يجمع المغاربة وخاصة المهتمون منهم بالشأن السياسي على أن من بين أبرز المشاكل التي تتخبط فيها بلادنا، وتنسف المجهودات الرامية إلى إحداث الإصلاحات المتوخاة وتحقيق التنمية الشاملة، هناك استفحال ظاهرة الفساد والريع، وضعف الإدارة العمومية التي تعاني من اختلالات بنيوية وهيكلية منذ عدة سنوات، جراء غياب الحكامة وتعقيد المساطر، تدني المردودية من حيث النجاعة في الأداء وجودة الخدمات.حيث أن الكثير ممن تسند إليهم المسؤولية في المناصب العليا دون مستوى تطلعات الجماهير الشعبية، لافتقارهم إلى الخبرة الكافية والطموح اللازم، فضلا عن انعدام روح المواطنة والشعور بالمسؤولية والتحلي بقيم النزاهة والاستقامة… ولعل من بين أقوى الشهادات حول الاختلالات القائمة، تلك التي انطلق صداها صاخبا من داخل مجلس النواب يوم الإثنين 27 دجنبر 2020، عبر مداخلة محمد بنشعبون وزير الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة أمام لجنة العدل والتشريع، الذي أقر بعكس ما يدعيه سعد الدين العثماني رئيس الحكومة والأمين العام لحزب العدالة والتنمية، من أن التعيين بالمناصب السامية تراعى فيه الكفاءة والاستحقاق والشفافية، وأن جميع المعينين بها يعتبرون بمثابة زبدة الإدارة. إذ أوضح (الوزير) أن تلك التعيينات يشوبها نوع من المحاباة حد "الخشونة"، مؤكدا بذلك الانتقادات الملكية السابقة للإدارة العمومية والنخبة السياسية، واتهامات بعض أحزاب المعارضة للحكومة بغياب الشفافية اللازمة، والاعتماد فقط على منطق حزبي ضيق، يقتصر على تبادل المصالح بين أحزاب الائتلاف الحكومي… فعن أي "زبدة الإدارة" يتحدث رئيس الحكومة، إذا كان الجميع يعلم أن التعيين في المناصب السامية، لا يخضع في الغالب الأعم لمعايير الكفاءة والاستحقاق بقدر ما يمر عبر المحسوبية والمحاباة والواسطة ووفق شروط توضع على مقاس الأشخاص المحظوظين، مما حول اٌلإدارات العمومية إلى شبه ملحقات وفروع حزبية. والدليل على ذلك أن عددا من الذين أسقطوا بالمظلات، لم يعملوا سوى على مراكمة الفشل في عديد القطاعات، فيما تورط آخرون في عدة تجاوزات وفضائح، عجلت بإعفائهم دون ملاحقات قضائية؟ أبهكذا أسلوب يمكن الارتقاء بمستوى الإدارة والرفع من جودة الخدمات، وإعادة الثقة للمواطنين في المؤسسات؟ ثم أين نحن من المساواة وتكافؤ الفرص بين أبناء الوطن؟ وأي قيمة مضافة عرفتها الإدراة العمومية في عهد "البيجيدي" وبعد إقرار دستور 2011؟ والمحسوبية أو المحاباة أو الواسطة هي من أبشع المظاهر السلبية، التي يفترض في العثماني أن يكون على إلمام واسع بآثارها السيئة على البلاد والعباد، باعتباره رئيسا للحكومة وأمينا عاما لحزب ذي مرجعية إسلامية يقود الحكومة لولايتين متتاليتين. لاسيما أن سيد الخلق عليه الصلاة والسلام كان يحذر من إسناد المسؤوليات لغير مستحقيها، بقوله: "إذا أسندت الأمور إلى غير أهلها، فانتظروا الساعة". لأن اعتماد منطق القرابة أو الصداقة أو الانتماء الحزبي وغيره في التعيين بالمناصب العليا دون الالتزام بمعايير الكفاءة والاستحقاق، لن يعمل سوى على تكريس المزيد من التخلف وتأزيم الأوضاع، إذ فضلا عن كونه سطوا على حقوق أشخاص أبرياء ومنحها لغيرهم، يعد قهرا واغتصابا مرفوضين. فشهادة الوزير بنشعبون حول ما تعرفه التعيينات في المناصب العليا من "خشونة"، انطلقت مع الحكومة السابقة بقيادة الأمين العام السابق لحزب العدالة والتنمية، الذي لم يجد من وسيلة لمكافحة الفساد سوى رفع شعار: "عفا الله عما سلف"، تدحض مزاعم ما ظل يردده العثماني من كون حكومته ستسعى جاهدة إلى تجاوز اختلالات الماضي والحرص على تخليق الحياة العامة وترسيخ مبادئ الشفافية والكفاءة والاستحقاق والإنصاف، وإحداث قطيعة حقيقية مع مختلف التصورات النمطية التي تجعل من الإدارة عائقا أمام أي تطور أو تحديث، وإلا كيف يمكن تفسير هذا الفيض من التعيينات المشبوهة والسماح بعودة الفاشلين لتحمل المسؤولية في قطاعات أخرى؟ وهي أيضا شهادة قوية تعد بمثابة "رد صدى" لما ورد في تقرير مؤسسة وسيط المملكة برسم سنة 2019 المرفوع مؤخرا إلى أنظار الملك، كاشفا عن اتساع الفجوة بين المواطن والإدارة العمومية… من هنا يتضح جليا بأن حكومتي حزب العدالة والتنمية حرصتا فقط منذ الوصول إلى سدة الحكم على استغلال القانون التنظيمي المتعلق بالتعيين في المناصب العليا بما يخدم المصلحة الحزبية الضيقة، بهدف بسط هيمنته على المرفق العمومي، حيث أنهما عمدتا بشكل تعسفي إلى الالتفاف على المساطر القانونية ومنح الوزراء حق التعيين المباشر خارج إطار التنافسية وتكافؤ الفرص، مما أدى إلى إفراغ الإدارة من عديد الكفاءات المستقلة وغيرها وتعويضها بالمنتمين للحزب والموالين له حتى وإن كانوا دون مستوى تحمل المسؤولية، حيث تم تعيين قرابة 1300 شخصية عمومية من كتاب عامين ومديرين عامين ومفتشين عامين ومهندسين وغيرهم بناء على مراسيم خاصة برئاسة الحكومة… إن شهادة الوزير بنشعبون إزاء ما يحدث من محاباة في التعيين بالمناصب العليا، تدعو إلى وقفة تأمل حقيقية من أجل إعادة قراءة القانون التنظيمي رقم 12.02، الذي اتضح أنه تعوزه الدقة في تنزيل المبادئ الدستورية، وتعتريه عدة نقائص تحول دون التنزيل الفعلي للحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة والنجاعة في تدبير المرفق العمومي و تجويد الخدمات، كما تعبر عن ذلك عديد التعيينات غير الموفقة. ولم لا يتم التفكير في إحداث هيئة مستقلة أو مصلحة مركزية تحدد بتجرد أهم المواصفات المطلوبة في المرشحين، لإنهاء إشكالية المناصب العليا التي ما انفكت تثير الكثير من الجدل؟