لم أكن أنوي الكتابة هذا العام عن عيد الأضحى كما تعودت في كل عام تقريبا. لكنني رضخت لرغبة أصحاب الرسائل التي أتخمت بريدي الالكتروني والتي تدعوني للكتابة عن هذه المناسبة وما تعنيه للذاكرة والعقل الجمعي للمسلمين من معان، هي في الغالب، ايجابية-بعض السلبيات- في محتوياتها وما تحمله من عادات وتقاليد وعبادات تتأرجح بين الروحاني وتبعاته المؤثرة على سلوك الفرد وعلاقاته العائلية والاجتماعي، والبيولوجي وما له هو الآخر من تبعات تحدد مصائر والسلوكيات والانفعالات الكثير من المعيدين. وقبل الخوض مجددا في غمار الحديث عن هذه المناسبة العظيمة دينيا، السلبية سلوكيا، لابد لي أن أتقدم بتهنئة عيدية حارة بمناسبة حلول عيد الأضحى المبارك لكل الذين راسلوني وكل الذين سيقرؤون كتابي المتواضع هذا، وأتوجه من خلالهم بالتمنيات الطيبة لكل المسلمين في المغرب وفي بقية أنحاء العالم العربي والإسلامي راجيا لهم جميعاً السعادة والهناء والعيش الكريم, بعيداً عن الحروب والظلم والطغيان. وأتقدم بأخلص الشكر والتهاني لهذا الموقع الإلكتروني الذي يمكننا أصحابه من التواصل والاتصال، وأتمنى لهم مستقبلاً ملؤه الأفراح والمسرات والسعادة والهناء والانتشار. وبعد هذه التهنئة الواجبة، لا بد لي من التذكير مرة أخرى القراء بدعوتي المعتادة للابتعاد عن الاقتراض، والتي ظللت أكررها في مقالاتي السابقة مع كل عيد، وسأبقى أعيدها دون ملل مناشدا بها المقترضين بمقاطعة شركات السلف رغم تفوقها على دعواتي، وطمسها لتحذيراتي بلغة التجارة والاقتصاد (الماركوتينج) التي تتقن أساليب إغواء المساكين بكرمها الملغوم، وسخائها المسموم، الذي حوَّل العيد من غايته النبيلة التي تهدف للاحتفاء بالطقس الديني الروحاني المليء بالطهر، والمؤصل من حياة سيدنا إبراهيم حينما هم بذبح ابنه إسماعيل امتثالا للرؤيا التي رآها في نومه؛ إلى طقسٍ كرنفالي لملء البطون بالأطباق اللذيذة الغنية بالسعرات الحرارية، والوصفات التي تفتح الشهية، وتزيد من استهلاك الطعام أضعافا مضاعفة، وكأن عيد الأضحى عند المسلمين مرتبط بشره التهام العديد من الأكلات التقليدية التي تحرص كل الأسر على تحضيرها -باختلاف طرق الإعداد والمتنوعة حسب المدن والمناطق- من لحم الأضحية، كبولفاف والقطبان والمروزية والمحمر والتقلية والريوس المبخرة، والكسكس بالكتف، ما يضاعف الاستهلاك، ويضخم الإسراف، ويرفع سقف الأسعار، ويزيد في منسوب الجشع والغش، ويضطر المغلوبين على أمرهم إلى بيع متاعهم أو رهنه، ويضاعف حاجتهم للاقتراض والاستدانة التي تؤدي بالمقترضين إلى السجن، كنتيجة حتمية لعدم القدرة على السداد، أو التأخر عنه، وكضريبة لخوض غمار معارك العيد، برؤوس مرفوعة أمام الأقارب والأصدقاء، بعيدا عن وصمة عار البخل التي تلازم كل من يُقصِّر في برتوكولات "العيد الكبير" وكرمه الحاتمي في استهلاك الأطعمة واحتفالياتها الضخمة، التي تدخل في السياق الاجتماعي الذي تؤكده معنى المقولة "بأنه ليس لنا من الدنيا إلا ما أكلنا وما شربنا وما أبلينا"، فأول ما يفكر فيه الناس عند حلول العيد- رغم شكوى الشح وضيق الرزاق وتيبس الموارد- هو "الزرود" ومرطون الأكل الذي يُفتتح بعد النحر وتهيئة الأضحية مباشرة ب "بولفاف" وبعده "التقلية" وكأن غاية الإنسان من العيد هو الأكل، أو أن به جوعا وراثيا مزمنا، أو أنه في مسابقة موسوعة غينس لتحقيق أعلى الأرقام القياسية في لاتهام اللحوم، أو أنه يتهيب مجاعة مرتقبة ستحل به مباشرة بعد انتهاء مراسيم هذا العيد الذي وإن اختلفت الأعراف والتقاليد، وتوزعت مشاهد الاحتفال، يبقى هم الكثير من المسلمين في جميع مناطق الدنيا، موحد حول موائد العيد ومبارزات شهواته المغرية، التي لا ينكر أحد لذتها وخطورتها في نفس الآن على الصحة بما تسبب فيه دهون الأضاحي من آفات الكوليسترول وانسداد الشرايين، فترى الناس وقد اختاروا أسوأ المبارزات وأكثرها إساءة للصحة، يبارزون الأطباق اللحوم والشحوم، وكأنها ترياق شفاء لكل عللهم. أما الأطفال فلم يخرجوا هم أيضا من دائرة عادات وتقاليد الكبار، حيث الاحتفال اعتادوا في اليوم الثاني من العيد بطقس خاص بهم يسمونه ب"عشيشة قديرة" أو "تقديرت" أو "خيلوطة"، يقومون خلالها بإعداد وجبة من اللحم والخضر، يطهونه في قدر صغير من الطين. وليس الشره ووليده الاستدانة، هو السلوك المستهجن الوحيد الذي شاب عاداتنا وطقوسنا المتوارثة عن عيد الضحى، الذي كان يزخر بالمظاهر الاحتفالية الدينية والاجتماعية والتراثية، والتي هي الآن، مع الأسف، آخذة في الزوال شيئا فشيئا نظرا للتغييرات التي عرفتها الأسرة المغربية.تاركة المكان للكثير من العادات والمظاهر المستهجنة لتسود بين الكثير ممن يجهلون مقاصد العيد الحقة، خاصة في المناطق السكنية الشعبية، والتي يفضل سكانها نحر أضاحيهم خارج المسالخ بل في البيوت حيث حيت تسل سكاكين الجزارين مع ساعات الصباح الأولى من بعد صلاة عيد الأضحى المبارك، لذبح رقاب خراف لا حول ولا قوة لها، لتقدم أضاحي للعيد، فتبدأ ساعتها الدماء بالسيلان وتلطخ الجدران والشوارع، وبعد انتهاء الذبح الذي أبلى فيه الجزارون الحرفيون والموسميون، البلاء العظيم، يلجأ العديد من الناس إلى رمي مخلفات اللحوم وفضلات طعام الخراف بشكل عشوائي وخارج حاويات القمامة، إلى جانب ما يتركه "تشويط الراس" أي شي رؤوس الأكباش لإزالة شعرها بالنار من رماد وبقايا القرون وأكوام العلف والتبن التي تعرضها على الأرصفة في الأحياء الشعبية وتقاطعات الشوارع ومفارق الطرق، فئة الشباب الذين يستغل هذه المناسبة لتوفير دخل إضافي، يعمل على تغطية بعض الاحتياجات أو يقيهم عسر بعض الحاجات أو يوسع عليهم أرزاقهم، لكنه يزيد مدننا ودروبنا تلوثاً وخطراً صحياً على السكان ويرهق الشركات المكلفة بنظافة وجمع النفايات بالمدن.. وليس هذا فحسب بل هناك صاحبت العيد سلوكيات أخرى أخطر مما سابقاتها، لارتباطها بالدجل والخرافة وبعدها كل البعد عن روح المناسبة الديني، وقد تمثلت في تطير بعض الأسر من قطع لحم الأضحية في اليوم الأول، فلا تجيز قطعه إلا في اليوم الموالي للعيد، واعتقاد أسرى أخرى بأن تناول "خنشوش" الخروف أي الجزء الأمامي من رأسه، يجلب الأمطار ليلة زفاف آكليه العزاب، أو كاحتفاظ بعض النساء بالمرارة، اعتقادا منهن أنها تساعد على شفاء الكثير من الأمراض، أو كشرب دماء الأضحية، أو غطس اليدين فيها وطبعها على الجدران، أو تجميع كميات منها في أقمشة بيضاء اللون ليلتحف بها كل من يشكو مسا، اعتقادا بأن الدماء الأضحية تقي من العين الشريرة، أو كإلصاق مرارة الأضحية بالحائط، أو نثر الملح أثناء الذبح عند حافة مصاريف المياه العادمة اعتقدا أنها تطرد الجن وتقي منه. ورغم كثرة المظاهر المنفرة الملتصقة بالعيد، والتي تصدر عن البعض جهلا بحقيقته وغاياته الدينية السامية، فيكفي هذا العيد وغيره من المناسبات الدينية أنها تعيد للمسلمين- ولو مرة في كل سنة- ذاك الشعور بصلة الرحم والتزاور بعد أن سلبته منهم مشاغل ، وأخذهم الجري وراء متطلبات العصر وتأمينها، من دويهم وأقاربهم، رغم ما يتكبده الذين اضطروا للبعد عن أسرهم لظروف الدراسة أو العمل أو التجارة، من تضحيات جسام لقضاء صباح العيد مع الأهل والأحباب، والذي هو أسعد الصباحات دون منازع، حيث يخرج المغاربة في الصباح الباكر لأداء صلاة العيد بالساحات المكشوفة في تجمع ديني روحاني مليء بالطهارة الروحية... ونظرة خاطفة للمحطات الطرقية قبيل العيد، في جل المدن المغربية، لاشك تفضح حالة الفوضى والازدحام الشديدة، والتي يجد معها المسافر صعوبة بالغة في الحصول على تذكرة سفر.