لا سياسة في المغرب ، اذ ان مفهوم السياسة اليوم يتحدد حسب المعطى الآتي ، حكومة ومعارضة ، وبما أن هذين المعطيين غائبان في المغرب اليوم أكثر من اي وقت مضى ، فان الحكم البدهي على هذا الغياب هو انتفاء الفعل السياسي بهذا البلد . لكن البحث لن يتوقف هنا ، بل من هنا ستكون انطلاقته . كل الباحثين اليوم يجمعون أن المؤسسة الملكية سحقت كل عمل سياسي وكل مبادرة سياسية . لكنهم جميعهم يقفون عند هذه الحقيقة ولا يضيفون أن هذه المؤسسة لا يمكن لها أن تهيمن وتستأثر بالمشهد السياسي الا بتواطؤ مع تأثيثات هذا المشهد ، وتأثيثاته هي الأحزاب الحكومية وتلك التي تبخرت في معارضة لاوجود لها ، او تلك التي تخلت عن العمل السياسي المباشر وانزوت كما ينزوي كثير من رجال التصوف عن العمل الدنيوي وهم أحياء في الحياة يدبون ويعظون . في المغرب أصبح السياسيون اليوم من طينة أخرى ، لا يجمعهم سقف حزب ما او جمعية ما ، فالمتتبع لجرائد الأحزاب التي تعتبر لسان حالها والمتحدثة بانشغالاتها ، يجدها لا تحفل الا بالشتم والسب ، او تمجيد ما يصنعه الملك ، ولا يهمها مآل الشعب او مستقبل البلاد أو رهاناته التي هي في حكم المغيب . وهي أيضا لا تتوفر على مشاريع واضحة او برامج محددة ، هي أحزاب تحطب بالليل ، والمتتبع لنشاطات الجمعيات والأحزاب الهامشية يجدها تغرد خارج السرب ، لا هي داخل ساحة الوغى ولا هي من المتفرجين ، بل حسبها خلط الاوراق وانتقاد الجميع ،دون تقديم بدائل وحلول ، او الانخراط في العمل السياسي الذي يتطلب مجهودات لا تقوم بها حتى تلك الأحزاب الممثلة في الحكومة . والسياسيون الذين أعنيهم هنا هم فئة من المحللين والصحافيين والأكاديميين المستقلين ، وكأنهم بدافع الغيرة والحسرة تجردوا لملء ساحة السياسة بالمغرب ، وقراءة خرائطها الصحراوية الفارغة . لا يمكن للسياسة ان تثمر فعلا سياسيا الا اذا انخرط أهلها في صميم ما يهم شعوبهم ، وفي صميم الاكراهات والرهانات التي تتحداهم ، وأي عمل سياسي لايقوم على التطوير والاغناء يظل نوعا من التواري المقنع عن مسؤولية ضخمة لم يتم للآن استيعابها من قبل الوجوه السياسية الجديدة ، التي احبطت وأدخلت في لعبتها الوجوه السياسية القديمة التي عاصرت بعض السياسيين العتاة ، وعايشت نوعا من السياسة الفاعلة الجادة . كان بالامكان تطوير الأداء السياسي وترقيته ، عوض تبخيسه وتسفيهه ، والمراقب الموضوعي قد يصدمه هذا التحول التراجيدي لمسار السياسة بالمغرب ، فهو على الأقل لم يكن يعيش في ظل نظام الطوارئ مثل مصر وسوريا ، ولم يكن يعيش تجربة الحكم العسكري كما حال ليبيا والعراق ، ولم يكن يعيش تحت سيطرة عائلية كما هو حال دول الخليج العربي ، ولم يأت نظامه عبر انقلاب عسكري كما هو حال موريتانيا والسودان ، لكنه كان يتشكل ، ما يزال ،من جميع هذه الظواهر السياسية بنسب متفاوتة ، مما جعله يعيش على مستوى العطاء الفكري السياسي نوعا من الانفتاح والعطاء والابداع . لكن وبعد الاتفاق السري بين عبد الرحمان اليوسفي والملك الحسن الثاني ، وبروز ما سمي بالتناوب الديمقراطي ، تم التراجع وبشكل فجائعي على جميع الانجازات السياسية التي كان المغاربة قد حققوها ، وعلى رأسهم النخبة السياسية والمثقفة . ففي لحظة الاتفاق تم الاخفاق . ومنذ تلك اللحظة عرفت الساحة السياسية بالمغرب قحطا ويبابا لم تشهد له مثيلا منذ بداية الاستقلال ، فتم التراجع عن جميع المكاسب ، حتى الشكل الهيكلي للعمل السياسي تم التراجع عنه ، في صورة شقي الفعلين السياسيين ، كحكومة وكمعارضة ، الى درجة ان الحكومة اصبحت تعارض نفسها ، وذلك منذ حكومة عبد الرحمان اليوسفي ، والمعارضة اصبحت تساند الحكومة ، في عملية قلب الأدورار لم نشهد لها مثيلا . فتم انتاج مجموعة من المصطلحات والمفاهيم ، كالمعارضة النقدية البناءة ، والمعارضة المساندة ، والمعارضة ذات المسافة البعيدة ، والحكومة النقدية ...الخ . خليط من المصطلحات التي يمكن هضمها اذا تحددت بهوامش معلومة ومقننة ، وبسقف زمني محدد ، لكنها امتدت الى حدود العبث والبذاءة ، فتم تجاوز مدتها الافتراضية -1999-2002 الى الان . في ظل هذا الارتباك الواضح كانت هناك فئات سياسية تلعب في الهامش ، ولها تأثيرها الغير مباشر على المشهد السياسي العام بنسب متفاوتة ، لكنها لا تؤثر في السياسات العامة للبلاد التي يمسك بها النظام المغربي ، وينتفع منها أفراد الحكومة والمعارضة الصوريتين ، دون أن يقدموا للمغاربة جوابا شافيا عن مفهوم وتداعيات العمل السياسي في هذا الوطن . الجميع منح كل المفاتيح للملك الجديد ، مما جعل منه ديكتاتورا طارئا على الرغم من التنازلات والاجراءات الانفتاحية الت بدأ بها عهده ، وكأن هناك ارادة خفية عملت على نزع كل شرارة من قنديل السياسة المغربية في غفلة من الجميع وبتواطؤ مع الفاعلين السياسيين المفترض فيهم تفعيل الحقل السياسي . فانت اليوم حين تتابع مجمل النقاشات السياسية على مستوى الحكومة والمعارضة لايسعك الا أن تصاب بالاحباط والغثيان . ولا يبقى لك من مجال للاحتكاك بالخطاب السياسي كمنظور تطوري ونقدي الا التطوع وقراءة كتابات المحللين والكتاب المهتمين بالعمل السياسي .