تطوان ..... المدينة الهادئة، الساحرة الحالمة،المتميزة بأبنيتها ذات الطابع الإسباني والمحاطة بحزام طبيعي يخلب الألباب .....التي عشقتها إلى حد الجنون كما عشقت جارتها طنجة. قضيت فيها سنتين تعدان محطة هامة في مساري المهني.....بحلوهما ومرهما.فيها تعلمت دروسا كثيرة واكتشفت أشياء جديدة ..... كان لها أكبر الأثر في حياتي المهنية والاجتماعية. في خريف سنة 1993 شرعت في تلقي أولى الدروس بمركز تكوين المعلمين.كان علي أن اقضي سنتين من أجل الظفر بشهادة الكفاءة التربوية. سنة واحدة نظرية وأخرى تطبيقية. لقد صرت طالبا معلما....... كنت في الحقيقة مزهوا بهذا اللقب الجديد،أمشي بخيلاء في الشوارع ، وأنظر بتعال......وزرة بيضاء وربطة عنق ومحفظة دبلوماسية ورثتها قبل الأوان عن أبي. كانت الصورة التي أحملها عن مهنة التعليم مثالية. استحضرت في ذهني دوما تلك القيمة والاحترام اللذين أكنهما لأساتذتي. استحضرت تلك المنزلة العظمى التي يحظى بها الأستاذ في مجتمعنا خلت نفسي أنني سأحظى باحترام مماثل لما أصير أستاذا. فيما بعد أصبت بالصدمة ، لم أفق منها إلا بعد زمن . قبل ذلك ، كان علي أن أكتري غرفة ، فقد تعبت من الذهاب والإياب يوميا إلى طنجة ، وعلي ألا أثقل كاهل والدتي بمصاريف جديدة. كانت المسكينة لا ترفض لي طلبا. في صباح الغد،قررت وصديقي رشيد أن نبحث عن الكراء. ظللنا اليوم بطوله نفتش عن غرفة بثمن بخس. ذكرني ذلك اليوم بيوم مماثل قضيناه بفاس....... وبعد لَأْيٍ وتعب شديدين، ألفينا غرفة في منزل متواضع ب" حي الطويلع"....غرفة جدرانها تتداعي كلما لمسناها، رطوبة عالية، رائحة نتنة.....بها نافذة صغيرة تطل على محل لتزيين العرائس.... رمقنا من خلالها غادة حسناء يبدو عليها أنها تشتغل بالمحل المذكور...كانت تنظر إلينا بتمعن .وكأنها تتساءل عن طبيعة الجارين الجديدين.ابتسمنا لها وابتسمت لنا. ابتسامتها أنستنا تعب اليوم وبؤس المكان. راجعنا صاحب المنزل في ثمن الكراء ،فقد كان باهظا في ذلك الوقت مقارنة مع تواضع الغرفة. أربع مئة درهم للشهر وأداء لشهرين مسبقا . ظل صاحب البيت متشبتا برأيه بعد أن لمس حاجتنا للكراء. كان عليه أن يستغل الفرصة السانحة.... وكان علينا أن نرضخ...... والحياة فرص كما يقال. لعنته ورفسته كثيرا في خيالي . في الصباح الباكر من اليوم الموالي استيقظنا مفزوعين على ضجيج أطفال غير عادي.ظننا للوهلة الأولى أن الأمر يتعلق بأطفال الحي يلعبون ويرتعون في الزقاق أو لمدرسة مجاورة لنا. كان ظننا في غير محله....ومفاجأة بانتظارنا. تعودتُ على المفاجآت. علمنا متأخرين أننا لسنا الوحيدين في ذلك المنزل،فقد كان الظلام حائلا بيننا يوم أمس حتى نتمكن من تمييز عدد الغرف و سكان المكان..... فالمنزل عبارة عن بيوت متفرقة ملتصقة ببعضها يتوسطها فناء واسع . كل له وظيفته. وقد كانت الغرفة المحاذية لنا معدة للحضانة والساعات الإضافية ليلا. لذا كان علينا أن ننهض مبكرين كل يوم، وننام متأخرين. أقمنا علاقة ود واحترام مع مربية الأطفال.كانت تبدو بائسة من ملامحها ،في مقلتيها حزن دفين، قامتها تميل إلى القصر وجسدها يغيب عنه التناسق، شبيهة بشرقيي قارة آسيا ، اشتكت لنا ذات يوم من جشع صاحب المنزل.فقد كانت مستأجرة لديه بثلاث مئة درهم للشهر. يا له من أَفاقٍ!!!!!.هكذا عبرت مندهشا. كان صاحبنا يفهم في كل شئء. سمسار ومدير حضانة ومسير متجر وما خفي كان أعظم. قيل لنا فيما بعد أنه مارس مهنة التعليم لسنوات ثم استقال لأسباب يعلمها الله. فكرتُ : ربما مهنة السمسرة أكثر ربحا من مهنة التعليم. كنا نُنْقِدُ المربية بين الفينة والأخرى مما نتحصل عليه من المنحة الهزيلة التي نتسلمها من المركز كل شهر. تعابير وجهها أثناء نقدنا إياها أبلغ من اللفظ. عاملة محل تزيين العرائس تظل تطاردني بنظراتها كلما مررت بجانب الدكان. إغراؤها لي كان لا يقاوم.كدت أقيم علاقة عاطفية معها لولا جيبي اللعين. في المركز كان الأمر مختلفا كليا....هدوء واتزان وسكينة ووقار. البياض كان السمة الأبرز في المركز.فالكل يرتدي الوزرة البيضاء ... عدا المدير ومدير الدروس والأساتذة.أما نحن الطلبة المعلمين فيا ويلنا إن نسينها. توبيخ وتقريع وطرد من الحصة الدراسية. أستاذ اللغة العربية دائما ما يردد هذه اللازمة : أنتم محظوظون" . حقيقة كنا نسخر من كلامه. لم نعرف المغزى منه إلا في السنة المقبلة..حيث زف إلينا خبرا مفاده أننا سنتوظف مباشرة بالسلم التاسع عوض الثامن الذي كان يتخرج به الطلبة المعلمون في تلك الفترة. وهكذا عمت الفرحة المركز،وعلت الابتسامات الوجوه. دعوت بعضا من زملائي لحفلة شاي على حسابي الخاص.فقد كنت مسرورا بهذا الخبر. دفعني الفضول ذات يوم للاستفسار عن الفرق المادي بين السلم الثامن والسلم التاسع. فكانت الطامة الكبرى ...... وجدت أن الفرق بينهما لا يتعدى مئة وخمسين درهما. وسقط في يدي..... وتحولت الابتسامة إلى وجوم . تحسرت كثيرا على حفلة الشاي التي أقمتها لزملائي على حسابي. كلما التقيت بأستاذ اللغة العربية أقول له في خيالي: فعلا إننا محظوظون !!!!! أما أستاذ الرياضيات فقد كانت لهجته تطوانية جبلية صرفة.طريقة نطقه فريدة من نوعها ،كنا نتوق لسماعها. لقد كان جبليا أبا عن جد. دائما ما كنا نفتح نقاشا مع أساتذتنا حول آفاق مهنة التدريس بعيدا عن الدروس النظرية التي نتلقاها. بعض منهم يؤكد على ضرورة الالتزام بما تعلمناه في المركز وتنفيده تنفيدا حرفيا، وأن كل ما يقال عن شساعة الهوة بين ماهو مدرس وما هو واقع هو مجرد أراجيف لا أساس لها من الصحة.فيما يذهب البعض الآخر إلى القول بأن ما نتلقاه في المركز سيبقى هنا،أما الواقع الذي ينتظرنا فهو شيء آخر..... قال لي مدير الدروس ذات يوم في تهكم لا يخفى : قريبا ستستغني عن ربطة العنق هذه وعن المحفظة الدبلوماسية ،أكيد أنك لن تأخذهما معك إلى مدينة "طاطا". لا أعرف لماذا اختار مدينة طاطا من دون المدن الأخرى.أهي أخطر المدن ؟ فكرت: ربما يحسدني ويغار مني. فمحفظتي كانت أثمن من محفظته. في أحايين كثيرة كنا نتجمهر أمام مكتب المدير نطالب فيه بتسريع وتيرة صرف المنحة رغم هزالتها. ليست المرة الأولى لي في الاحتجاج.فقد سبق لي أن مارسته إبان حرب الخليح بثانوية زينب النفزاوية. ظللنا نحتج ضد العدوان الأمريكي الغاشم على الشعب العراقي الشقيق لشهرين متتابعين. كانت فكرة الاحتجاج تروقنا،لأنها كانت تعفينا من ساعات الدرس، كما كانت تعجب أساتذتنا. لمسنا ذلك من خلال تعابير وجوههم. لذا لم أجد صعوبة ولم ترتعد فرائصي لما عبرت عن امتعاضي من تأخير صرف مستحقاتنا لثلاثة أشهر متصلة ببعضها رغم الوجه المتجهم والصارم للمدير. كانت المنحة حوالي أربع مئة وتسعة وأربعين درهما للشهر إن لم تخنني الذاكرة. لا أدري ما الحكمة من ذلك الدرهم الناقص. كان المدير يرغي ويزبد ويهددنا بأوخم العواقب إن لم نلتحق بأقسامنا. وأحيانا أخرى كان يبتسم ابتسامة تبدو لي ماكرة. ربما كان يسخر من فقرنا.هكذا ظننت. أليست مهنة التعليم مهنة الفقراء فقط كما يقال ؟ ومع ذلك لم نكن نستسلم لتهديداته حتى يلين. فقد كانت الحاجة أقوى منا ومنه. بعد نهاية الحصة الصباحية ،كنا نعود أدراجنا إلى المنزل مشيا على الأقدام رغم بعد المسافة. كان شعارنا الأزلي، الاقتصاد ثم الاقتصاد عند العودة كان علينا أن نطهو وننظف ونكنس . يوما بعد يوم كنا ندرك قيمة الأم والأخت ....والمرأة بصفة عامة في حياتنا. سكان جدد شاركونا تلك البناية الغريبة.كانوا أساتذة التعليم الإعدادي. مساء كنا نتوه في شوارع ودروب تطوان.باب العقلة ، الفدان ، باب النوادر...،أحيانا نشترك وزميلي في احتساء كأس شاي منعنع بمقهى شعبي بئيس. نظرات النادل إلينا احتقارية. يعلم كل العلم أنه لن يظفر بسنتيم زائد عن ثمن المشروب. لم يكن ذنبنا. ليلا وبعد مغادرة أساتذة الساعات الإضافية للحضانة،كنت أستغلها من أجل المراجعة والمذاكرة والاستعداد ليوم الغد. أحيانا كنت أمارس مهنة التعليم مع كراسي فارغة. كنت آمر هذا بالوقوف وهذه بالجلوس وآخر أهدده بالضرب المبرح إن لم يلتزم الصمت. خلال فترات متباعدة من الموسم الدراسي، أزور مدينة مرتيل . كورنيشها يغريني بالمكوث فيها لفترة أطول . الجلوس بجانب شط البحر يمنحني فرصة للتأمل ،للنظر إلى الأفق البعيد.....للتفكير في المستقبل..... أتحسر كثيرا عندما أمر بمحاذاة جامعة عبد المالك السعدي. أتذكر حلمي الجامعي الذي اغتيل في المهد......فتدمع عيناي. في نهاية الأسبوع وأحيانا بعد مرور خمسة عشر يوما ،كنت أقفل عائدا إلى طنجة لأصل الرحم. ثم أرجع مساء الأحد. والدي حالته تسوء يوما بعد يوم.نصح بعض الناس والدتي بزيارة مستشفى متعدد الاختصاصات بالعاصمة الرباط. أمي تنفد كل ما يقوله الناس لها. لم تترك مستشفى أو عيادة أو فقيها أو ضريحا إلا وزارته . المسكينة فقدت ما ادخرته في زمن يسير.وكان عليها أن تستدين.وكان علي أن أكون أكثر تقتيرا. أملها في شفاء أبي كان كبيرا، فلم تيأس ولم تقنط من رحمة الله . في مطلع سنة 1994 توجهت أمي صحبة أبي إلى الرباط تاركة أختي عند جدتي. قضت مع أبي هنالك زهاء ثلاثة أشهر متتابعة ترعاه وتتعهده. ما أوفى المرأة المغربية لزوجها!!!!! وهكذا عشت التشرد العائلي بصيغة أخرى. والداي بالرباط ،أختي بطنجة ،وأنا بتطوان. في ربيع سنة 1994 لبى أبي نداء ربه قرير العين، طلق المحيا ، مبتسما كعادته ،تاركا وراءه زوجة مكلومة ، وولدين شربا من كأس اليتم مبكرا. يتبع