تعيش مصر منذ انطلاق ثورتها الشعبية في ال25 من يناير الماضي على إيقاع عملية " فرز" بين من كان " مع" أو " ضد" ثورة الغضب، عملية بدأت بوادرها منذ انطلاق المظاهرات لتشتد في الأيام القليلة التي سبقت إعلان الرئيس مبارك تنحيه عن السلطة. وكان من الطبيعي أن تكون المجالات الأكثر التحاما بالحدث والجمهور هي الأكثر عرضة لعملية "الفرز" هذه وعلى رأسها الحقل الصحافي والإعلامي والوسط الفني . فقبل بضعة أيام من الإعلان عن تنحي مبارك ، وفي خضم الحدث ، بدا الجسم الصحافي في مصر مخاضه الخاص تحت عنوانه " إسقاط إعلام النظام" الشعار الذي رفعه مئات الصحافيين عندما حاول النقيب مكرم محمد أحمد الانضمام إلى مجلس عزاء أحد زملائهم الذي قتل في الأحداث قبل أن يختار أن يمنح نفسه " عطلة مفتوحة". ظهرت أيضا مسميات تحمل في طياتها بوادر عملية فرز وسط الإعلاميين هدفها عزل من يتهم بالترويج لموقف السلطة خلال أيام الغضب التي تشهدها مصر . فقد أطلقت مجموعة من الإعلاميين العاملين بالتلفزيون المصري على نفسها اسم " شرفاء ماسبيرو" ( اسم المقر) لينأوا بنفسهم عن مواقف المؤسسة ،فيما أقدم بعضهم على تقديم استقالته( نائبة رئيس قناة النيل الدولية) أو الانسحاب احتجاجا على تعاطي التلفزيون مع الأحداث الجارية. ومن أبرز هؤلاء الإعلامي محمود سعد الذي غاب عن برنامج " مصر النهارده" مع بداية الأحداث ليلتحق بميدان التحرير قبل أن يعود للشاشة مجددا مساء أول أمس السبت، في أول حلقة بعد تنحي مبارك، وليكون أول من يتصل به هاتفيا على الهواء مباشرة وزير الإعلام أنس الفقي بعد ان استقال في اليوم نسفه. كما عاد عمرو أديب للظهور مجددا في خضم المظاهرات ولكن على الشاشة من خلال قناة " الحياة 2" بعد توقف برنامجه "القاهرة اليوم" على "أوربت" منذ فترة، فقد قدم ضمن إحدى حلقات برنامجه روبورتاجا على مدخل الميدان وبث صورا عن دخوله إلى "جزء " منه، على حد تعبيره ، فيما أظهرت صور أخرى على (اليوتوب) كيف ردد معتصمون عبارة " برا"( أخرج) عند رؤيتهم له. وعرفت مؤسسات إعلامية قومية (حكومية) أخرى في الأيام الأخيرة للثورة احتجاجات مماثلة منها مؤسسة " روزاليوسف " التي طالب بعض صحافييها برحيل مجلس الادارة ورئيس التحرير ومؤسسة " دار التحرير " التي تصدر صحيفة " الجمهورية". فيما كان صحافيون ب "الأهرام " قد أصدروا منذ اللحظات الأولى لاندلاع المظاهرات بيانا يرفضون فيه الخط التحريري لصحيفتهم وهو ما انعكس على عدد الصفحات التي صدرت بها أعداد منها. إرهاصات عملية " الفرز " هذه امتدت إلى الحقل الفني حيث كان ميدان التحرير رمز المطالبين برحيل مبارك ، مقياسا لمدى شعبية هذا الاسم أو ذاك ، فقد طرد المتظاهرون المغني تامر حسني و في المقابل تناقل عدد من الشباب عبر مواقع إلكترونية مختلفة ، أنباء عن إصابة الموسيقار عمار الشريعي، الذي حرص على أن يكون إلى جانب المتظاهرين في ميدان التحرير ، بأزمة قلبية خلال مشاركته في مظاهرات "الرحيل" .(يتبع) كما اتصل الفنان عادل إمام هاتفيا بإحدى المحطات التلفزيونية بعد تصعيد وتيرة المظاهرات لينفي تصريحات نسبت إليه ضد الشباب الثائر وليؤكد دعمه لهم. غير أنه عندما سئل عن سبب عدم خروجه معهم قال إنه لا يحتمل تلقي "ضربة عصا" من الشرطة. أما أحمد السقا فقد وجد نفسه في موقف صعب بعد زيارته لميدان التحرير ليضطر عقبها للظهور في برنامج مباشر ويقول إنه "بدأ يتفهم مطالبهم( الشباب) ، وأنه ليس من العيب أن يقول الحق". داخل المشهد الفني المصري أيضا أثرت المواقف على علاقات سابقة بين فنانين مصريين حيث نقل عن غادة عبد الرازق إعلانها إنهاء "علاقة الصداقة" التي تجمعها مع المخرج السينمائي خالد يوسف( الذي ظهر معها في آخر مشهد في مسلسل "زهراء وأزواجها الخمسة" ) جراء موقفه المؤيد والداعم لمواصلة واستمرار حركات الاحتجاج في ميدان التحرير. وكان الموقف الذي أثار ردود فعل قوية هو ذلك الذي جاء على لسان الفنانة سماح أنور التي قالت على شاشة التلفزيون المصري وهو يدعو المتظاهرين لإخلاء ميدان التحرير (ما فيش مشكلة إن حد يولع فيهم ) في دعوة لحرق من في الميدان . وظهر فنانون كثيرون على شاشة التلفزيون أيضا وفي لحظات مفصلية في الأحداث التي عرفتها مصر ، سواء إلى جانب المتظاهرين يوم " جمعة الغضب " وفي ميدان التحرير أو مع المظاهرات المؤيدة للرئيس التي انطلقت عقب الخطاب الذي أعلن فيه عدم نيته الترشح لولاية جديدة والتي شارك فيها رياضيون من بينهم على الخصوص مدرب المنتخب المصري حسن شحاتة والتوأمان حسام وإبراهيم حسن( الزمالك). ونشرت صحف مصرية خلال الأيام ال18 للثورة قائمة بأسماء فنانين ساندوا المتظاهرين وآخرين عبروا عن مواقف مناهضة لهم وقسم ثالث غادر البلاد في خضم الأحداث أو التزم الصمت. وردد عدد من ضيوف برامج " التوك شو" على القنوات المصرية ، حتى قبل الإعلان عن تنحي الرئيس ، عبارة " متخونيش" كلما احتدم النقاش حول التطورات السياسية والميدانية في البلاد. وجرت مواجهات على الهواء مباشرة بين شخصيات عامة كان أبرزها تلك التي جمعت وزير الإعلام المصري أنس الفقي بعد أن احتفظ بمنصبه في الحكومة المعينة بعد انطلاق المظاهرات، مع مصطفى الفقى رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشورى الذي استقال من الحزب الحاكم. أما بعد الإعلان عن تنحي الرئيس مبارك مساء الجمعة 11 فبراير ، فإن عملية " الفرز" قد تتحول إلى مكاشفة على الهواء مباشرة إذ دخلت قنوات التلفزيون المصرية في سباق مع بعضها لاستضافة أسماء بعضها من شباب الثورة وأخرى من معارضين للتحدث بدون سقف و مسؤولين وزراء سابقين ليبدأ مسلسل فتح ملفات يصل عمر بعضها إلى 30 سنة. غير أن أصوات كثيرة ومنها شخصيات معارضة رأت في المقابل على أن الطبقة السياسية بالخصوص يجب أن تترك المحاسبة جانبا، ليتكفل بها القضاء، وتنكب على التفكير في المرحلة الانتقالية وما بعدها.