اصابة 103 من عاملات أحد المعامل بضواحي تطوان بحالات اختناق شديد وإغماء، أثارت موضوع وسائل السلامة المعتمدة في كثير من المعاملاصابة 103 من عاملات أحد المعامل بضواحي تطوان بحالات اختناق شديد وإغماء، أثارت موضوع وسائل السلامة المعتمدة في كثير من المعامل بهذه المنطقة وبغيرها من مناطق المغرب. كما أن هذه الحادثة، التي لا يبدو أنها حالة معزولة، طرحت سؤال المسؤولية الموزعة بين أرباب المعامل ومندوبية وزارة الشغل والسلطات المحلية. وبينما تتضارب المواقف بين محاولة التخفيف من هول الحادث، وبين تقاذف المسؤولية بين أكثر من جهة، بادرت «المساء» بإجراء تحقيق ميداني للوقوف على حقيقة الأمر. إصابة عشرات العاملات في معمل «تيمازا» لصناعة الجوارب بضواحي تطوان بحالات اختناق وإغماء جراء استنشاق هواء منبعث من معمل مجاور لتدبير ومعالجة النفايات الطبية، تثير موضوع سلامة العمال بحدة، وتطرح أسئلة متعددة حول تحديد الجهة المسؤولة عن ذلك. لكن البحث في هذا الموضوع الشائك سرعان ما يقود إلى اكتشاف ما هو أدهى وأشد خطورة، ليس على عشرات العمال والعاملات فقط، وإنما على عشرات الآلاف سكان المنطقة. حيث أن البحث عن معلومات حول طرق معالجة النفايات الطبية يقود إلى اكتشاف مذهل، حين نعلم أن هذه النفايات يتم التخلص منها في مطرح عمومي بمدينة تطوان ترعى فيه المئات من رؤوس الماشية من ماعز وأبقار، تنتهي لحومها على موائد السكان. فقد تمكنت «المساء» من دخول المعمل، خلال الأسبوع الماضي، والاطلاع على طرق معالجته للنفايات الطبية المستقدمة من عدة مستشفيات ومصحات مغربية، وإن كانت لم تتمكن من معاينة عملية الإتلاف مباشرة، لأنهم، حسب قول مديرها العام الإسباني، «لا يقومون بذلك سوى مرتين في الأسبوع». وحسب ما صرح به ل«المساء» رئيس مجموعة أتيسا، خوسي لويس ألاركون مورينتي، فإن المعمل «يشتغل طبق آخر المواصفات المعمول بها في إسبانيا والبرتغال وتركيا»، كما نفى وجود أية غازات سامة منبعثة من المعمل. تصريحات ألاركون مورينتي كلها تصب في اتجاه نفي كل الاتهامات الموجهة إلى المعمل، مؤكدا من جهته أن أسباب الاختناق تعود إلى عوامل نفسية، حيث تم إيهام المستخدمات بأن الرائحة هي عبارة عن غازات سامة»، وهو ما تنفيه المستخدمات بشكل قاطع. وإلى حدود اليوم لم تعرف طبيعة الغازات والرائحة المنبعثة من المعمل المذكور، رغم أن رئيس المكتب البلدي للصحة كان قد أشار، في تصريح تلفزي، إلى إجراء تحاليل طبية على المستخدمات لتحديد طبيعة الاختناقات المتتالية للعاملات ونوعيتها. وعاينت «المساء» داخل الشركة وجود مئات من الحاويات الفارغة من النوع المستعمل في نقل النفايات الطبية، فيما استعرضت لنا مسؤولة بالشركة كل مراحل تدبير تلك النفايات التي، على حد قولها، «تمر في ظروف متقدمة من الناحية المختبرية والصحية». ورغم توضيحات المدير العام للشركة الإسبانية المغربية، وفتحه الأبواب ل«المساء»، فإن لا أحد من المسؤولين أفادنا بشيء حول مصير النفايات الطبية بعد «معالجتها» داخل الشركة، ولا حول توفره على محطات لتصفية النفايات السائلة كأكياس الدم وخلاصات الولادة، ووحدات الدم التالفة، وأكياس سلس بول، وإن كانت مصادر أخرى تقول أن الشركة تضمن فقط طرق المعالجة والتخلص من النفايات الطبية أو التعقيم والتطهير باعتماد التعقيم البخاري (الأوتوكلاف) بدلا من المحارق في معالجة النفايات الطبية الأخرى لكونها «تقنية صديقة للبيئة»، وأقل تكلفة من المحارق التي تصدر الديوكسين. وحسب ما عاينته «المساء»، فإن النفايات تتكون كليا أو جزئيا من الأدوية والمنتجات الصيدلانية الأخرى بالإضافة إلى أعواد التنظيف وملابس أقسام الجراحة، إضافة إلى المحاقن والإبر والمواد و«النفايات المرضية» الأخرى. ويقول رئيس مجموعة «أتيسا» إن «إدارة المعمل المجاور له يقوم باستغلال جهل المستخدمات، حيث يشيع بينهن أن الرائحة هي عبارة عن غازات سامة»، وهي الاتهامات التي ينفيها مسؤولو ومستخدمات المعمل، حيث يؤكدن أن الروائح المنبعثة من معمل إتلاف النفايات الطبية لا تطاق وتسبب لهم إغماءات واختناقات حادة، كما يشرن إلا أن الحالة الصحية المتردية التي يعانين منها أثناء الاختناق تفند تلك المزاعم. وهذا الجدل لا يمكن الفصل فيه سوى بإجراء تحليلات مختبرية متطورة على الهواء المنبعث من المعمل المذكور ومدى الأضرار التي من الممكن أن يسببها للمواطنين. ويعترف المدير العام بأنه «فعلا في بعض الأحيان تصدر رائحة كريهة في المنطقة، لكنها لا يمكن أن تسبب أية أضرار صحية على المناطق المجاورة له». كلأ للماشية وبعد زيارة شركة تدبير النفايات الطبية والاجتماع مع مديرها العام وطاقمها، قررت «المساء» التحقيق في مصير النفايات الطبية التي تغادر المعمل. فبعد تتبع شاحنة خرجت من الشركة المذكورة، وجدنا أن مصير النفايات الطبية لم يكن سوى المزبلة العمومية (المطرح العمومي) خارج مدار تطوان. أطنان من النفايات الطبية يتم رميها بشكل علني في المطرح، دون أن يتم وضعها في أكياس مغلقة بإحكام، كما هو معمول به في الدول الأوربية بعد تدبيرها ومعالجتها. لقد كان منظر مئات رؤوس الماعز والأبقار مقززا، وهي تلتهم النفايات الطبية دقائق بعد رميها والتخلي عنها من طرف شاحنة لا تحمل أية إشارة إلى حملها لنفايات طبية. فلا أحد يعرف حجم المخاطر الصحية التي من الممكن أن تصيب ساكنة تطوان جراء تناولها لحم ماشية ترعي من النفايات الطبية والأزبال والقاذورات. ويقول طبيب فرنسي مختص ل«المساء» إنه «على ولاية تطوان ومدير المكتب البلدي تحمل مسؤولياتهم في ما يأكله المواطنون»، فلا يعقل، يقول الدكتور الفرنسي، أن تأكل أسر مدينة تطوان وعائلاتها لحوما كانت في السابق لماشية علفها المزابل والنفايات الطبية. لقد كانت خمسة أيام من تتبع خيوط مصير النفايات الطبية كافية لاستشراف حقائق أخرى، فقد عاينت «المساء» كذلك وجود مئات الإبر والنفايات الطبية متكدسة داخل قناة الصرف الصحي في مجرى لصرف المياه العادمة لشركة «أتيسا ماروك»، وهي من ضمن القنوات التي تصب في بعض الوديان وبحر مرتيل. وتتوجه شركة «فيولي-أمانديس» إلى قناة صرف مياه المعمل لإصلاحها بعد تكدسها بمئات الإبر والنفايات الطبية المعدية الأخرى. يبقى ملف النفايات الطبية شبه «تابو» بالنسبة إلى وزارة الصحة المغربية، حيث لا يعرف عدد المصحات التي تعالج نفاياتها الطبية بشكل مسؤول حتى لا تؤثر على صحة المواطنين، كما أن السؤال المطروح من طرف الدكتور الفرنسي المختص في النفايات الطبية هو كم هو عدد المستشفيات والمصحات الخاصة المغربية التي تعالج نفاياتها الطبية المعدية، وما هو مصير التي لا تحظى بأية معالجة خاصة، سواء عن طريق اعتماد تقنيات المحرقة أو التعقيم البخاري؟ إن حالة التلوث بفعل النفايات الطبية والمصادر المسببة لها هي سبب مشاكل متعددة، منها ما يمكن اعتباره مشكلة بيئية إقليمية أو محلية، كما موضوع حق الإنسان في بيئة نظيفة لا يمكن أن يأخذ أبعاده الحقيقية إلا بتناوله ضمن سياقه الطبيعي، أي من خلال دراسة العلاقة بين البيئة والسياسة، والنتيجة الضرورية لتفاعلات السياسة والبيئة، وحتمية ظهور سياسات بيئية، لتبقى مدى فعالية هذه السياسات مرتبطة بدرجة النضج السياسي البيئي للدولة ودور مؤسسات المجتمع المدني. جمال وهبي - المساء