وهبي في جنيف: نأمل في توافق بشأن إجراء زيارات مستقلة للإطلاع على وضعية حقوق الإنسان بالمملكة    إشادة بالفلاحة المستدامة والمبتكرة بمعرض الفلاحة بالعاصمة الفرنسية باريس    صحيفة أمريكية تنسب لقيادي من حماس انتقاده لهجوم 7 أكتوبر والحركة تنفي    هزة أرضية بإقليم الدريوش بقوة 5.2 درجات على سلم ريشتر    الوكالة المغربية للأدوية والمنتجات الصحية تثير استغراب نقابات الصيادلة    رئيس الحكومة يتباحث مع "ديون"    أخنوش يستقبل لارشير بالرباط    توظيف مالي مهم من فائض الخزينة    اعتقال مواطن فرنسي بمراكش في قضية ترويج المخدرات والاختطاف ومحاولة القتل    سبيك: المغرب ينجح في إحباط مخطط "تفجيرات إرهابية عن بعد"    عن تنامي ظاهرة العنف المادي والمعنوي ضد أطر التربية..    أكثر من 130 مقاتلا مغربيا في تنظيم "داعش" في إفريقيا    تلاميذ طنجة أصيلة يتألقون في البطولة العربية لألعاب الرياضيات والمنطق ويحصدون ميداليتين ذهبيتين    إسبانيا تطرد حلاقا مغربيا من برشلونة بتهمة تجنيد مقاتلين لتنظيم داعش    العداؤون المغاربة يتألقون في ماراثون اشبيلية    استراتيجية المغرب في التعاون الدولي نهج استباقي، متعدد الأبعاد وشامل    الصحراء في المخططات الإرهابية.. بين « تنظيم الدولة » و « دولة التنظيم »!    الاتحاد الأوروبي يعلق عقوبات على سوريا    مراكش.. اجتماع حول المخطط الشامل للتعاون العسكري المشترك بين المغرب والولايات المتحدة الأمريكية    جريمة مزدوجة تهز المحمدية ..سبعيني يقتل ابنته وصهره ببندقية صيد    الطالب الباحث مصطفى المحوتي يناقش رسالة الماستر حول البعد التنموي لقوانين المالية بالمغرب    ندوة بالحسيمة تسلط الضوء على حقوق النساء الراعيات للأشخاص في وضعية إعاقة    منخفض جوي يقترب من المغرب مصحوب بامطار غزيرة وثلوج    رئيس الاتحاد الموريتاني لكرة القدم يستقبل فوزي لقجع    نايف أكرد يغيب عن مواجهة برشلونة بسبب تراكم الإنذارات    الملك يهنئ رئيس جمهورية إستونيا    حريق يداهم الحي الجامعي بوجدة    فرنسا تدين استهداف قنصلية روسيا    دراسة.. ارتفاع معدلات الإصابة بجرثومة المعدة لدى الأطفال بجهة الشرق    ميناء طنجة المتوسط يستقبل سربًا من مروحيات الأباتشي    "زمن الخوف".. الكتابة تحت ضغط واجب الذاكرة    الجبل ومأثور المغرب الشعبي ..    غزة ليست عقارا للبيع!    تفكيك خلية إرهابية مرتبطة بداعش .. عمليات البحث والتتبع لأنشطة عناصر الخلية استغرقت ما يناهز السنة    سفير اسبانيا .. مدينة الصويرة تلعب دورا محوريا في تعزيز الروابط الثقافية بين المغرب واسبانيا    دنيا بطمة تعود إلى نشاطها الفني بعد عام من الغياب    الدار البيضاء.. الأوركسترا السيمفونية الملكية تحتفي بالفنان الأمريكي فرانك سيناترا    مع اقتراب رمضان.. توقعات بشأن تراجع أسعار السمك    دراسة تكشف عن ارتفاع إصابة الأطفال بجرثومة المعدة في جهة الشرق بالمغرب    السد القطري يعلن عن إصابة مدافعه المغربي غانم سايس    المهاجم المغربي مروان سنادي يسجل هدفه الأول مع أتليتيك بلباو    الذهب يحوم قرب أعلى مستوياته على الإطلاق وسط تراجع الدولار وترقب بيانات أمريكية    "كابتن أميركا" يواصل تصدّر شباك التذاكر في أمريكا الشمالية    غوتيريش: وقف إطلاق النار في غزة "هش" وعلينا تجنب تجدد الأعمال القتالية بأي ثمن    السعودية تطلق أول مدينة صناعية مخصصة لتصنيع وصيانة الطائرات في جدة    الصين: "بي إم دبليو" تبدأ الإنتاج الضخم لبطاريات الجيل السادس للمركبات الكهربائية في 2026    الوزير يدعم المغرب في الحفاظ على مكسب رئاسة الكونفدرالية الإفريقية للمصارعة وانطلاقة مشروع دراسة ورياضة وفق أفق ومنظور مستقبلي جديدة    مناقشة أول أطروحة تتناول موضوع عقلنة التعددية الحزبية في المغرب بجامعة شعيب الدكالي    نائب رئيس الكنيست الإسرائيلي يدعو إلى قتل الفلسطينيين البالغين بغزة    صدمة كبرى.. زيدان يعود إلى التدريب ولكن بعيدًا عن ريال مدريد … !    المغربي أحمد زينون.. "صانع الأمل العربي" في نسختها الخامسة بفضل رسالته الإنسانية المُلهمة    فقدان الشهية.. اضطراب خطير وتأثيره على الإدراك العاطفي    التخلص من الذباب بالكافيين يجذب اهتمام باحثين يابانيين    رمضان 2025.. كم ساعة سيصوم المغاربة هذا العام؟    اللجنة الملكية للحج تتخذ هذا القرار بخصوص الموسم الجديد    أزيد من 6 ملاين سنتيم.. وزارة الأوقاف تكشف التكلفة الرسمية للحج    الأمير رحيم الحسيني يتولى الإمامة الإسماعيلية الخمسين بعد وفاة والده: ماذا تعرف عن "طائفة الحشاشين" وجذورها؟    التصوف المغربي.. دلالة الرمز والفعل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أزمة الفكر العربي
نشر في تطاوين يوم 14 - 02 - 2011


بقلم :ذ. محمد عادل التريكي

عندما تلقيت دعوة من إذاعة تطوان الجهوية لإحدى برامجها "ملاحق ثقافية" في شهر شتمبر 1999، ودعوة إذاعة صوت العرب بالقاهرة في شهر غشت 2004، لاستجوابي كصحفي مسؤول عن منبر إعلامي بالمغرب في موضوع "أزمة الفكر العربي"، أدركت لأول وهلة أن تعرضي لهذا الموضوع بالبحث والتحليل سيضعني أمام امتحان عسير وأنا على الهواء مباشرة على مسمع من العالم. والسؤال الذي تبادر إلى ذهني على الفور هو: ما هو المنهج الذي علي أن أطبقه إن أردت حقا أن أنفذ إلى صميم هذا الموضوع المعقد؟ ووجدت الجواب في المنهج الذي بلورته وطبقته في عديد من البحوث والدراسات التي نشرتها في السابق، وهو المنهج التاريخي النقدي المقارن. فبدون أدنى شك أنّ الفكر العربي يعاني اليوم أزمة.. لكن ما هي هذه الأزمة؟ وما مظاهرها؟ وما أسبابها؟ وكيف يمكن الخروج منها؟
وإن كثيرا من المفكرين والكتاب قد وضعوا حلولا لهذه الأزمة كل حسب اجتهاده وفكره وانتمائه وتوجهه ومنهجه، ومن خلال الإجابة عن هذه الأسئلة أكون قد ساهمت بدوري في وضع حلول لهذه الأزمة كما أراها:
أولا: ما هي هذه الأزمة؟
حتى يمكن تعريف الأزمة الفكريّة في الوطن العربي لابد أولا أن نتفق على معنى الفكر.. والفكر- في تصوري- هو: كل محاولات التأمل والتدبر العلمي والراشد التي يقوم بها الإنسان (أو الجماعة) من أجل الوصول إلى الرؤى والمناهج لحل المشاكل التي في طريقه والاستجابة للتحديات التي تواجهه.
بناء على هذا التعريف يمكن القول بأنّ الأمة العربيّة تعاني اليوم أزمة غياب الرؤى الواضحة، والمناهج السليمة لحل المشاكل، والتغلب على التحديات التي تواجهها. وهذا ما قصدته بأزمة الفكر في الوطن العربي.. وبتعبير آخر فإنّ هذه الأزمة هي أزمة غياب الإنسان المنهجي، الواعي، القادر، المنتج، والمبدع.. الإنسان الذي يملك حرية الاختيار، وحق المشاركة في اتخاذ القرار.. الإنسان الذي يسعى جادا من أجل النهوض بنفسه وبشعبه وبأمته.
أقول أن هناك أزمة في الوطن العربي لأن كل اهتمامات العرب اليوم مرتكزة على ما أسماه المفكر الإسلامي مالك بن نبي- رحمه الله- "عالم الأشياء" والأسوأ من هذا فحتى الأقلية المهتمة "بعالم الأفكار" تجد أن أفكارها إما أنها أفكار مريضة تنقصها العلميّة والمنهجيّة والموضوعيّة، أو أنها أفكار ميتة.
فمن الأفكار المريضة-على سبيل المثال- الفكرة الشائعة اليوم عن "تعليم اللغات الأجنبيّة للمواطن"، ففي الوقت الذي يتسابق فيه الكثيرون من النخب العربيّة إلى تعلم وتعليم اللغات الإنجليزية والفرنسية؛ تقف هذه النخب نفسها- بمنع أقوام وشعوب غير عربية مقيمة في الوطن العربي من تعلم لغاتها- كإخوتنا الأمازيغ في شمال أفريقيا والأكراد في المشرق العربي. أليس من الأولى علينا نحن العرب أن نتعلم لغات إخوتنا في وطننا العزيز.. أليس هذا أولى من تعلم لغات أجنبيّة أخرى.. أو ليس هذا ما أمرنا به ديننا الحنيف عندما قال: )...خلقناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا...( وإن لم نرغب في تعلم لغاتهم أليس من الأجدر- على الأقل- أن نساعدهم على تعلم لغاتهم والمحافظة على تاريخهم وثقافتهم.
أمّا عن "الأفكار الميتة" فلعل خير مثال على ذلك هو التشبث المستميت لبعض النخب المثقفة العربيّة بفكرة "الوطن العربي" هذه الفكرة التي ولدت ميتة- وفي تصوري ستبقى ميتة- وستظل عقبة في طريق النهوض بشعوب المنطقة، فعندما حمل العرب فكرة الإسلام التفت حولهم كل الشعوب والأقوام الأخرى في هذه المنطقة، واتحدت معهم، فتعلمت لغتهم، وأكلت أكلهم، واعتزت بهم: إخوة وأخوات، لا فرق بينهم إلا بالتقوى.. حتى وصل بها الأمر إلى أن كان دعاء العجوز الأمازيغيّة في صلاتها " يا رب انصر العرب" وكأن كلمة "العرب" تعني "المسلمين"
ومن هذا الخليط أنجبت الأمة قيادات وعلماء وشعراء وساسة أعتز بهم ويعتز بهم كل المسلمون؛ أمثال القائد صلاح الدين الأيوبي (الكردي)، وعقبة بن نافع (الأمازيغي).. وعلماء كالإمام يحيى معمّر أحد علماء الإسلام في ليبيا، والإمام المهدي في السودان.. وشعراء كالدكتور عمرو النامي.. وساسة كالزعيم سليمان الباروني.
ولكن عندما انسلخ العرب عن المبادئ والأفكار الحيّة التي وحدتهم والقيم الساميّة التي جمعتهم مع الشعوب والأقوام الأخرى في المنطقة- كإخوتنا الأمازيغ، والأكراد، والأفارقة، والتركمان، والمصريين- لم تجد هذه الشعوب والأقوال خيارا إلا أن تطالب بقوميتها، والتشبث بثقافتها، والاعتزاز بلغتها.
كل هذا قادنا إلى الوضع والواقع الذي نحن فيه اليوم.. قادنا إلى أن أصبحنا:
* مستهلكين لا منتجين.
* تابعين لا متبوعين.
* ومجترين لكل ما ينتجه الغير
ثانيا: ما هي مظاهر هذه الأزمة؟
لعل من مظاهر هذه الأزمة- إن لم يكن المصدر الأساسي- هو "غياب الدستوريّة".. إن غياب ما نسميه الدولة الدستوريّة قد يعتبر من أهم- إن لم يكن الأهم- القضايا التي تواجه الإنسان العربي وغير العربي في منطقتنا اليوم.
فالدستور هو العقد الاجتماعي الذي يربط أعضاء الأمة بعضهم ببعض.
* وهو الأداة التي تمنح الحكام المشروعيّة وثقة الشعوب بهم.
* وهو الفكرة التي بواسطتها يمكن أن ننتظم.
* وهو الميثاق الذي يمكن الرجوع إليه عند الاختلاف.
* وهو العهد الذي نلتزم جميعا بالمحافظة عليه.
* وهو التجسيد الحقيقي لكل أماني وأحلام الشعب.
ثالثا: ما هي أسباب الأزمة؟
في الحقيقة أنّ هناك أسباب عديدة لهذه الأزمة. لعل من أهمها الأسباب التاليّة:
1. الاستبداد السياسي.
2. الجمود الفكري ( أو غياب الاجتهاد)
3. التبعيّة.
4. غياب المنهجيّة.
1. الاستبداد السياسي:
لعل من أهم الأسباب التي قادت إلى الأزمة الفكريّة في الوطن العربي هو ما نسميه "بالاستبداد السياسي" ويمكن إرجاع هذا السبب إلى بداية العصر الأموي.. فمنذ ذلك العصر بدأت روح الشورى وحق الاختيار في الزوال. فلقد كان معاوية بن أبي سفيان هو أول مؤسس- في التاريخ الإسلامي- لنظام ملكي وراثي يستند حكمه على القوة والخوف والإكراه.. فلم تكن بيعة "يزيد بن معاوية" أو اختيار يزيد للخلافة قد تمّ في حريّة تامة، وإنما " كان الإكراه فيها أكثر وأغلب" .. وللاستدلال على ذلك نذكر في هذا المقام القصة المشهورة لمبايعة يزيد بالخلافة، والتي تتلخص في أنّ معاويّة كتب في عام 55 ه إلى كل الولايات أن يأتوا إليه لأخذ البيعة لابنه يزيد، فلما حضرت الوفود إلى معاويّة وكان معه بعض أصحابه، طلب معاويّة من هؤلاء الأصحاب أن يبدوا رأيهم في يزيد، فتكلم بعضهم، ثم قام يزيد بن المقفع فقال: "أمير المؤمنين هذا" .. مشيرا إلى معاويّة "فإن هلك فهذا" ..وأشار إلى يزيد، ثم قال: "فمن أبى فهذا" وأشار إلى سيفه.. فقال له معاويّة: " اجلس فإنك سيد الخطباء".
ومنذ ذلك الحين لم يتردد الحكام (وخصوصا في العصر العباسي) من معاقبة كل من حاول التدخل في الشؤون السياسيّة حتى ولو كان من الأئمة العلماء.. فعلى سبيل المثال- لا الحصر- "قام أبو جعفر المنصور باضطهاد الإمام مالك، وضربه سبعين سوطا من أجل فتوى أفتاها بعدم صحة بيعة البعض للخلفاء العباسيين، لأن المبايعين كانوا مكرهين .. إن مالك بن أنس استفتى في الخروج مع محمد بن عبد الله بن الحسن فقال: « إنما بايعتم مكرهين، وليس على مكره يمين»
ومن علامات الاستبداد السياسي في تلك الفترة- أيضا- نجد أن كبير الباحثين والمؤلفين المسلمين في المسائل المتعلقة بنظام الحكم وهو الفقيه القاضي أبو الحسن الماوردي المتوفى سنة 540ه - 1146م، نجده بعد أن كتب كتابه الشهير "الأحكام السلطانيّة" يوصي بعدم نشره إلا بعد وفاته
هذا كما قام المأمون الذي اعتنق مذهب "المعتزلة"- لا سيما رأيهم الشهير بأنّ القرآن "مخلوق"- بإنزال بالغ الأذى بأولئك العلماء (وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل) لا لشيء إلا لأنهم خالفوه في الرأي.
ولم تع أمتنا إلى ما قاد إليه الاستبداد السياسي إلا بعد حوالي أربعة قرون، عندما ساد الفساد، وعمت الفوضى، واستلم القضاء أناس غير أهل له.. وعندما أستدرك العلماء والفقهاء والمفكرين في تلك الحقبة ورأوا ما آلت إليه الأحوال ووجدوا أنفسهم عاجزين على تغيير الواقع. لم يكن أمامهم من حل إلا الاتفاق على "قفل باب الاجتهاد" مما قاد إلى جمود فكري، وغابت روح الاجتهاد.


2. الجمود الفكري (أو غياب الاجتهاد):
بالرغم من الاستبداد السياسي إلا أنّ الإبداع الفكري قد استمر، بل وقد نقول ازدهر في بعض المجالات الأخرى؛ كالأدب والثقافة والفن والعلم والطب على سبيل المثال لا الحصر.
لقد بدأ عصر الجمود منذ قفل باب الاجتهاد في أواخر القرن الرابع الهجري ( آخر القرن العاشر الميلادي). منذ ذلك التاريخ وقفت الأمة عن الإبداع والابتكار واعتمدت على اجتهادات الماضي وآراء السلف.. وهذا الجمود الذي أصاب العلماء والفقهاء والمفكرين في الأمة الإسلاميّة هو أحد الأسباب الأساسيّة لهذه الأزمة التي نعيشها اليوم.
3. التبعيّة:
أحد تعريفات التبعيّة هو "التقليد الأعمى" أو الانقياد وراء الغير بدون دراسة ولا هدف. إن هزيمة المسلمين لأول مرة أمام الأوربيين في معركة "VIENNA " سنة 1683م. في هذه المعركة تم محاصرة الجيوش العثمانيّة مما أدى إلى فشل هذه الجيوش وتراجعها. وسجلت بذلك- ولأول مرة في تاريخ الخلافة الإسلاميّة- أن أُجبر العثمانيون على توقيع اتفاقيّة للسلام سنة 1899 م.. ولقد سجل التاريخ بأنّ هذه الاتفاقيّة كانت بدايّة لمرحلة جديدة، إذ لاحظ فيها المسلمون تخلفهم الفكري وخصوصا في المجالات العسكريّة.
ومنذ ذلك الحين والسؤال هو: ماذا نفعل.. وكيف؟ معروض للإجابة.. ومنذ ذلك الحين ونحن نقلد الغرب في كل شيء.. فعلى سبيل المثال لم تمر فترة طويلة حتى أدرك العثمانيون وخصوصا القيادات العسكريّة بأنهم يواجهون تحدي، ولكي يواجهوا هذا التحدي الجديد لم يكن أمامهم إلا شراء السلاح من عدوهم الذي هزمهم.
ولم يمر زمن طويل- أيضا- حتى أدركت تركيا بأنّ شراء السلاح وحده لن يكون كافيا؛ بل لابد من معرفة طرق وكيفيّة استخدامه والاستفادة منه . وهذا الذي أرغم تركيا إلى بعث أبنائها إلى الخارج، والاستعانة بالخبراء وبناء المؤسسات على الطراز الغربي.
ومنذ ذلك الحين ونحن نتبع الغرب في كل صغيرة وكبيرة، فعلى سبيل المثال ما أن راجت فكرة "القوميّة" في الغرب حتى قامت طائفة من المسلمين ينادون بها.. وقاد ذلك إلى التحالف مع الإنجليز ضد إخواننا الأتراك، وكانت النتيجة أن خاننا الإنجليز، وفقدنا أخوة لنا، وضيعنا أراضي المسلمين وقسمناها.
وما أن راجت فكرة "الماركسيّة"- في العشرينات- حتى قامت طائفة أخرى من المسلمين ينادون في الناس بأنّ الاشتراكيّة ليست إلا الحل الاقتصادي في الإسلام.. ليس هذا فقط؛ بل لقد بلغ الأمر ببعض كبار رجال العلم والفكر في الوطن العربي إلا أن نادوا جهارا نهارا باتباع الغرب، والاقتداء بهم في كل شيء، فعلى سبيل المثال- لا الحصر- نادى عميد الأدب العربي (في ستينيات القرن الماضي) الدكتور طه حسين في أحد مؤلفاته: «بتقليد الغربيين في ثقافتهم، في تفكيرهم.. وفي تعليم لغتهم قديمها وجديدها.. حرفا بحرف» إذ نجده يقول: « إنّ العقليّة المصريّة عقليّة أوروبيّة لها اتصال وثيق بالعقليّة اليونانيّة، بعيدة كل البعد عن العقليّة الشرقيّة».
وإذا كان الدكتور طه حسين قد نادى بتقليد الغرب في كل شيء حتى لغتهم؛ فها هو الأستاذ الدكتور صادق جلال العظم يذهب إلى أكثر من ذلك إذ نجد في كتابه "نقد الفكر الديني" يدعو للقضاء على الاتجاهات الدينيّة وذلك لأن الدين- كما يدعي- مناقض للعلم. فعلى سبيل المثال يقول الأستاذ العظم: «عندما نقول مع (نيتشه): إن الله قد مات أو هو في طريقه إلى الموت، فنحن لا نقصد أن العقائد الدينيّة قد تلاشت من ضمير الشعوب، وإنما نعني أنّ النظرة العلميّة التي وصل إليها الإنسان عن طبيعيّة الكون والمجتمع والإنسان خاليّة من ذكر الله تماما» .
وفي نفس الكتاب يقول: « يجب ألا يغيب عن بالنا أنّه مرت على أوربا فترة تتجاوز القرنين ونصف القرن قبل أن يتمكن العلم من الانتصار انتصارا حاسما في حربه الطويلة ضد العقليّة الدينيّة التي كانت سائدة في تلك القارة». والعجيب في هذا الأمر أن الأستاذ العظم يخلط هنا- عن قصد- بين المسيحيّة التي رفضت العلم في فترة من تاريخها وبين الإسلام الذي شجع العلم وكرّم العلماء. لقد عجز الأستاذ العظم على تقديم مثال واحد يقف فيه الإسلام ضدّ العلم. وكل ما استدل به الأستاذ العظم هو مقولة نيتشه بأنّ "الله مات"، فما علاقة هذا بذاك.. أيّ ما علاقة هذه المقولة الشاذة- حتى في الفكر الغربي- بالإسلام والمسلمين.
ومن المسلمين الذي يقول بأنّ العلم والدين شيئان متناقضان. فكل باحث موضوعي- مسلم أو غير مسلم- يدرك بأنّ الإسلام دين العلم ومدرسة العلماء، وذلك لأنّ العلم يقود إلى الإيمان واليقين. ومن المعروف لكل من درس الإسلام بأنّه دين الدليل والبرهان، يقول تعالى: )قل هاتوا برهانكم إنّ كنتم صادقين(.. وهو دين التحدي يقول تعالى: )يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا، لا تنفذون إلا بسلطان(
ولعل من أغرب التعليلات في اتباع الغرب والاقتداء بهم هو الشعار الذي رفعه كمال آتاتورك وأتباعه من أعضاء "حركة تركيا الفتاة". يقول آتاتورك: «بأن العالم شهد العديد من الحضارات، كل واحدة منها نمت وترعرعت واندثرت. وفي هذه المرحلة التاريخيّة توجد حضارة حيّة واحدة فقط، لابد من اتباعها والاشتراك فيها، وإلا سوف نبقى غير متحضرين».
رابعا: كيف يمكن الخروج من هذه الأزمة؟
في اعتقادي يمكن الخروج من هذه الأزمة إذا تمّ تحقيق الأتي:
• إزالة الاستبداد السياسي الأمريكي.
• التخلص من التبعيّة.
• تحديد الهويّة.
• إتباع المنهجيّة العلميّة.
• إزالة الاستبداد السياسي الأمريكي:
أنا من المؤمنين بأنّ الاستبداد السياسي الأمريكي لا يمكن أن يزول إلا إذا كنّا أقوياء. وعليه فلابد أن نعي بأنّ الذين يملكون القوة دائما يملكون حق تقرير المصير، ولابد أنّ ندرك بأنّ المنتصرين هم الذين يصنعون التاريخ ويكتبونه.
ومن هذا فلابد أن نعتمد على أنفسنا وأن نعدّ العدة ونستعد دائما من أجل إزالة كل مظاهر الاستبداد السياسي.
وهذا ما يذكرنا به القرآن الكريم دائما عندما يقول: )وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل(.
• التخلص من التبعيّة:
وهذا أيضا سيتحقق إذا أصبحنا أقوياء، وذلك لأنّ "نزعة التقليد"- كما يقول ابن خلدون في مقدمته- هي ظاهرة من ظواهر تقليد الضعيف للقوي «فإن المغلوب مولع دائما بالاقتداء بالغالب». وهذا التقليد والانبهار به يقود دائما إلى التبعيّة. وكل دارس للتاريخ يرى بكل وضوح أنّ أغلب التغيرات الحضاريّة دائما تبدأ بانتصار في أرض المعركة. فهزيمة المسلمين في "VIENNA "- على سبيل المثال- كانت بدايّة لمرحلة جديدة. أدرك فيها المسلمون تفوق الغرب مما قاد المسلمين إلى التبعيّة، وتقليد الغرب تحت شعار "التمدن". وقد بدأت هذه المرحلة بإدراك المسلمين ضعفهم العسكري، مما دفعهم إلى التفكير في الاستعانة بالخبراء الأجانب القادرين على استعمال الأسلحة المستوردة من الغرب. وهذا بالتالي دفع الدول الإسلاميّة إلى إصلاح النظام التعليمي، ومن ثمّ إدخال النظام الغربي التعليمي.
هذه التبعيّة التي بدأت بتقليد الغرب والاستعانة به في التسلح، قادت إلى مجال التعليم، وها هو اليوم ينتشر في كل مجالات الحياة. فالمسلمون اليوم يتبعون الغرب في كل شيء حتى- عند البعض على الأقل- في مفهوم الدين والتدين، وفي علاقة الدين بشؤون الحياة، وذلك فإنّ الأداة الوحيدة للتخلص مما نحن فيه هو أن نتخلص من تبعيّة الغرب والشرق على السواء.
• تحديد الهويّة:
لكي نعيد لأمتنا مكانتها الطبيعيّة تحت الشمس، ودورها الريادي بين الدول؛ لابد أن نحدد هويتنا. وهذا يعني أن نعرف من نحن قبل التفكير في ما نريد. فعلى سبيل المثال قد يقول البعض نحن مسلمون من الجنس العربي، ويقول آخرون نحن مسلمون من الجنس الأمازيغي. فالهوية- هنا- لنا جميعا هي الإسلام، وذلك لأننا التقينا على فكرة واحدة- وهي الإسلام- برغم من أنّنا أتينا من أجناس مختلفة.
لابد أن نتفق بأنّه لكي نحدد هويتنا لابد لهذه الأمة من فكرة، ولابد لهذه الفكرة من إنسان يحملها، ولابد لهذا الإنسان من أرض ينطلق منها.. وذلك لأنّ الأفكار أسمى من الأجناس، والأجناس أقدس من الأرض. ولعل خير مثال على تجسيد هذه الفكرة ما قاله سيدنا عمر بن الخطاب: « نحن قوم أعزّنا الله بالإسلام، فإن بغينا العزّة في غيره أذلّنا الله».
ومن جانب آخر- في هذا الصدد- يمكن الاستفادة من تجارب الشعوب الأخرى: فعلى سبيل المثال- لا الحصر- نجد أنّ اليهود قد اهتموا بهذه القضيّة، وهذا ما مكنهم من النجاح والاستمرار عبر التاريخ برغم من كل التحديات التي واجهتهم. ومن آخر ما ابتكره اليهود- من أجل تحديد هويتهم- فكرة "الصهيونيّة" .لقد وضع اليهود هذه الفكرة شعارا استراتيجيّا وهدفا منشودا. فقد كان شعار الصهيونيّة عندما أتت إلى فلسطين: "شعب بلا أرض.. في أرض بلا شعب". لقد حمل هذا الشعار الإنسان الصهيوني وانطلق به إلى فلسطين وعاصمتها القدس الشريف.
ولعل المثال الثاني- على أهميّة تحديد الهويّة- هو ما قامت به اليابان بعد الحرب العالميّة الثانيّة، من المعروف- لكل من درس التاريخ الياباني- أنّ اليابان دولة فقيرة جدا في مواردها الطبيعيّة، فهي تستورد أكثر من ( 95% ) من المواد الخام التي تستخدمها في التصنيع. فأين يكمن مصدر قوة اليابان اليوم ؟
تكمن قوة اليابان وازدهارها في الإنسان الياباني ذاته، يقول الأستاذ محمود محمد سفر (في كتابه دراسة في البناء الحضاري): « لقد كان أعظم اكتشافات اليابان هو الإنسان ذاته، إذ بهذا الإنسان، وعلى أرضها وقفت اليابان بإباء وشموخ».
ويستمر الأستاذ سفر في وصفه نهضة اليابان قائلا: «.. لقد كانت اليابان دولة غير متقدمة حتى بداية القرن العشرين.. ولكن بعد أن حدّد الرجل الياباني "هدفه"، وعرف ماذا يريد أن يقوم به، أخذ يسعى في مشارق الأرض ومغربها بحثا عن الوسائل التي ستحقق له ذلك الهدف. فبعث اليابان ببعثات إلى كل الدول الغربيّة والشرقيّة بما فيها مصر في عصر الخديوي إسماعيل يبحثون عن أسباب تقدم هذه الدول».
وعندما أتى اليابانيون إلى مصر ولم يجدوا ضالتهم لم يتأثروا بشيء من ثقافة مصر ودينها ولغتها، تلك هي الروح الحقيقيّة لبداية انطلاق اليابان. إنّ اليابانيين عندما ذهبوا إلى الشرق والغرب لم تشغلهم المسميّات أو المناصب، وإنّما شغلتهم أهداف ساميّة للنهوض ببلادهم، وشغلتهم معرفة أسرار التقدم والتقنيّة.. هذا ما نريد اليوم في وطننا العربي من أجل النهوض والتقدم.
• إتباع المنهجيّة العلميّة:
من الأمور التي تنقص أمتنا- هذه الأيام- هو ما يمكن تسميّته "بالمنهجيّة العلميّة". إنّ غياب المنهجيّة العلميّة في التفكير والعمل يعتبر من أهم الأسباب التي قادت أمتنا إلى الوضع التي هي فيه اليوم.. وعليه فلابد من التذكير بالحقائق التاليّة:
* لابد أن نعلم بأنّ الفكر لكي يكون منتجا لابد أن يكون منظّما.
* لكي يكون هذا الفكر منظّما لابد أن يكون له أولويات.
* لابد أن يكون منهجنا مبني على علم ودرايّة
* لابد أن نعي بأنّه من شروط المنهجيّة أن تكون أساليبنا وأهدافنا واقعيّة، بمعنى لابد من الانطلاق من الواقع الذي نحن فيه باستخدام الوسائل المتاحة والتي لا تتعارض مع ديننا ومبادئنا وقيمنا.

-----------------------------------------------
المراجع:
1. مقدمة ابن خلدون، ج 2 صفحة 549 ، (طبعة 1379 ه) شرح وتعليق علي عبد الواحد وافي
2. الكامل في التاريخ لابن الأثير، ج3 ص: 198 - (راجع أيضا الأحكام السلطانيّة للماوردي ص:8)
3. تاريخ الطبري، ج 9 صفحة 206، طبع مصر - (راجع ضحى الإسلام ج 2 للأستاذ أحمد أمين ص: 32)
4. عبد الحميد متولي " أزمة الفكر السياسي الإسلامي" 1985، الطبعة الثالثة، الهيئة المصريّة العامة للكتاب، ص: 50
5. طه حسين "مستقبل الثقافة في مصر" الجزء الأول.. الطبعة 1938م، ص: 63
6. عبد الرحمن حسن الميداني "صراع الملاحدة حتى العظم" دار القلم- بيروت 1980م ص: 142
7. محمود محمد سفر "دراسة في البناء الحضاري" طبعة 1409 ه صفحة 87
8. Bernard Lewis (1997) “THE WEST AND THE MIDDLE EAST” Foreign Affairs, January / February p. 127


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.