تعد وفاة الأستاذ محمد سعيد كرابو يوم الإثنين الماضي (24 رمضان الموافق ل 14 شتنبر الحالي) ، فرصة للوقوف وقفة تأمل في المعاناة التي يكابدها عدد من نساء ورجال التعليم بعدد من النيابات والمؤسسات التعليمية بمختلف المدن المغربية ، وخاصة منها نيابة الفحص أنجرة التي تكاد تكون النيابة الوحيدة في المغرب التي يقع امتدادها الجغرافي بالكامل على جماعات ومناطق قروية 100% ، بعدما اقتطع منها كل التراب الحضري لجماعة العوامة ، مع التقسيم الإداري الأخير الذي دخل حيز التنفيذ منذ انتخابات 12 يونيو الماضي . وإذا كان هذا الاقتطاع الذي حصل قسرا لصالح أحد المرشحين في الانتخابات الأخيرة حسب ما يجمع عليه عدد من المختصين ، فإنه يعد في نظر الشغيلة التعليمية بنيابة الفحص أنجرة كارثة ، أغرقت سفينتهم وسط هضاب وجبال الفحص المنيعة غير المجهزة ، وأضاعت عليهم ملاذا للانتقال كان يعد جنة لنيابة الفحص أنجرة . سوء حال إقليمالفحص وضعف المستوى والبنيات التعليمية به ، كان موضع انتقاد من لدن أحد الجمعيات المحلية بالإقليم ، حيث اعتبرت جمعية سيدي علي بن حرازم المحلية في آخر تقرير لها شهر فبراير الماضي أن الوضع المحلي لقطاع التعليم ليس بأحسن حالا من الوضع الوطني. واعتبرت أن الدخول المدرسي للموسم الماضي 09/08 قد تميز داخل الإقليم بالارتجال والعشوائية وتدهور حال المؤسسات التعليمية بالإقليم نتيجة وجود بنيات تحتية مترهلة ،واحتشام تمثيلية جمعيات الآباء وأولياء التلاميذ، في غياب أية إرادة حقيقية لتجاوز المشاكل كالخصاص في المدرسين بمجموعة من المدارس رغم مرور 6 أشهر عن بداية الموسم الدراسي، وغياب الوسائل البيداغوجية، وصولا إلى ظاهرة الاكتظاظ في الأقسام ،وتشتت الفرعيات والقيام بدمج الأقسام ،وتكريس ظاهرة الأقسام المشتركة ، ومعاناة العديد من نساء ورجال التعليم من الظروف المزرية التي يشتغلون فيها. كما ندد التقرير أيضا بغياب أي قسم داخلي بالإقليم يساعد على إيواء التلاميذ ومساعدتهم على متابعة الدراسة. ويبقى الملجأ الوحيد في الإقليم هو الجمعيات الخيرية اليتيمة. وبهذه الميزات التي ذكرها التقرير ، يصبح إقليمالفحص بالنسبة لعدد من العالقين به من الشغيلة التعليمية ، بل وحتى موظفي باقي القطاعات ، عبارة عن معتقل كبير ومفتوح .ولاشك أن من أفلح في النجاة منه ممن أسعفهم الحظ من الأساتذة في الانتقال أو التواجد بجماعة العوامة ، يعد سعيدا بإضافة هذه الجماعة لنيابة طنجة أصيلة . وبالتأكيد فإنه لم يغب عن مختلف الفرقاء الاجتماعيين بنيابة الفحص توقع هذا الحدث والاستعداد له ، عن طريق منح عدد من أطواق النجاة لثلة من الغارقين والغارقات في مستنقع "الفحص" ، وذلك من خلال حركة محلية موسعة وسريعة بداية الموسم الدراسي الماضي 09/08. استطاعت من خلالها عدد من الأستاذات "الزوجات" الالتحاق بجماعة العوامة منتقلات من جماعات أخرى داخل الفحص، كما أن منهن اللواتي تركن أزواجهن بعدد من جماعات الموت كما يسميها بعض العاملين هناك. إذا كان هذا مصير المحظوظين، فإن مصير القابعين بالفحص من هيئة التدريس، يوقع هذه السنة على دخول مستعجل من الوزارة قوامه إلغاء التوقيت المكيف. وليس غريبا أن تكون أولى ردات الفعل على مذكرة الإلغاء المذكور المرقمة بالرقم 122 ، تأتي من نيابة الفحص المجروحة بمآسيها ، وهكذا وجهت نقابة الجامعة الوطنية لموظفي التعليم بنيابة الفحص رسالة احتجاجية في الموضوع في اليوم الموالي للإعلان عن صدور المذكرة على الموقع الإلكتروني للوزارة،قامت عدد من الجرائد الوطنية بنشرها لاحقا . ولتأتي وفاة المرحوم محمد سعيد كرابو ، لتفضح جانبا من المستور من معاناة الشغيلة التعليمية بنيابة الفحص أنجرة. "كرابو" الذي تربى بحي المصلى الشعبي في قلب مدينة طنجة، من عائلة فقيرة . لكنه لم يألف شظف العيش ، ولا عدمته الوسيلة. تابع المرحوم دراسته الثانوية بثانوية مولاي رشيد بطنجة ، وحصل على شهادة الباكالوريا سنة 1995م. وترشح لمباراة مركز المعلمين بطنجة في نفس السنة، لكنه لم ينتقى ، فاتجه للدراسة بكلية العلوم والتقنيات بطنجة حديثة الافتتاح . ليعاود الكرة في السنة التي تليها ، ويتقدم مرة أخرى إلى مباراة التعليم التي تم قبولها فيها هذه المرة ، ويتم استضافته بمركز المعلمين سنتين تخرج عقبها سنة 1998م ، وهنا بدأت معاناته مع مهنة التعليم حينما عين بإقليم زاكورة في مؤسسة تعليمية سبق وأن كانت وجهة لعدد من التعيينات التأديبية . مؤسسة خارج التغطية وفي عمق "البيسطا" . تزوج محمد سعيد من هناك ، وازداد له إبن ذكر ، قبل أن ينتقل لما هو أنكى وأمر بالشاون ، و تكون آخر محطة له هي مجموعة مدارس "عين بوخلفة" بجماعة تغرامت الجبلية .وخلال الموسم الدراسي 2002/2001 أوقف المرحوم"كرابو" دراسته الجامعية في السنة الرابعة من شعبة أصول الدين بعد أن كان قد وقع على مسار تعلمي متفوق ، وذلك بسبب تدهور ظروفه الصحية والاجتماعية ،و تعقد ظروف العمل التي عاقت مواصلته لإعداد بحث نهاية الدراسات الجامعية . لم يكن المرحوم بأسعد حالا في مكان تعيينه الأخير، وفي فرعيته البعيدة، وظل تائها بين الاستقرار داخل فرعيته رفقة عائلته التي بدأت تكبر وتكبر معها حاجياتها ومسؤولياتها، والاستقرار في مدينته التي تربى فيها رفقة أسرته وأبنائه المحتاجين لتعلم كاف بعيدا عن ما يسميه الأساتذة ب"السمطة": وهي صنف المستويات المتعددة المكدسة بأغلب أقسام نيابة الفحص ، والتي كانت من نصيب "محمد سعيد" ، وهي نفس قدر عدد من الأساتذة هناك. أخيرا قرر المرحوم الكراء بحي ادرادب الشعبي ، وهو الذي يتحصل كل شهر على مرتب بسيط للسلم التاسع ، وزوجة هي ربت بيت . ربما يسارع البعض في القول أنها قصة عادية لمعاناة متشابهة يعانيها أغلب رجال التعليم، ولكن الفارق أن "محمد سعيد" لم يستطع مقاومة آلامه ومعاناته مع التعليم، لتبدأ معاناته النفسية وعزلته التي تطبع عليها في التعمق شيئا فشيئا. وبدأت ملامح المرض النفسي تظهر للعيان خاصة مع تعيينه البعيد داخل شعاب مجموعة مدارس "عين بوخلفة". وبدأ صداها يصل لنيابة الفحص أنجرة ، وكثرت شكايات الأهالي به ، وسريعا ما تحولت علاقته السيئة بالإدارة إلى إرهاب نفسي ومعاناة يومية يعيشها . وعلى الخط تدخلت نقابة الجامعة الوطنية لموظفي التعليم بالفحص أنجرة، ومعها مكتبها بطنجة أصيلة وبخاصة كاتبها الإقليمي الأستاذ الطيب البقالي الذي كان مقربا جدا من المرحوم وظل يعطف عليه ويتفهم مشاكله وينصت إليه إلى الحين الذي توفاه فيه الأجل . "كرابو" الذي اكتشف ذاته داخل النقابة وبدأ يستظل بظلها، كان يستعطف كل من يعرفهم ، ويطلب منهم نقله من مكان عمله المعين فيه ، وكم كانت كثيرة لقاءاته داخل نيابة الفحص أنجرة بغرض الحصول على تعيين أو حتى تكليف يصلح حاله النفسي والصحي المتدهور . وأخيرا وجدت هذه المعاناة صداها لدى النقابة واستطاعت أن تحصل له على تكليف بأحد المؤسسات التعليمية بجماعة العوامة التي سبق أن قلنا أنها كانت ملجأ كل الهاربين من جحيم الفحص. لكن أجل التكليف ما فتئ أن انقضى ولم تنتبه نيابة الفحص ولا عدد من مسؤوليها إلى معاناة هذا الرجل المسكين ، بل ربما تشابهت عليهم أصوات المستغيثين من عذابات الفحص وشكاوى كل العاملين هناك، وربما عدت معاناته نمطا عاديا من المعاناة ، أو لربما توهم البعض كذبه وكذب كل الأوراق الصحية التي أدلى بها ، من فرط ما يلجأ بعض رجال ونساء التعليم إلى تزوير شواهد لأطباء نفسانيين أو أخصائيي الدماغ أو القلب... ( واسمحوا لي فإنني لا أقصد هنا المرضى حقيقة )، وربما تعنت البعض في عدم منح أي امتياز للمرحوم، قد لا يخوله له القانون بسبب المعايير الصارمة للحركة و غياب المناصب الشاغرة خاصة في مناطق الامتياز. الحق أن الحالة المرضية للمرحوم لم تكن تحتاج للحجج ولا تدعو للارتياب في حقيقة مرضه التي كانت تتدهور يوما بعض يوما إلى درجة أن بدأت تفصح عن بعض مظاهر الهلوسة وفقد الذاكرة الحاد والمؤقت. عودة المرحوم إلى مقر عمله بداية هذا الموسم ، وفق ظروف عمل روتينية بئيسة وصعبة ، ووسط أجواء رمضانية ساخنة ، وفي ظل دخول مدرسي تكثر فيه التحملات المالية . كل هذه عوامل قد تكون سببا في الارتفاع المفاجئ لنسبة السكر في دم المرحوم إلى 5 غرامات ، نقل على إثرها لقسم الإنعاش الطبي بمستشفى محمد الخامس ، قبل أن يحل أجله هناك ويتوفاه الأجل سريعا من دون سابق علمه بهذا المرض. وفاة المرحوم تجعلنا نطرح عدة أسئلة عن عدد الوفيات المرتفع داخل أسرة التعليم قبل حلول الموعد الافتراضي للتقاعد، بحيث توفي السنة الماضية أكثر من عشرة أساتذة بنيابة طنجة ، كان من بينهم عدد كبير من رافقهم المرض العضال إلى مثواهم الأخير . وتوفي أستاذان بالفحص . كما توفي أستاذان مع بدء الموسم الحالي واحد بكل من نيابتي الفحص و طنجة، عانى كلاهما من مرض مزمن . يجوز لنا أن نتساءل عن حقيقة خارطة الأمراض التي تصيب أسرة التعليم ببلدنا، و ما مدى و طبيعة التأمين الصحي والتعويضات المترتبة عنها ؟ وهل فعلا تهتم كل من الوزارة الوصية والنيابات بالأحوال الصحية والنفسية لمواردها البشرية ، أم أنها تتسرع دائما في معاقبتها على نتائج هذه الأمراض وإحالتها على المجالس التأديبية بسبب كثرة التغيبات ؟ ولماذا لا يستوعب التشريع الإداري المغربي مختلف الحاجيات الصحية والاجتماعية للموظفين ، ويتسرع في عقابها ماديا وتأديبيا ؟ ويبقى السؤال المهم الذي يطرح نفسه بإلحاح داخل اللجان المشتركة الإقليمية وعلى النيابات هو : إذا كان القانون يفرض على الحالات المرضية مسطرة قانونية في التصريح بالغياب أو المرض ، فهل ينبغي تطبيق نفس المسطرة على أناس غاب عقلهم واضطربت نفسياتهم ؟ ومن المسؤول عن اتباع هذه المسطرة من العاقلين ؟ ربما كان على العقلاء من نيابة الفحص الانتباه قبل فوات الأوان إلى حالة "كرابو" وتغليب حكمتهم ، في توفير ظروف أفضل له ولأمثاله من المرضى أو النساء أو الحوامل على وجه الخصوص . نيابة الفحص التي فاتها التصالح مع ذاتها ومع شغيلتها حينما ضيعت فتى شابا في العقد الثالث من عمره، ك"محمد سعيد" واختطفه من بين أيديها الموت ، ليترك لها منصبا شاغرا في منطقة لن يكون كثيرون بأحرص على ولوجها ، ولكن الضحية لا محالة قادم. ولم يكن حال المرحوم في علاقته بالنيابة بأفضل حالا مما آلت إليه حال 5 أساتذة من مجموعة مدارس مشلاوة ، الذين أمضوا عطلة صيف سعيدة بدخولهم ضمن النفوذ الترابي لنيابة طنجة مع التقسيم الإداري الجديد . واستمر هذا الحال مع توقيع محضر الدخول للموسم الحالي 00/09 ، لكنهم تفاجأوا بشدة يوم الدخول المدرسي بقرار النيابة تقليص البنية المدرسية للمؤسسة ، مما أفاض 5 أساتذة في المجموعة ، وبدل أن يصبحوا تابعين لنيابة طنجة رفقة بقية إخوانهم بنفس المجموعة، فإنه قد وقع سلبهم من المؤسسة ليصبحوا مرة أخرى غنيمة لنيابة الفحص أنجرة ومجموعة مدارس النوينويش المجاورة. بعد أن تم تبادل تسليم ملفاتهم يوم الإثنين الماضي بحضور ممثل عن نيابة الفحص أنجرة. ولم يستسلم الأساتذة الفائضون لهذا القدر وهذا الفصل السيامي العاثر، بل دخلوا في حوار مع كل من النيابة والأكاديمية بغية إيجاد مخرج للأزمة التي قد تؤدي في حال إصرار نيابة الفحص على قرارها بالتمسك بالفائضين ،إلى إحباط نفسي ستنعكس آثاره لاحقا على الأداء التعليمي لأولئك الأساتذة ، وكذا علاقتهم بنيابتهم التي ظلت مستمسكة بهم كما يستمسك السجان بمسجونيه. وإلى أن تغير النيابة من إستراتيجيتها في بناء علاقاتها مع مواردها البشرية خاصة مع العهدة الجديدة للنائب الجديد القادم هذا الصيف من نيابة بولمان "محمد بركان" ، وكذا رئيس مصلحة الموارد البشرية الجديد الذي وقع حديثا على علاقة طيبة مع الشغيلة ، فإن عددا من أشكال التضامن النقابي والمهني قد بدأت تتبلور مع الأساتذة المتضررين ضدا على القرارين الجائرين للتقسيم والتسليم ، كان أولها ما بادرت إليها نقابة الجامعة الوطنية لموظفي التعليم بفرعيها بطنجة والفحص ، وكذا التحرك الواسع الذي قام به الأخ الكاتب الإقليمي للنقابة الأستاذ الطيب البقالي . يرحمك الله يا أخي وصديقي "كرابو" وأتمنى أن تكون هذه المقالة جزء من تعزيتي في وفاتك بعدما لم أتمكن من حضور جنازتك بسبب الإلتزام بالتدريس حينها .