إذا كان الفكر النظري في مجال السياسة الاقتصادية يميز، في الأصل، بين نظريتين رئيسيتين لتدبير الشأن العام: السياسة الاقتصادية الليبرالية والتي ترتكز أساسا على آليات السوق أي العرض والطلب - لتحقيق ما يصطلح عليه ب" المربع السحري" (le carr magique) مع التركيز على فعالية القطاع الخاص والدور الأمني والقانوني للدولة. هذا مع العلم أن القطاع العام أو الدولة، لا ترتكز في الأصل، حسب مبدع هذا الفكر الليبرالي ، على هذين القطاعين بل تمتد صلاحيات أو واجبات الدولة إلى التدخل في القطاعات "المهمشة" من طرف القطاع الخاص كونها غير ذات مردودية مالية آنية ومتطلبة في نفس الوقت رؤوس أموال ضخمة. أما النظرية الثانية لتدبير الشأن العام، فتتمثل في الاشتراكية التي لا تعترف بقدرة آليات السوق على تحقيق التوازن الاقتصادي المنشود. وحدها الدولة، من خلال التخطيط الملزم والمحكم، بإمكانها تحقيق ذلك. إلا أن هذه النظرية لم تعمر طويلا ذلك أن الدول التي تبنتها اضطرت سلك مسار الليبرالية الاقتصادية. وكيفما كانت الأسباب والتأويلات لهذا التغيير فإن الواقع المعاش هو الواقع و ما هو نظري يظل في مخاض الجدلية الفكرية. وبين هاته النظرية وتلك، تمخضت عدة نظريات، أعتبرها ب"التصحيحية" للأسس الأصلية التي قامت عليها النظريتين جاهدة للتكيف والتأقلم مع التغييرات المختلفة والمتشابكة الجوانب للواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي للمجتمعات. ذلك أن الفكر الاقتصادي لم يعد يميل إلى الرأسمالية "المحافظة" والتي ينعتها البعض بالرأسمالية "المتوحشة" لكونها تعتمد على المنفعة الفردية لتشكل مجموع المنافع الفردية مرادفا لمنفعة كل أفراد المجتمع من خلال حركية آليات السوق. إلا أنه من خلال تجربة الدول التي تبنت هذا الاتجاه فقد عرفت أزمات متتالية إن على المستوى الاقتصادي -لكون عدم قدرة آليات السوق على تحقيق التوازن الاقتصادي المنشود أو على المستوى الاجتماعي ذلك أن المعادلة المشار إليها من قبل لم تكن ذات واقعية. كما أن الاعتقاد بأن إعطاء الأولوية بامتياز للمجال الاقتصادي ليكون قاطرة للرقي بالاقتصاد الوطني جالبا معه الرقي الاجتماعي وتحسين المستوى المعيشي للأفراد لم يكن صائيا. إلا أن هذا المنظور تناسى على أن الرقي الاقتصادي رهين بالسلم الاجتماعي وبالتالي فقاطرة التنمية يجب أن تستند في آن واحد على ركيزتين اثنتين لا مجال لإقصاء واحدة منهما : الاقتصادي والاجتماعي وجهان غير منفصلين لعملة واحدة يكون انشغالها وهدفها التنمية المستدامة بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. وككل دول العالم عايش المغرب هذه التطورات وخلص منذ حصوله على الاستقلال إلى قرار تبني الليبرالية الاقتصادية كنمط لتدبير الاقتصاد الوطني. وكان من البديهي، خاصة خلال حقبة ما بعد الاستقلال، أن تنشغل الدولة، من الناحية السياسية، بإرساء مؤسسات الدولة وضمان وحدة البلاد من جهة، ومن جهة أخرى، محاولة خلق وإعطاء انطلاقة أهم القطاعات الاقتصادية والاجتماعية في انتظار بروز قطاع خاص فعال والذي من المفروض، حسب مبادئ الليبرالية، أن تسند إليه واجبات تحريك القطاعات الاقتصادية الحيوية في البلاد. من هذا المنظور وخلال هذه الحقبة التاريخية كانت للدولة منظور شمولي وطني للسياسة الاقتصادية. وبالرغم من هذه النظرة الشمولية لا يمكن الجزم بالقول أن الحكومات المتعاقبة على تدبير الشأن العام قد تجاهلت جهة أو جهات ما في سياساتها الاقتصادية. ما يمكن الجزم فيه هو عدم توفر العناصر الضرورية لبروز الجهة كفاعل سياسي واقتصادي قادر على إرغام السياسة الاقتصادية الشمولية الموجهة من المركز على فسح المجال لتدبير جهوي للسياسة الاقتصادية في مناخ يعزز فيه الخطاب السياسي هذا التوجه. ذلك أن النظرة الشمولية للسياسة الاقتصادية إذا كانت قد أبانت عن فعاليتها خلال حقبة تاريخية معينة إلا أنها في الظروف السياسية والاقتصادية العالمية والوطنية الراهنة أصبحت ذات فعالية محدودية بل لم تفلح في تدارك التفاوت في مستوى التنمية بين الجهات. والأصح أن تكون هذه الشمولية مجموع سياسات اقتصادية جهوية تم إعدادها وبلورتها، وخصوصا تدبيرها، من طرف مختلف الفعاليات المحلية. ذلك أن هذه الأخيرة هي الأكثر إلماما بمؤهلاتها ومعوقاتها وأولوياتها وطبيعة المشاريع التي من شأنها الرقي بالمستوى المعيشي للساكنة المحلية في إطار شراكة وتنسيق مع المصالح الخارجية للوزارات والمنظمات غير الحكومية منها وغير الحكومية والجهات المجاورة وحتى التعاون والشراكة مع جهات أجنبية في مجال تبادل الخبرات والمعرفة والتشاور والتكامل من خلال إقامة مشاريع مشتركة. إن الحديث عن الجهة ودورها في التنمية الاقتصادية في المغرب ليس وليد اليوم بل مر عبر مخاض خلال عدة مراحل، ومن الطبيعي أنه في كل ظرفية يجب أن يكون فيها دور الجهة متماشيا ومستوى النضج السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي تمر منه مختلف فعاليات الجهة من جهة والبلاد من جهة أخرى. وهذه ليست خاصية للمغرب وحده بل حتى في الدول المتقدمة كألمانيا وإيطاليا وإسبانيا. ومن البديهي أنه لا يجب أن يكون هناك هوة أو تفاوت بين ما هو منتظر من الجهة والنضج السياسي والاقتصادي والثقافي الذي وصلت إليه الجهة ووصلت إليه البلاد في شموليتها. وهذه المسألة هي جد مهمة وجد حاسمة خاصة من زاوية النتائج المنتظرة أو المترتبة عن تحول دور الجهة " إذ أنه لا يمكن أن تطلب لشاب عمره عشرون سنة أن يرتدي سروال رجل عمره أربعون سنة" كما أنه ليس بالإمكان " أن تطلب من الشاب أن ينقص من السروال ليجعله على قياسه إذ لا بد أن يكون عيب ما في السروال". " الأصلح أنه "ربما أن الشاب قد نضج ويرغب في خياطة سرواله بنفسه وفق مقياسه وتصوره". وإذا كانت الدولة، بدوافع سياسية وإدارية واقتصادية واجتماعية، تدعم، من خلال تعديلات الفصول المتعلقة بالجهة، بروز الجهة كفاعل سياسي واقتصادي حقيقي، فالتحول ليس بالأمر الهين ولكن في نفس الوقت ليس بالأمر غير الممكن. فالتحول لن يكون، وهذا جد طبيعي، إلا تدريجيا يتحكم فيها تطور عدة عوامل جد متشابكة ومتعددة الجوانب. منها ما هو ثقافي، ما هو سياسي، ما هو إداري، ما هو تاريخي واجتماعي، ما له صلة ب"التقاليد والأعراف"، وغيرها من العناصر التي لا يمكن إغفال ولا التقليل من أهمية وتأثير كل عنصر من هاته العناصر. إلا أن العنصر الأكثر أهمية هو العنصر البشري وخاصة مستواه الثقافي ووعيه بما يروج في مجاله ومحيطه وجهته ووطنه. وسيكون من العبث إلقاء اللوم على الدولة في المفارقات بين الجهات وداخل الجهات من حيث المستوى الثقافي لأنه مصطلح كثيرا ما يلجأ إليه البعض بهدف تغليط المخاطب. وجب إلقاء اللوم على الحكومة كمجمع للأحزاب السياسية سواء تلك التي تقلدت تدبير الشأن الثقافي وتوعية السكان أو تلك التي لم تتقلد تدبير هذا الشأن لأنها في الواقع ظلت متعقبة لما تقوم بها الأحزاب المشكلة للحكومة منتظرة مرحلة الاستحقاقات الانتخابية لتستغل هفواتها وتعليل الواقع بأنها غير مسئولة إما لأنها كانت في المعارضة وإما أنها كانت خارج المشهد السياسي وبالتالي لا داعي، بالنسبة لها، للقيام بالواجب الوطني على أمل فشل الأحزاب المدبرة للشأن العام. ليس هذا بالواجب الوطني ولا بالوطنية الحقيقية الحرة. هذا هو جوهر إشكالية اشتغال وانشغالات الأحزاب السياسية في المغرب. سواء أهلتها أم لم تؤهلها الحملة الانتخابية إلى تحمل تدبير الشأن المحلي أو الوطني أو تلك التي تظل "جامدة" لكي لا أقول "متفرجة" على التطورات التي يشهدها المجال السياسي، وجب عليها الاستمرار في العناية الثقافية والتوعوية والسياسية والاقتصادية وتبني منهج القرب والاستمرارية في القرب من أولئك الساكنة المقتنعة بالأفكار والمبادئ التي رددتها الأحزاب طيلة الحملة الانتخابية. وكل اغتراب أو هجر لتلك الساكنة من هذا الطرف أو ذاك فإن انعكاساته تكون سلبية على المكونات السياسية في رمتها ليصبح الحديث عن العزوف وما شابهها من المرادفات التي تتفوه بها بعض الأحزاب وإلقاء اللوم على المواطن كالمسئول على هذه الظاهرة. إن مثل بعض الأحزاب كمثل "النعامة التي إذا هبت عاصفة أو كان هناك خطر ما خبأت رأسها في الأرض حتى مرور الزوبعة". وها هي قد مرت، والسلوك هو نفسه إذ أقفلت مقرات الاجتماعات واستقطاب الأصوات والوعود والولائم وغيرها... ليبقى الحال على حاله والأفكار"الانتهازية" و"الشماتة" راسخة ومؤكدة عند المواطن. وينطبق هذا سواء على ساكنة القرى أم على ساكنة الحواضر. والعجيب أو العادي في المجال السياسي هو أننا نشاهد أن أعداء الأمس أصبحوا اليوم أصدقاء إذ يسمونها بالتحالفات ولا دراية ولا دخل لمن أدلى بصوته في هذا المجال لأن المسألة تتعلق ب"الكبار"من منظور الأحزاب. إذا كانت هناك تحالفات وجب على الأحزاب عقد مؤتمراتها لإطلاع قواعدها على طبيعة التحالفات الذي يزعم الحزب القيام بها وهل ستسمح القواعد بذلك.أما "الصغار" فمرحلتهم قد انتهت، مرحلة تقاتل فيها البعض وذهب إلى المستشفى البعض الآخر والبعض الآخر ما يزال حاقدا على طرف آخر ... جاهلا أن حزب هذا الأخير قد تحالف مع حزبه وأصبحوا متحالفين. وأية كبار حين تراهم على الصعيد المحلي في توافق وعلى الصعيد الوطني أي على صعيد تدبير الشأن الوطني في توافق آخر. والغريب في هذه التوافقات أنها تختلف من "زاوية" أي جهة إلى أخرى. بمعنى أن المسألة ليست مسألة مبادئ وأفكار حزبية واضحة كما نعرفها نظريا. فالمسألة باتت مسألة أشخاص فرادا. وقد أصبح هذا مألوفا ومعروفا وليس كما يفسره البعض على أن الاستحقاقات المحلية يغلب عليها الطابع " الفردي" بموجب القرب. إنه مجرد افتراء. وهذا النحو ليس بالنحو البناء والصحي والجدي ولكنه بالنحو الهدام. إذا كانت هناك أحزاب ثابتة الأفكار والمبادئ فشأنها على الصعيد المحلي يجب أن يكون شأنها على الصعيد الحكومي من زاوية التحالفات ولهذا السبب يمكن أن نفهم بسهولة رفض جل الأحزاب توضيح التحالفات قبل الانتخابات والمواطن يجب أن يرغم حزبه، قبل التصويت، على إبراز تحالفاته المستقبلية. كل هذا راجع إلى كثرة الأحزاب وعدم رغبتهم في تشكيل أقطاب واضحة المعالم لا على المستوى المحلي ولا على المستوى الوطني. ذلك أننا إذا كنا نفكر بمنطق الحزب السياسي بمعنى الكلمة وحرمتها فلا فرق بين ما هو محلي وما هو وطني. أما إذا كنا نفكر بمنطق الأفراد والأعيان فهذا شأن آخر لا يجب نعته بالسياسة. و في ظل هذا الواقع، لا مجال للحديث عن سياسة اقتصادية تنبع من الجهة وتخدم ساكنة الجهة في إطار شراكات مع الجهات المجاورة والمصالح الخارجية للإدارات المركزية أي جهوية السياسة الاقتصادية التي من شأنها تعزيز الديمقراطية المحلية وإبراز مؤهلاتها خاصة البشرية لأن الأحزاب كما تمت الإشارة إلى ذلك لا تقوم بدورها الجهوي لتأهيل الجهة والرقي بها معتبرة نفسها أنها عابرة سبيل إلى حين بلوغ محطة الاستحقاقات الانتخابية الموالية. وهذا السلوك لن يجعل من الجهة فاعلا فعالا يفرض وجهة نظره على المركز من ناحية السياسة الاقتصادية المعتمدة إذ سيبقى مصير الجهة رهينا بما يجود عليه به المركز وفقا للوزن السياسي والاقتصادي والثقافي لساكنة الجهة. أو بمعنى آخر بما يمكن لممثلي الجهة، إذا كانوا جديين في عملهم وما زال عالقا في ذهنهم التضحيات التي قامت بها الساكنة خلال الحملة الانتخابية وغيرتهم على جهتهم، وبالتالي فالحديث عن جهوية السياسة الاقتصادية لا زال لم ينضج بعد والحديث يبقى عن سياسة اقتصادية جهوية. النضج رهين بتطورات المشهد السياسي الذي نأمل أن يتجه نحو التكثلات وعدم التشردم ورهين كذلك بعقلية الأحزاب السياسية واستعدادها للتبني الفعلي والحقيقي لسياسة القرب واستغناءها عن عقلية القرب من المركز والصراع حوله للتمكن منه لأن الأحزاب تعلم أن السياسة الاقتصادية أي كيفية توزيع الناتج الوطني تقرر في المركز. إنه منظور خاطئ وآيل للزوال لأن الخطاب السياسي الرسمي يدعو إلى غير ذلك إذ يدعو إلى الرقي بالعنصر البشري جهويا حتى يتمكن من إبراز ذاته ومقوماته وسن وتفعيل أسس سياسة اقتصادية تتماشى وخاصياته ومتطلباته لنصل، ولما لا، إلى ما هو أهم أي جهوية قانون المالية ليكون قانون المالية الوطني شاملا ومتضمنا لجهوية القوانين المالية النابعة من كفاءات الجهات. وستشعر حينها الكفاءات الجهوية انها معنية بمسار جهتها وأنها الفاعل الأساسي للرقي بالمستوى المتعدد الجوانب للساكنة. إن وثيرة حركية المشهد السياسي في البلاد أبانت على أن بعض الأحزاب السياسية لم تستوعب خاصيات المرحلة الجديدة للألفية الثالثة أو أنها تريد ترك دار لقمان على حالها والأهم أنها باتت غير قادرة على مواكبة وثيرة الإصلاحات ومبادرات جلالة الملك للرقي بهذه البلاد ومستوى معيشة رعاياه. وإذا كانت الانتخابات الأخيرة قد أفرزت نفس النخب ونفس الوجوه، باستثناء تقدم العنصر النسوي وبروز، وبقوة، حزب الأصالة والمعاصرة والذي نأمل أن لا يسلك نفس سبيل الأحزاب المتواجدة منذ القدم ، فيمكن القول أن الأحزاب الأخرى لا زالت كما هي تتصارع على المناصب والمصالح الحزبية وبالأصح الفردية وبالتالي فالشعب لن ينتظر من هذه الأحزاب خيرا لأنها سرعان ما ستتناساه وسيتناساها هو أيضا إلى حين المحطة الانتخابية الجديدة. ولكن الشعب المغربي واثق ومؤمن بشيء أهم هو أن جلالة الملك لن يتركه منهزما أمام جبروت هذه الأحزاب وسيبتكر لأجله مبادرة تلو المبادرة لأن جلالته هو الضامن الوحيد والأوحد للرقي بمختلف مستويات معيشة شعبه حتى ينضج المشهد السياسي وحتى تنضج العقلية السياسية للأحزاب المتواجدة الغير الراغبة والغير مستعدة للتغيير والتي أبانت في مختلف المحطات - لا الانتخابية ولا عند تقلدها تدبير الشأن المحلي أو العام -عن فشلها وضيق رؤاها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.