجزت المحكمة كليا على تقديم أي وثيقة أو مستند فكري وسياسي يدعم أطروحة الإدانة ويقدم الدليل الصريح على وجود قصد جنائي، لأنه كما هو معلوم في المادة الجنائية، لا يستقيم أمر المتابعة والإدانة بتوافر العنصر المادي للجريمة فقط، بل لابد من توافر عنصرها المعنوي وهو القصد الجنائي. وأمام هذا العجز الفاضح، بينا من جهتنا هويتنا السلمية المدنية مستندين في ذلك إلى وثائقنا المنشورة والتي تؤكد جميعها رفضنا للعنف كآلية في تدبير التدافع السياسي والاجتماعي واعتباره عنوان ضعف وعجز. كما أبرزنا بعض المقولات التي تؤطر رؤيتنا الإصلاحية ومنها "قوة الحجة لا حجة القوة" و" أن نشعل شمعة خير من أن نستمر في لعن الظلام".. وقلنا إن فكرا يقوم على بعث الأمل في الاصلاح والتصحيح والتغيير ويرفض خطاب التيئيس لا يمكن أن يكون مشتلا للغلو والتطرف والعنف ابدا. وللأسف مرة أخرى، وأمام كل البينات والبيانات التي تقدم بها دفاعنا الأبي في الشوط الأول من المرحلة الاستئنافية لهذه المحاكمة السياسية، ظل القضاء عاجزا لا يقدر على شيء. وقد برز عجزه في أحكامه العارضة التي جسدت بحق منطق الاستثناء القانوني، ومن ذلك ضم الشكل إلى الجوهر وهو إجراء استثنائي في مقابل البث الفوري في الطلبات الأولية والدفوعات الشكلية الذي يعتبر الأصل والقاعدة (وهذا ما تؤكده المادة 323 من قانون المسطرة الجنائية). وبهذا لم نصبح امام محاكمة سياسية بامتياز فقط بل إننا أيضا أمام محاكمة الاستثناءات القانونية، وكلاهما عنوان لعجز القضاء التام عن البث في هذه القضية بما يتوافق وقواعد وأصول مقتضيات القانون وضمانات المحاكمة العادلة. وعليه أقول: إذا قرروا ورتبوا ودبروا اعتقالنا السياسي بذلك الاخراج الرديء وبمنطق استثنائي بئيس ليحاكموننا ويتابعوننا ويدينوننا، فلهم أن يقرروا ويرتبوا ويدبروا كما يحلو لهم، ولكن لنا أن نختار كيف نعيش وكيف نموت وكيف نلقى ربنا عز وجل. وإذا كانت الأشجار تموت واقفة، فقد قررنا وعزمنا وبالله التوفيق أن نموت واقفين بحول الله وعونه، وهيهات منا الذلة، هيهات منا الذلة، إن هاماتنا التي تنحني لرب العالمين تأبى علينا أن ننحني لأحد ، فلن نلين ولن نستلين.. لقد حددوا بداية هذه القضية ونحن سنحدد نهايتها بحول الله وقوته. فيا أيها الناس.. ما هو الوطن وماذا يعني الوطن حين يهان فيه المواطنون ويظلمون؟ ما هو الوطن حين تقسمون المواطنين إلى قسمين: مواطنون لهم كل الحقوق وفوق الحقوق ولا واجبات عليهم، ومواطنون عليهم كل الواجبات ولهم بعض فتات حقوق.. أف لكم ولطريقة تدبيركم للشأن العام.. أف لكم ولعنفكم في تدبير الخلاف السياسي وتصفية الخصوم والمعارضين السياسيين.. نحن اليوم تعرضنا لعنف سياسي من قبل أولئك الذين لا يجيدون إلا التصريف الأمني. أردنا أن نمارس السياسة النظيفة، بما هي ممارسة مستقلة عن السلطة ومتعاقدة مع المجتمع، فكان من أمرنا ما كان. فيا أيها الناس، إن الشراكة في الوطن والمواطنة ليست كلمات تتلوها الألسن في المهرجانات الخطابية، بل هي التزامات عملية ملموسة يحسها المواطن. إن الأقوال التي لا تتلوها الأفعال تعتبر لغوا في قيمنا الحضارية. تملأون الدنيا خطبا حول الديمقراطية والانتقال الديمقراطي وحقوق الإنسان واحترام الإرادة الشعبية بينما على الأرض الملموسة تتجدد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. فهل بهذه الطريقة المتلكئة والملتوية نبني المصالحة وننميها؟ وهل بتصريف خطاب ظاهره ديمقراطي وحقوقي وباطنه من قبله الاختطاف والتعذيب ومختلف الانتهاكات الماسة بكرامة الإنسان سنغير صورة المغرب بين الأمم والشعوب؟ إن المغرب بحاجة إلى حلول سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية لا إلى تصريفات وترتيبات أمنية. إن البطولة الحقيقية هي أن نبني الأوطان على قاعدتي الأمن الشامل والعيش الآدمي الكريم، أن نحترم الحقوق والحريات، أن نحل المشاكل لا أن نصفي الحسابات. إن دولة الحق والقانون ليست مجرد شعارات، بل هي التزامات جدية ملموسة. لذلك، قلنا ونؤكد اليوم للذين رتبوا هذا الترتيب الأمني السياسي، صدقونا لن نكون مرمى لمدفعيتهم، وسنقبض على جمرة الأمل رغم الألم. ولعقلاء المغرب وحكمائه أقول لا تتركوا هذه الثلة تفرض على المغرب أجندتها الأمنية فلن تحقق لا ديمقراطية ولا تنمية، إنها لن تقود البلاد إلا إلى الكوارث السياسية. ولمهندسي مشروع إعاقة الديمقراطية وأصحاب الأجندة الأمنية، إليكم هذا الدرس البليغ من جنين البطولة، جنين الصمود من فلسطين المباركة. فإبان الانتفاضة الفلسطينية الثانية، قرر العدو الصهيوني أن يمحو مخيم جنين من الوجود لما كان يمثله من مقاومة صلبة لا تلين. وفي إحدى الليالي من ليالي العدوان الغاشم على ذلك المخيم، اتصل أحد المقاومين بقيادته لإخبارها بتطورات المواجهة مع الصهاينة. وطلبت منه تلك القيادة الانسحاب من موقع المواجهة لحماية ظهر المقاومة والحفاظ على رجالها، فأجاب ذلك المقاوم قيادته بكل ثقة: لقد قررنا أن تكون حربا بلا فر. وقبيل الفجر، عاود المقاوم الاتصال بقيادته ليودعهم قائلا: إلى اللقاء في الجنة يا أحبتي. بهذه الكلمات الخفيفات على اللسان الثقيلات في الميزان ودع شهداء جنين هذه الأرض الفانية. وفي الصباح، وجدوا شهداء كما اختاروا وقرروا ، نعم شهداء واقفين على ركبهم وجثتهم الطاهرة متكئة على الحائط. نعم، لقد استشهدوا واقفين.. يا أصحاب الإعاقة الديمقراطية ويا رجال الأجندة الأمنية.. لقد اختاروا الشهادة واختاروها واقفين نكاية في العدو وإمعانا في العزة والإباء. وأقول لكم من وحي هذا الدرس الجنيني الفلسطيني ومن فيض موازينه التي لا تستوعبونها بالتأكيد: لكم قراركم بظلمنا، ولنا قرارنا بعزتنا. وإذا كنا سنلقى الله تعالى في قدره وقضائه، فاشهد يارب ثم اشهدوا يا مغاربة واشهدي يا أمة واشهد يا عالم وسجل يا تاريخ.. أننا اخترنا أن نلقى الله تعالى واقفين.. سنخوض معركة الكرامة إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله عز وجل، والله أكبر من ظلمكم وطغيانكم وجبروتكم. وأختم بما قلته في كلمتي الأخيرة من هذه المحاكمة الظالمة في مرحلتها الابتدائية: "أن من يحب بلده يعطي بلا انقطاع وبلا شكوى. نحن أحببنا ولا نزال وسنبقى نحب هذا البلد بحول الله : أرضه وسماءه وبحاره وجغرافيته الصامدة بجبالها الراسخة وأهله الطيبين وكل ما فيه ولذلك نستمر في العطاء لشعبنا وبلدنا بلا انقطاع وبلا شكوى ولو كان الثمن هو حريتنا ولو كان الثمن هو حياتنا. وأقول لمن ظلمونا: قولوا لنا أي شيء أي شيء، لكن لا تقولوا أننا "إرهابيون" لأنه وكما أقول دائما ولن أمل من الترديد: الوردة هي الوردة فليسمها من شاء ما شاء فستظل رائحتها طيبة.. ولن أمل من الترديد أن هويتنا الكفاحية هوية سلمية مدنية مكلفة للاستبداد والفساد والتخلف، فليسمها من شاء ما شاء، فستظل هوية سلمية مدنية، وستظل كما هو جوهرها هوية مكلفة للاستبداد والفساد والتخلف، ولن أمل من الترديد ان الغلو والتطرف والعنف شر مستطير، وان الديمقراطية هي حصانتنا ضد كل المخاطر التي تتهدد بلادنا وشعبنا، إنها الطريق الآمن نحو مغرب قوي أمين" والعهد لشعبنا وأمتنا.. وعهدنا لهم هو الوفاء لمبادئنا وقيمنا.. لن نقيل ولن نستقيل.. والله المستعان.. (ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا، هو السميع العليم) يونس/65