بمشاركة المغرب.. انطلاق أشغال الدورة العادية ال46 للمجلس التنفيذي للاتحاد الإفريقي    الرباط: مجلس المستشارين يختتم أشغال الدورة الأولى من السنة التشريعية 2024-2025    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الأربعاء    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولات الأربعاء بأداء إيجابي    سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة: النظام الجزائري يحاول التقارب مع تل أبيب من خلال وساطة أفريقية والقيادة الاسرائيلية ترفض    إبراهيم دياز يعلق لأول مرة بعد الفوز على مانشستر سيتي    الاتحاد الدولي لألعاب القوى يلزم العداءات ب "مسحة الخد" لإثبات أنَّهنَّ إناث    ظهور مفاجئ لسمكة "الشيطان الأسود" في الأعماق يثير الدهشة    القاتل الصامت بنهي حياة شابة بتزنيت    إصابة عامل في مزرعة ألبان بولاية نيفادا الأمريكية بسلالة جديدة لإنفلونزا الطيور    دوري أبطال أوروبا (ذهاب ملحق ثمن النهاية): ريال مدريد يعود بفوز ثمين من ميدان مانشستر سيتي (3-2)    إقالة المفتش العام للوكالة الأميركية للتنمية بعد انتقاده لترامب    بعد توجيهه لرسالة يطلب فيها عقد لقاء.. التنسيق النقابي لقطاع الصحة: "الوزير تجاهل طلبنا ومستمر في الانفراد بالقرارات"    توقعات أحوال الطقس اليوم الأربعاء    إسرائيل تتوعد حماس ب"معارك عنيفة" وإنهاء اتفاق الهدنة في حال عدم إفراجها عن الرهائن بحلول السبت    الصحة العالمية: سنضطر إلى اتباع سياسة "شدّ الحزام" بعد قرار ترامب    الصين تعرب عن استعدادها لتعزيز تطوير الذكاء الاصطناعي مع الدول الأخرى    حوار قطاعي بين وزارة العدل والنقابة الوطنية للعدل.. توافق حول ملفات الترقية والتعويضات والخصاص    سوريا ترفض الإفراج عن جنود وضباط جزائريين وعناصر من بوليساريو.. دليل إدانة ضد الجزائر وبوليساريو لمشاركتهما في تقتيل الشعب السوري    شرطة مراكش تفكك شبكة للبغاء    ‬"أونكتاد" تتفحص اقتصاد المغرب    المصالحة تتعثر في أولمبيك آسفي    مشاريع مبرمجة في مقاطعات البيضاء تشحن الأجواء بين "البام والأحرار"    كيف تحمي نفسك من الاحتيال عبر الإنترنت في 2024: دليل شامل لحماية بياناتك وأموالك    الشرع يصدم كابرانات .. المقاتلين الجزائريين في صفوف الأسد سيحاكمون في سوريا    زيارة رئيس الاتحاد العربي للتايكوندو السيد إدريس الهلالي لمقر نادي كلباء الرياضي الثقافي بالإمارات العربيةالمتحدة    دوري أبطال أوروبا لكرة القدم.. باريس سان جرمان يضع قدما في ثمن النهائي بفوزه على بريست (3-0)    الرئيس السوري أحمد الشرع يرفض طلب الجزائر بالإفراج عن معتقلين من الجيش الجزائري وميليشيات البوليساريو    البحرية الملكية تنقذ مهاجرين سريين كانوا عالقين في أعالي البحار    مجلس المستشارين يختتم دورته الأولى للسنة التشريعية الرابعة ويستعرض حصيلته    خبير جيولوجي: قوة "زلزال وزان" تسجل عشرات المرات دون استشعار    إسرائيل تتوعد حماس ب"معارك عنيفة"    لقجع: تنزيل الإصلاح الجبائي مك ن من تسجيل تطور مستمر للمداخيل الجبائية    شدد على أهمية اتخاذ تدابير لخلق فرص الشغل ودعم المقاولات الصغرى والمتوسطة .. صندوق النقد الدولي يدعو المغرب إلى استهداف التضخم ومواصلة توسيع الوعاء الضريبي    "أمر دولي" يوقف فرنسيا بمراكش    المغرب يخسر نقطة في مكافحة الفساد .. وجمعية "ترانسبرانسي" تتأسف    مداولات البورصة تتشح ب"الأحمر"    المجلس الأعلى للحسابات يدعو الموظفين والأعوان لتجديد التصريح بالممتلكات    7 مغاربة يتوّجون بجائزة "ابن بطوطة"    أيقونة مجموعة "إزنزارن" مصطفى الشاطر في ذمة الله    منتج فيلم "روتيني" يلجأ إلى القضاء    احتفاء بالموسيقى المغربية الأندلسية    "قُبلة المونديال" .. روبياليس "متأكد تماما" من موافقة هيرموسو    حاسوب خارق يمنح برشلونة الأمل للفوز بلقب دوري أبطال أوروبا ويصدم ريال مدريد    باحثون يطورون اختبارا جديدا يتنبأ بمرض الزهايمر قبل ظهور الأعراض    منظمة الصحة العالمية تطلق برنامجا جديدا للعلاج المجاني لسرطان الأطفال    تتويج الشاعر المغربي عبد الوهاب الرامي بجائزة "بول إيلوار 2024"    الطرق السيارة بالمغرب: تثبيت جسر الراجلين عند النقطة الكيلومترية "PK1" للطريق السيار الدار البيضاء-برشيد ليلة الأربعاء-الخميس    وزيرة الثقافة الفرنسية تزور مدن الصحراء المغربية لتعزيز التعاون الثقافي بين المغرب وفرنسا    مباحثات مغربية إماراتية لتعزيز التعاون في مجال الطيران المدني    سعيد الناصري يختار درب السلطان لتصوير فيلمه السينمائي "الشلاهبية"    بسمة بوسيل تحت الأضواء مجددا بعد تصريحاتها الجريئة حول طلاقها من تامر حسني    التصوف المغربي.. دلالة الرمز والفعل    مناهضو التمييز يحذرون من وصم الأطفال بسبب "بوحمرون" ويدعون إلى إجراءات شاملة    الشيخ محمد فوزي الكركري يشارك في مؤتمر أكاديمي بجامعة إنديانا    والأرض صليب الفلسطيني وهو مسيحها..    جامعة شيكاغو تحتضن شيخ الزاوية الكركرية    المجلس العلمي المحلي للجديدة ينظم حفل تكريم لرئيسه السابق العلامة عبدالله شاكر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النزوع إلى التجديد في مجموعة: "شيء من حتى" للقاص، محمد لغويبي.
نشر في تطوان بلوس يوم 26 - 04 - 2016


بقلم: الأستاذ المبدع و الناقد:عبد الرحيم التدلاوي
يُتابع الكاتب و القاص المغربي محمد لغويبي ، ممارسة غوايته بإصرار، نقصد غواية كتابة القصة القصيرة. فبعد إصدار مجموعتين قصصيتين :"نبوءة" 2007 و "سيف من خشب" 2009، أصدر سنة 2014 مجموعة قصصية ثالثة تحمل العنوان التالي: "شيء من حتَّى"، في طبعة تغري بالاكتشاف. وهو، الآن، بصدد إنجاز مجموعة جديدة، سترى النور قريبا.
و تَضُمُّ المجموعة أربعة عشر نصا قصصيا، جاءت على الشكل التالي :
1- قطعة من سكر
2- ملح في بحر
3- على مرمى حجر
4- الذهاب مع الريح
5- الفصل الخامس من الحلم
6- حلم على عجل
7- عزف على وتر
8- على حافة سَهل
9- بيت من زجاج
10- المؤامرة العاشرة
11- رأسا على عقب
12- مَقاَمة بين قوسين
13- حبر على ورق
14- موعد مع الفرح
و هي عناوين تحبل بالكثير من الأسئلة في بنيتها و دلالاتها و تشابكاتها النصية و الثقافية.
يحتفي القاص في هذه التجربة الجديدة، بالقصة القصيرة على مستويات كثيرة فنية و إبداعية و دلالية تؤسِّسُ لأفُقِهِ الخاص و إبداعيته الخاصة، سَرْدِيا و ثقافيا و مجتمعيا...


تغرينا المجموعة بالقيام برحلة في ربوع حقلها الذي يضم وردا مختلف الأنواع والعطور، فمن العتبة الأولى، نجد أنفسنا في رحلة في الزمان والمكان معا، فشيء من حتى ، تلك الصرخة التي أطلقها النحوي؛ سيبويه، وهو يراود ويروض حرف حتى، تغرينا بأن نسبح في بحرها الخضم، بحثا عن معاني جديدة، واكتشاف قارات بكر، فل: حتى، أبعاد ظاهرة تم القبض عليها، وأخرى مضمرة تثير شهية البحث عنها واستخراجها كما يستخرج الدر من المحار، والسفر قدرة على الانتعاش، والتجدد، والاكتشاف، اكتشاف الذات والآخر، وليس بدعا أن يكون العنوان الداخلي الأول، للنص الأول: "قطعة من سكر" ص3، يحمل بعد الرحلة، فكلمة السفينة، تفيد هذا المعنى، إنها وسيلة نقل وانتقال، فضلا عن أن العنوان الرئيس، قطعة سكر، يحمل في طياته معنى الانتقال كأحد أبعاد السفر، فالقطعة منذورة للذوبان، أي الانتقال من حالة الصلابة إلى حالة السيلان والذوبان. والرحلة تقدم للإنسان ما يفيد هذه الأبعاد...
وإلقاء نظرة سريعة على مختلف أبعاد صورة نص "قطعة من سكر"ص3، تبين أنها تحفيز على السفر، بيد أنها في بعض محطاتها دعوات مضللة، ينبغي الحذر منها، لكونها سخرية مبطنة، إذ لا يعقل أن يكون السارد وهو يخاطب اللص داعيا إياه إلى الرحيل، جادا في نصحه، بل يريد منه الابتعاد عن الوطن، أن يذوب وقد حمل ما ثقل وزنه وغلا ثمنه، المهم، أن يرحل كما رحل من سرق قبله، أن يتوارى عن الأنظار، أن يخفي قبحه، فالوطن لن يستسيغ حضوره وبقاءه، وخير ما يفعل، أن يذهب إلى حال سبيله، ولكلمة: الرحيل، ثقل دلالي، إذا ربطناها بسياق الربيع العربي قبل أن يحترق ويصير خريفا. وتبقى دعوة الرحيل تعبيرا عن السفر، والابتعاد، والانمحاء، لكن، مقابلها، نجد سفرا إيجابيا حين يرام التطهر بهدف استعادة البراءة المفتقدة، فمثل هذا السفر في أغوار النفس سيكون، ولا شك، تجربة جديدة، تجربة صوفية تقبض على معنى الذات في الوجود، تكتشف الهدف من حضورها في هذا العالم، ما ينبغي التسلح به الجرأة لا التردد. وهي الدعوة التي ستبرز في النصيص الموالي: الغابة، إذ تشكل مجالا طبيعيا لتحقيق هدف التطهر، واستعادة الذات من ضياعها المادي، والروحي.
وفي النشيد الأخير من قصة "قطعة سكر"، والذي يحمل العنوان التالي، الجب، نجد الرغبة القوية في الخلاص من المؤامرة، والخروج من الجب كما الخروج من الرحم، بنفس جديد، وروح وثابة، منطلقة، عاشقة للحياة، إنها رغبة ضرورية لمعانقة إنسانيتنا، وولادة جديدة بصيغة جديدة.
وإذا كان الرحيل هما ثقيلا يحمل معاني المغامرة و الاكتشاف و التجريب و حرقة الأسئلة الحاملة أيضا للدهشة و ربما تناقض الأوعاء، فإن التكرار والرتابة تقف على النقيض من ذلك، لكونها تحمل معاني الجمود والخمول والكسل، وهي كلها معاني قاتلة للاكتشاف والتجدد: إنها بداية الأسبوع، يوم جديد يطوي أسبوعا كاملا من الجري والإرهاق والعكس، بليله ونهاره، بأحاجيه وتوقعاته، بحكاياته الصغيرة والممكنة، كان صباحا عاديا، كان وقتا عاديا، لا يختلف عن أي صباح آخر عاشته...ص 25. لم يحدث اللامتوقع، لم يطرأ الجديد والمغاير، الكل تحت سطوة الرتابة، وتحت إمرة العادي والمكرر. ومن هنا تلك الصرخة المدوية الواردة في بداية نص "مقامة بين قوسين" ص 55: من يستمتع بالحياة في هذا الزمن الأصفر؟ صرخة من الأعماق تؤكد الإحساس بثقل الملل بفعل الرتابة والتكرار؛ تقويه شبه الجملة: بين قوسين، الدالة على الحصار والإعتقال. ومن هنا منطقية الدعوة إلى السفر، وإلى الخروج من دائرة المعاد والممل، إلى فساحة المغامرة والتجريب؛ بمعنييه الواقعي والإبداعي.
كما أن المجموعة تحتفل بالمرأة في علاقتها بالرجل، وهي إذ تقدم أشكالا من التواصل بينهما متنوعة ومختلفة، تستضمر رحلة البحث الأولى التي قام بها آدم، الرجل الأول، في بحثه عن أناه الثانية، حواء، في مسعى بلوغ اكتماله. إنها توظف هذا البعد الضارب في العتاقة والقدم، لتؤكد أن الرجل لا يمكن أن يعيش خارج دائرة المرأة، لأنها بعده الحيوي، وحضوره الممكن، من دونها لا يساوي شيئا. إنها المدماك والأساس، بها تنهض حياته، ومن دونها لن يعيش سوى الخراب.
ومن هنا، كان حضورها الشهرزادي المستمر، فبفضل حكاياتها يستمر الرجل في الزمان كما في المكان.
ونلاحظ أننا أمام ضروب مختلفة من هذه العلاقات، فمرة تكون انسجاما وتكاملا، ومرة تكون انفصالا وضياعا.
وحين تستعيد المجموعة في بعض نصوصها قصة آدم وحواء، فإنها توظف التناص كعنصر يضمخ القص بالعتاقة والتجدد في الآن ذاته.
ما ينبغي الإشارة إليه، هنا، أنه تناص ذو بعد بان، يساهم في تنامي الأحداث، وتقوية الدلالة، وليس حلية تثقل كاهل النص.
وهكذا، نعثر في الإضمامة على الكثير من العلامات التناصية الظاهرة والمضمرة، مستقاة من النص المقدس وغير المقدس.
فابتداء من العنوان الذي يستدعي صرخة كبير النحويين، سيبويه، والمعبرة عن عدم قدرته على الإمساك بكل معاني حرف: حتى، وإلى آخر نص، نعثر على الكثير من النصوص الغائبة ذات الحمولات المختلفة، والمنتمية لحقول معرفية متنوعة.
فالعنوان يقوي فكرة الحث على الغوص في النصوص لاستجلاء مضمراتها، فما تقدمه لنا لا يمكن اعتباره إلا الظاهر من جبل الثلج، أما الأساس، فهو المختفي خلف أستار تتطلب رفعها لمعرفة الأحداث بكل وضوح وجلاء.
إنه إغراء بالسباحة عميقا للإمساك بالجواهر الدفينة، وما الظاهر إلا علامة طريق ترشد، وتوحي وتغري. فهي الجزء الذي لا يستغني عن الكل.
كما أن اللوحات الأخرى تحاور النص التراثي والديني لغايات جمالية ودلالية.
فتوظيف عجز بيت المتنبي: تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، لم يكن بغاية تأكيد الإحباط، وزرع اليأس في النفوس، بل من أجل الحث على خوض المغامرة، وعدم الركون للفشل.
ويمكن القول الشيء نفسه بخصوص توظيف قصة سيدنا يوسف، عليه السلام، في اللوحة الأخيرة من نص "قطعة من سكر"، بالتشجيع على الخروج من الجب، لا بواسطة قوة خارجية، بل بفعل قوة نابعة من داخل الذات.

الجانب البنائي:
تتنوع آليات الاشتغال داخل المجموعة لتكشف عن الوجه اللعوب لكتابة تنزح بشكل كبير نحو تجريب سلس ومرن. من خلال نصوص مختلفة من حيث البناء، والتضمين، والتوظيف.
المشهدية:
تبرز ملامح الكتابة المشهدية عبر النزوع نحو اعتماد تقسيم النص إلى وحدات سردية مستقلة، لكنها مترابطة عضويا فيما بينها. نصوص فسيفسائية تشكل لوحة مكتملة الملامح. ولعل تنويع من هذا القبيل يكشف عن إمكانيات هائلة، وتعدد زوايا الالتقاط وإبراز الملامح المشكلة لمعالم بناء النص القصصي القصير، كما في نص "قطعة من سكر" ص 3. فالنصيصات المشكل للقصة قد تبدو متنافرة، ومشتتة، لكن الحقيقة أنها ذات وحدة، يجمع بينها خيط ناظم، وما تشتتها الظاهر إلا تعبير عن التشظي الذي يعرفه المجتمع، ويطال شخصياته.
البناء المتوازي:
وتحقق في قصة "رأسا على عقب" التي سردت حكايتين متوازيتين، تتفقان في بعض السمات وتختلفان في أخرى. نصان متوازيان لكنهما متقاطعان.
البناء الدائري:
وقد اتخذ مظهرين أولهما تكرار نفس العبارة في بداية القصة ونهايتها وقد تحقق في قصة "المؤامرة العاشرة"ص 45، وهو تكرار معبر عنه بالأفعال نفسها التي تؤديها الشخصيات، برتابة : ثم تنتهي، دون اكتراث، بلا إحساس كاذب حتى، بلا حشرجة مشهدية متقنة حتى. ص 45، تؤدي الشخصيات أدوارها بآلية وبرودة قاتلتين.
وليس غريبا أن يحضر حرف "حتى" مكررا، وهو المشكل لعنوان المجموعة، وكأنه يخبرنا أن مجموع شخصيات النصوص تكابد الملل، وتعاني الانكسار.
والحق، أننا أمام شخصيات متشظية، عاجزة، وضعيفة، تعاني القهر والضياع، وتمارس حياتها من دون لذة. تعيش حالة التشذر والشتات وتنتهي إلى العجز والخيبة.
وثانيهما جعل الفقرة الأخيرة من النص جوابا لسؤال الاستهلال، نشبه عض القطة لذيلها؛ ومثاله قصة"مقامة بين قوسين"ص 55. فجواب: من يستمتع بالحياة في هذا الزمن الأصفر؟ كان في الفقرة الأخيرة من النص، وجاء وفق الشكل التالي: بلع السؤال ومضغه، وعكس ما يشتهي في مساء السبت المنتظر دعا الصرصور إلى وليمة في أحد مطاعم المدينة...صص58 و 59.
البعد البصري، والتشكيل الدائري:
نجد القاص ينحو باتجاه كتابة تخاطب العين، أيضا، ففي نص "الفصل الخامس من الحلم" ص21، يظهر بشكل جلي أن القصة قد اتخذت لنفسها صورة قصيدة التفعيلة، حيث توالت الأسطر مشكلة مقاطع ذات أحجام مختلفة، تؤكد، بالملموس، الشكل الدائري المعتقل لحرية الشخصيات، والضاغط على نفسها.
إن الشكل البنائي لهذا النص ينحو باتجاه كتابة مختلفة تقربه قليلا من القصيدة، لتصير، أقصودة.
والناظر إلى الفقرة الأولى من النص سيشعر بهذه الدائرية، حيث الحلم يدور حول نفسه دوران الفصول، بشكل مكرر ودائم، يزيد من ثقل وقعه تكرار فعل: أحلم في نهاية الأسطر الخمسة الأولى، وبداية السطر الأخير منها ثلاث مرات. لينتهي النص بخيبة شديدة الأثر، فبالرغم من أن النشيد يشيد بأهمية الفصل الخامس في حياة الشخصية الأساس، والمقصود بهذا الفصل تلك الحبيبة التي عطرت حياته بدفق حضورها، ورائع عطائها، إلا أن الخروج من الدائرة الجهنمية كان بالتخلي عن محبوبته والعودة خائبا صحبة العرافة الذكية.
خاصية التكرار:
إن نصوص "شيء من حتى" تنطوي على ميزة سردية ذات أبعاد جمالية وفنية، وهي أن الوقائع تتكرر أكثر من مرة؛ تيمة وفضاء وأحداث...وبالتالي أصبحت وكأنها نص واحد متعدد المرايا والأوجه والصفات. إنها نصوص تعكس حياة واحدة، وواقعا واحدا ووحيدا..هو واقع مجتمع مترد وفاسد، تسوده المتناقضات، وتطبع حياته الاجتماعية، والسياسية، خروقات...{1}

اللغة في المجموعة:
في القصص التي تضمها مجموعة "شيء من حتى"، كثير من الاحتفال بما هو يومي وموصول بالبيئة المغربية بخاصة ؛ من ذلك استعمال اللسان الدارج المغربي العربي والدخيل وذلك في الجملة والكلمة معا.. لدعم الاتصال المباشر بالبعد البيئي المغربي...وفي هذا إلحاح على تأصيل القصة مغربيا، ومثاله، ما نجده في نص "مقامة بين قوسين" ص55: رأى بعينيه البيض المقلي والفرماج والكشير وخبز القمح وبراد أتاي المشحر و"الاعاصير" يمد الغرصون بقايا ملوية للصرصور العجوز، ويخرج من المقهى وتهبط به قدماه إلى المارشي...ص 58. فقد احتشدت في هذا المقطع مفردات مضمخة بعطر الأرض المغربية، يفوح منها عطر الأرض، وتعبر عن واقع الإنساني المغربي، فمن خلال وجبة الفطور ندرك تماما أنها مستخرجة من المطبخ الخاص بهذا البلد، لكون معجم الأطعمة له نكهة خاصة تربطه بقوة بهذا الفضاء، الشاي المشحر، والبيض المقلي، والملوية، لا يمكن إلا أن تكون مغربية، يزيد من تجذرها بهذا المكان، الكلمات الفرنسية الدخيلة، والمدرجة: الكشير، والفرماج، والغرصون، لقد تم تبييئها، ووشمها بالطابع المغربي، فأي مطعم بهذا البلد ستعثر فيه، ولا شك، على عناصر هذه الوجبة الشعبية.
البعد الساخر:
ترصد المجموعة ما يعرفه المجتمع المغربي من تبدلات وتغيرات، كما تتابع تحولاته، مسلطة الأضواء على أهم التحولات التي عرفها المغرب خلال هذه الفترة، على مستوى الحريات وحقوق الإنسان. مركزة على المفارقة بين الماضي والحاضر: الماضي بنضاله، وتضحياته، وقهره. والحاضر ببرودته ومسخه.{2}
وبناء عليه، نجد المجموعة لا تخلو من السخرية كرهان من الرهانات التي يلعب عليها القاص في بناء نصوصه. ذلك أن السخرية استخفاف بما هو قائم، وتسعى إلى تنمية الرغبة في الضحك من تمظهرات الخطأ والعجز. فالسخرية حكم وتقييم، تهدف إلى تصحيح الأخطاء، وتقويم المعوج. وتعد سلاحا في مواجهة المسخ وجبروت القبح، وتسلط الرداءة.
فمن خلال السخرية... ننتقد بعض المؤسسات الاجتماعية والسياسية وبعض الشخصيات والسلوكات. وهو ما نلمسه في نصيص "المغارة" ص 3، على سبيل التمثيل لا الحصر، إذ يقف السارد وهو يوجه خطابه لشخية نصه، بطريقة فيها تهكم وسخرية، وقد اعتمد على بعد المغارة لإضفاء مزيد نقد لهذه الشخصية وقد وجدت نفسها أمام المال العام بشكل مباشر، فسارعت، وقد بهت ضميرها، وتسلطنت رغباتها، إلى النهب، رغبة في تنمية رصيدها المادي في مجتمع غير محصن، مما أدى إلى إفقار الكثيرين. وعليه، لم يجد السارد، ومن ورائه الكاتب، سوى سلاح السخرية لتقويم الوضع، وتصحيح الاختلالات، وعلينا أن ندرك أبعاد النصائح التي يمد بها السارد شخصيته، فهو لا يدعوه إلى تكنيز المال، بالسطو على المغارة، وإنما يدعوه إلى اتخاذ سبل الرحيل حتى يتخلص المجتمع من هذه الأشكال المنفرة.
تجليات الرؤية الايديولوجية:
وانطلاقا من بعد السخرية، ستتبين لنا رؤية الكاتب الايديولوجية، إنه يقف إلى جانب الفئات المهمشة في وجه التسلط ونهب الأموال. يختار لنفسه، كما في نص "على مرمى حجر" ص 11، السير في الاتجاه المعاكس للتيار، تيار الفساد. ويتبدى ملمح الرؤية الايديولجية بشكل أوضح في نص "الذهاب مع الريح" ص17، فتلك الشخصية المرصودة من طرف السارد، والتي نحس أن بينهما علاقة فكرية ووشيجة معرفية، تعاني من التهميش، وهي التي تحمل أفكارا ثورية تريد بها تغيير منطق اللعبة السائدة، وقلبها لصالح الطبقة المسحوقة، فلباسها يدل على أنها قد اتخذت بعد الرفض، وجاهزية الحركة، والتصاقها بالفئة المستضعفة: ترتدي سترة كاكية وشعرها الأسود القصير ملفوف ومشدود إلى الوراء، كأنها لم تتغير منذ ذاك الوقت، كأنها لم تغير في نفسها شيئا، القامة المتوسطة المنحنية والحذاء الرياضي ةالدجين الأزرق المصبن...ص 17. وقد كانت نشيطة في الحياة المدنية والسياسية والمهنية...ص 18. إنها علامات دالة على المرأة المناضلة التي وهبت نفسها للدفاع عن القيم الإيجابية، وتحقيق عالم يسمو فيه الإنسان، وتتحقق كرامته.
خاتمة مؤقتة:
تسير المجموعة باتجاه البحث عن شكل كتابي قادر على التعبير عن المرحلة الراهنة باختلالاتها، وتموجاتها، وصعوباتها، وقادرة على إظهار شخصياتها في تشظيهم، وما يعتري أنفسهم من تمزقات؛ وقد صاغت قصصها بأسلوب يجمع بين السرد واللغة الشاعرية في توليفة شهية وذكية. ولهذا، حفلت بالحلم، وصاغت بعض نصوصها على شكل لوحات متنافرة مظهرا، متآلفة جوهرا؛ كما حاورت نفسها، ووقفت تتأمل ذاتها، ناقدة ومصححة.
لقد نجحت الإضمامة في كسب رهانها، باعتماد تقنيات كتابية جديدة، مثيرة ومدهشة. ويحق لنا أن نقول: إنها مجموعة قصصية جديرة بالمتابعة، والقراءة، والنقد.
.......................
{1} الكتابة والحفر؛ دراسة لحكايات أرذل العمر لمحمد المهدي السقال، تأليف: محمد داني، مطبعة ووراقة البوغاز، الطبعة الأولى، سنة 2016، الصفحة 71.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.