حين استجابت بعض الدول العربية لتطبيق برنامج التقويم البنيوي لاقتصادياتها كان بعدها تعليل النتائج متباينا ذلك أن هناك من نعتها، من زاوية تحليله، بالسلبية بدعوى أنها طبقت على أرضية غريبة عنها متجاهلة لخصوصياتها؛ وهناك من نعت نتائجها بالايجابية على مستوى بعض المجالات (الاقتصادية خاصة) وبالسلبية على أخرى (الاجتماعية تحديدا) كما لو أن الاقتصادي والاجتماعي قطاعين منفصلين بل هما وجهان لعملة واحدة. إلا أنها (سياسة التقويم البنيوي) تبقى في جوهرها مساقا ترتب عنه إرساء سياسيات اقتصادية واجتماعية عمومية لها ما لها وعليها ما عليها. الأهم من هذا كله هي الصيغة التي عللت بها المؤسسات المالية الخارجية المسطرة والداعمة لهذا البرنامج حين صرحت أن البرنامج في حد ذاته لا عيب فيه؛ محددة أن العيب يكمن في عدم حسن وضبط تطبيقه من طرف الدول المتبناة إياه. وقد تكمن معنى هذه المقدمة في كونها تنطبق على نتائج ما ورثته بالأمس وما تحصده اليوم، بعض الدول العربية ،سواء عند استقلالها أو بعده، سواء من الغرب (النظم الرأسمالية الليبرالية) أو من الشرق (النظم الاشتراكية) والتي لم تتمكن من حسن تكييف ما استنبطته على مقاسها حيث أضحى كذاك "الطفل ذو العشر سنوات والذي نريد أن نكسوه بسروال بمقاس رجل يتجاوز الأربعين ربيعا". في الواقع، ما تم تبنيه هو "الهيكل" أما الجوهر، وهو الأهم ، فقد تم إما نبذه بدعوى أنه لا يتلاءم وخصوصيات الدول العربية المحتضنة له (ليبقى الهيكل شعارا أجوف)، أو تم القيام بمحاولة تحويره وفق ما تراه حكومات الدول العربية ملائما لطموحاتها. وهنا يكمن الخلل إن على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي. خلل قد يطرح سؤالين أساسيين: هل هي مجرد استنباط أم عجز الفكر العربي على إبداع نظام سياسي واقتصادي واجتماعي يلبي حاجيات وطموحات الشعوب العربية ؟ ما يثير الغرابة هو طبيعة وحقيقة وتباين، حسب الدول العربية، موقف ووجهة نظر الدول سواء الاشتراكية أو الليبرالية الأجنبية اتجاه ما تشهده بعض الدول العربية من أحداث. وجهة نظر تعكس منحى واحد وأوحد يتمثل في العامل الجيو-سياسي. أحداث تعكس ليس فقط عدم انسجام السياسات العمومية المتبناة من طرف بعض الحكومات العربية ومتطلبات شعوبها بل تعكس الآثار السلبية الناجمة عن إفراغ التيار الفكري الليبرالي أو الاشتراكي من صلبه وجوهره واحتضان فقط الهيكل، كشعار، على عكس ما تتطلبه الموضوعية والتناسق والانسجام بين الهيكل والجوهر. وهذا ما يثبت إيجابيته ونجاعته في دوله الأصلية وعكس ذلك في غير موطنها. وعلى هذا النحو، يمكننا استنتاج أن إفراغ تيار فكري من جوهره وخاصة التيار الليبرالي الذي بات هو التيار الفكري السائد بعض سقوط جدار برلين، هو التفسير الوحيد والأوحد لما يجري في بعض الدول العربية. فالأصل يتطلب أمرين إثنين لا جدال فيهما: إما تبني تيار فكري معين بهيكله وجوهره وعدم بثره بدعوى تكييفه، وإما التوفر على القدرة الفكرية لابتكار وتفعيل تيار فكري ينعكس تطبيقه سياسيا واقتصاديا واجتماعيا بالايجابية على مستوى ضمان كرامة الإنسان العربي. على الصعيد السياسي، إذا كان الفكر الليبرالي يدع، من بين ما يدع إليه، إلى الانفتاح والتعددية الحزبية، فالملاحظ أننا نجد في الدول الغربية تعددية حزبية فعلية أي يمكن للمواطن التمييز بين هذا الحزب وذاك من خلال الخطاب السياسي وسنده أي مرجعيته الإيديولوجية. أما في الدول العربية، فيظل مصطلح التعددية أجوفا جاعلا من المواطن العربي في ضبابية فاقدا لا القدرة ولا الرغبة في واجب الانضمام إلى تيار فكري واضح إيديولوجيا حيث بات ينضم ليس إلى فكر وإنما إلى شخص أو مجموعة أشخاص. فمعيار الانضمام السياسي بات الشخص عوض الفكر. ففي الغرب نجد تعددية حزبية أما في الدول العربية فإن الملاحظ هو تعددية زعماء أحزاب ذوي نفس السند الإيديولوجي. والمفروض أن تكون هناك تيارات فكرية متباينة وليس أفراد ذووا غايات شخصية معزولة تمثل أحزابا تنتمي لنفس التيار الفكري. فعوض أن تكون الجدلية أو بالمعنى الأصح الصراعات القائمة بين تيارات فكرية نجدها قائمة بين أفراد وهذا الأمر ليس بالايجابي على المشهد السياسي في الدول العربية. وهذا الأمر ينعكس سلبا على مكونات وأداء وتتبع ومحاسبة سواء الجهاز التنفيذي أو الجهاز التشريعي وبالتالي على عدم حسن سن وضبط السياسة الاقتصادية العمومية. أعتقد أنه لا يمكننا الحديث عن تواجد سياسة اقتصادية عمومية بقدر ما يمكن الحديث عن تدبير مرحلي أو ظرفي للشأن العام. وهذا الأمر جد موضوعي بناء على ما سبقت الإشارة إليه أعلاه. ذلك أن تواجد سياسة اقتصادية عمومية بمفهومها العلمي تقتضي تواجد تيارات فكرية واضحة التوجهات متبناة من طرف أحزاب تخضع لمنطق الانتخابات وما هذا المنطق إلا ثقة الشعب في حزب معين أو تكتل أحزاب، على أن تتم الانتخابات باسم التكتل، قصد تدبير شأنه العام. ومجرد تتبع منطق الانتخابات وصيغتها ونسب المشاركة فيها ونتائجها والتي هي الضامن لسن سياسة اقتصادية عمومية تتماشى وتطلعات الشعوب العربية تمكن من فهم بعض الجوانب الأساسية لما يقع في بعض الدول العربية حاليا. وهذا ما تشرح به الدول الغربية حاليا ما يقع في بعض الدول العربية أي أنها لم تطبق الأنظمة المستنبطة هيكلا وجوهرا كما قالت بخصوص عدم قدرة بعض الدول العربية على حسن تنفيذ برنامج التقويم الهيكلي. ودعت الأنظمة العربية للإنصات إلى "الشعب". إذا ادعى البعض أنه لا حاجة لنا بتلقي دروس من أحد، ولكن لنكن نحن العرب قادرين على بلورة نظام سياسي واقتصادي واجتماعي يستمد جذوره من الفكر والواقع العربي لتكن نتائجه إيجابية على المستوى المعيشي للشعوب العربية وكرامتهم. وما يمكن أن يفهم من وجهة نظر الغرب اتجاه ما يقع في بعض الدول العربية، هو الخوف من سقوط الأنظمة الليبرالية الرأسمالية ليبقى المجال مفتوحا أمام ربما عودة الأنظمة الاشتراكية أو الأنظمة ذات التوجه الأصولي بسبب عدم حسن تبني الرأسمالية هيكلا وجوهرا أي سوء توزيع ثروات البلدان العربية على شعوبها والتي في الأصل هي المنتجة لها. فالرأسمالية، كنظام اقتصادي، يجب أن تكون رأسمالية الكثل وليست رأسمالية أفراد كما طرحها. ليس بإمكان أي حكومة أي الحزب أو التكتل الحزبي المشكل للحكومة، " أ كانت غربية أم شرقية " أن تدعي أن سياستها الاقتصادية العمومية ستكون ناجعة وهي في الأساس منتخبة من طرف الأقلية. والنتيجة هي خدمة الأقلية للأقلية. في حين أن الأغلبية قد نفرت من الفعل والعمل السياسي لكون الأحزاب السياسية قد خذلتها بعدم تنفيذ ما وعدت به، وإحكام قبضتها على المجالس الوطنية والجهوية والمحلية وكذلك المكاتب التنفيذية والمكاتب السياسية و عدم قبولها لإدماج طاقات شابة جديدة ورؤى جديدة. فالمؤهلات الشابة وهي التي أصبحت تشكل الأغلبية في مجموع الدول العربية، ليس فقط من ناحية الكم ولكن حتى من زاوية النوع باتت تتميز بالنضج الثقافي والمعرفي والسياسي والاقتصادي... وهذا الأمر جد طبيعي وتعرفه كل المجتمعات نتيجة التطورات الديمغرافية والتطورات الفكرية... إلى أن أصبحت قادرة على فهم وتحليل واقعها ومسبباته وإيجاد الحلول لتخطي معيقات نموها. بل أصبحت ترى في أساليب أحزاب ما بعد استقلال أوطانها، أساليب باتت متجاوزة لا سياسيا ولا اقتصاديا ولا اجتماعيا. حتى أصبحت هذه الأغلبية الشابة تطالب بدورها وحقها في تدبير الشأن العام وطنيا ومحليا تدبيرا تهدف من خلاله بالأساس ولوج مناصب اتخاذ القرار والمساهمة الفعلية في الحياة السياسية ولما لا تشكيل أحزاب جديدة بأفكار جديدة (أمام تعنت الأحزاب القائمة لضمها) وبالتالي التمكن من اقتراح وتفعيل سياسة اقتصادية عمومية تضمن نتائجها التكافؤ في توزيع ثروات البلاد. وبخلاصة، ما يقع حاليا في بعض الدول العربية هو جدلية أجيال، جيل كان يشكل الأقلية وأصبح اليوم يشكل الأغلبية، وجيل كان يشكل الأغلبية "النوعية" وأصبح يشكل الأقلية، من أجل ماذا ؟ من أجل إعادة النظر في سبل سن السياسات الاقتصادية العمومية ومن خلالها إعادة النظر في توزيع ثروات البلاد. باحث في العلوم الاقتصادية والاجتماعية [email protected]