إذا كانت لحظة دخول بلطجية الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم إلى ميدان التحرير في القاهرة على ظهور الجمال والخيول، لتخويف المطالبين برحيل الرئيس المصري ونظامه، وإرغامهم على المغادرة والتخلي عن مطالبهم، هي أكثر المشاهد التي عرفتها أحداث الثورة المصرية، الدرامية. فقد كانت هناك مشاهد أخرى غير مسبوقة توجت سلسلة المشاهد التي التقطتها كامرات وهواتف الهواة والمحترفين، وبثتها الفضائيات المختلفة عبر العالم لحظة وقوعها، ومن بينها المشهد الأشد درامية والذي أثار حنق وتندر الكثير من المتتبعين، لتصويرها حدث طرد الإعلامي عمرو أديب من ميدان التحرير، ورفض المتظاهرين القاطع لاختلاطه بجماهير الثورة الذين أرعدوا في وجهه وزمجروا، رغم تباكيه وطلبه الصفح عما اقترفه لسانه المأجور، صائحين به: "برّه برّه، مش عاوزينك"، وذلك لأنه، -وهو المعروف بقربه وانحيازه للنظام- قد أساء للثورة بنهشه لأعراض شبابها بخسة ودناءة، في محاولة منه لتشويه صورتهم ومطالبهم العادلة، والتشكيك في وطنيتهم وتقديمهم في صورة عملاء وجياع يخدمون مصالح خارجية، مقابل وجبات الكنتاكي وبعض الدولارات الأمريكية.. ولم يكن عمرو أديب وحده من بين ضعاف النفوس من أصحاب الأقلام والحناجر المأجورة المنتشرة في كل الأوطان وكل الأزمان، التي تمارس العهر الإعلامي للتشتيت أبناء الشعب الواحد، وتدجينه وسلبه شجاعته وعزته وكرامته وانتماءه وولاءه لوطنه ، وتحويله إلى مسخ منزوع الإرادة والتفكير، وتشويه وعيه وثقافته، لأجل تحسين الوجه البدائي والبشع للنظام وأجهزته، والترويج لمواقف وأقوال الرئيس وتمسكه بالسلطة حفاظا على الاستقرار، حسب منظومته؛ فقد برز بين هؤلاء الكثير من التلفزيونيين والإذاعيين الذين لا يسع مجال المقالة لذكرهم جميعا. ما حدث من تصرفات هستيرية من قبل الإعلام الرسمي، قبل و خلال وعلى هامش الثورة المصرية، والتي أفقدته، بلا ريب، ثقة الجماهير به كمكون أساسي في المنظومة الاجتماعية. قد أعادت إلى الأذهان من جديد ضرورة فتح النقاش القديم/الجديد، حول دور الإعلام وحياديته والتزامه بقضايا الأوطان وجماهيرها، والذي سبق أن حصل حوله نوع من الاتفاق بين إعلاميي العالم المنفتح، على أنه لا يسمح لأي إعلام، حتى بالتفكير أو التردد بين الوقوف إلى جانب أجهزة القمع والاستبداد، وبين المواطن الأعزل الذي لا يملك إلا صوته وإيمانه، وأنه لا خيار للإعلام كيف ما كان نوعه، إلا الوقوف إلى جانب الجماهير المهدرة آدميتها، والتي هي في كل أحوالها وظروفها صاحبة حق مسلوب، بينما بعض وسائل الإعلام وبعض الإعلاميين الإنتهازيين، وفي أوقات عديدة، أكثر انحيازا إلى السلطة منها إلى الشعوب المقهورة، كما هو حال الأقلام والحناجر المدفوعة الأجر في الإعلام المصري الرسمي، وفي الكثير من فضائياته التي تدعي الاستقلالية والتي تواطأت مع أجهزة القمع، واستمرت في دعم نظامه حتى الرمق الأخير لالتقاء مصالحها مع مصالحه، دون أن تهتم أو تشير، بحيادية، إلى مشاركة شخصيات معروفة في الانتفاضة وحضورها في ميدان التحرير، أمثال أحمد زويل صاحب جائزة موبل في الفيزياء، عمرو موسى أمين عام الأممالمتحدة، ومحمد البردعي المدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وعمار الشريعي الموسيقار المعروف، ولاعب الكرة الكبير نادر السيد، والفنان خالد الصاوي وغيرهم كثير. ورغم المحاولات المتخاذلة المتأخرة التي قام بها الإعلام الرسمية -الذي يُنفقُ عليه من قوت الشعب- للتكييف مع الوضع الجديد، بتغييره الجلد والولاءاته، بطريقة فجة مفضوحة، والتي لم تخف على أحد من صناع الثورة، فقد أثار حفيظة الوطنيين الشرفاء وعموم المتتبعين الصادقين الذين انتقدوا بشدة دوره في تغطيته المتحيزة للتحركات الاحتجاجية، وتعامله التحريضي المستفز مع الثورة مند بدايتها، ودفع بالكثيرين منهم للتصدي له وكشف الكثير من عوراته وفضح أصحابه الانتهازيين، وإسقاط كل أقنعة مرتزقته المحترفين، وتطيير كل أوراق التوت التي كانت تتخفى تحتها أبواق النظام الاستبدادي، وذلك في عملية فرز جادة وعازمة على محاسبة المسيئين. وقد كان من بين أبرز الشرفاء الذين عرووا سوءة ظاهرة الانحياز المشينة، الموسيقار عمار الشريعي الذي شن على الإعلام ووزيره في إحدى مداخلاته العاصفة في قناة دريم، هجوما لاذعا، لاستخفافه بعقول الناس عن طريق قلب الحقائق وسرد الأكاذيب، والذي ذهب فيه إلى حد القول: "إن هؤلاء الشباب حولنا من كلاب وبهائم و قطعان ماشية تُهَبهب؛ إلى آدميين نتكلم". ولم يكن عمار الشريعي وحده من اتخذ هكذا موقف من الإعلام المصري، بل كان هناك الكثير نذكر منهم الدكتور هشام عطية أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة الذي صدر عنه تقرير حول مآل الإعلام الحكومي بعد الثورة، نشرته صحيفة الراية القطرية ختمه بقوله: "إن الأحداث الأخيرة والتغطية المتحيزة للإعلام المصري لها، كان شهادة وفاة لمنظومة هذا الإعلام الرسمي".. وفي مثل هذه الحالة التي عرفها الإعلام الرسمي المصري -بصحفه القومية وإذاعاته وفضائياته الحكومية المحسوبة على النظام، وما أظهره من تقصير وتخاذل ومواقف عدائية تجاه الشباب وثورته، والذي لم يكتف بعدم نقل أحداثها بأمانة وحيادية، بل بلغ به التحيز السافر حد التنكيل بمعارضي النظام، والنيل من أعراضهم والتلصص على حياتهم الشخصية، ولولا ألطاف الله وواقع العالم المنفتح اليوم، وتوفر وسائل الاتصال التي تقوم بنقل كلّ صغيرة وكبيرة ممّا يحدث، لخرجت الأنظمة الظالمة على الناس بالدبابات والطائرات ولأيدها إعلامها في ذلك- كان من البديهي والطبيعي أن تلجأ الثورة، لتغطية أحداثها، إلى إعلام بديل تصاعدت أهميته بشكل مطرد، وانتقل من السلطة الرابعة إلى الأولى، من فضائيات وصحف ومواقع إخبارية ومدونات مصرية وعالمية مستقلة على فيس بوك وتويتر، التي وفرتها العولمة والتكنولوجيا الرقمية استهان بها الزعماء المتسلطون وضحكوا من سماع أسمائها التي حولت كل من يمتلك هاتفا محمولا أو جهاز كومبيوتر إلى إعلامي كبير لعب دورا هاما ومؤثرا في نقل أحداث الثورة والتعريف بها وإيصالها إلى أكبر عدد ممكن من الناس، بالصوت والصورة التي ضجت بها مواقع اليوتيوب، والفايس بوك، والتوتير وكل شبكات الاتصال الإلكترونية الأخرى التي ولع بها هذا الشباب المطلع على تقنياتها الحديثة، والعارف لطرق وكيفية التواصل بها مع المشاهدين، والتحدث إليهم ليضموهم كمساندين لثورته.. وخير مثال على ذلك، الشاب وائل غنيم الذي فتح صفحة على موقع ال"فيسبوك" تحمل عنوان "كلنا خالد سعيد"، والتي كانت بمثابة الخلية السرية التي خططت للثورة التي أسقطت النظام، ودفعت بوسائله الإعلامية الرسمية -التي كانت إلى الأمس القريب تطمس الحقائق وتزيف وتنشر الإشاعات الكاذبة كما فعلت "البي بي سي" في حرب الخليج الأولى، وشبكة "السكاي نيوز" في حرب الخليج الثانية من تنكيل بكل من يرفع صوتا مخالفا لرأيهما الذي يرددانه- إلى طأطأة الرأس وتغيير دورها التقليدي وتعديل خطابها. ملحوظة : خالد سعيد رحمة الله عليه، هو الشاب الذي كانت وفاته البشعة على يد قوات الأمن في الإسكندرية قبل ثمانية أشهر، هي الشرارة التي فجرت الثورة المصرية.